غزة... المرأة وأزمة الدولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

لا يمكن تفسير ما جرى في غزة خلال العامين الماضيين كحرب عابرة؛ فآثارها كشفت عن تفاقم عنف الدولة الذي دفع المجتمع، وخاصة النساء، نحو الدمار. لقد تجاوزت الحرب كل الحدود، مستهدفةً أجساد النساء وكرامتهن وقيمهن الإنسانية.

نغم كراجة

غزة ـ منذ اندلاع حرب السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، تعيش المرأة الفلسطينية في قطاع غزة واحدة من أصعب الفترات وأكثرها تعقيدًا في تاريخها. فقد تعطلت، ولا تزال، أدوارها، وتفكك النسيج الاجتماعي. فوجدت المرأة الفلسطينية نفسها فجأة في جحيم حرب ليست جحيمها.

لقد أُهملت مسؤولياتهن الاجتماعية وواجباتهن تجاه أطفالهن، وجُررن فعلياً إلى عملية إبادة جماعية. ما يحدث في غزة اليوم وصمة عار في جبين البشرية جمعاء، وحربٌ سافرة على النساء. لم يسبق في التاريخ أن دُفعت النساء إلى مثل هذه المأساة العميقة.

خلال عامين كاملين من الحرب الممتدة حتى تشرين الثاني/نوفمبر 2025، كشّف المشهد الإنساني والاجتماعي والسياسي عن واقعٍ مريرٍ للنساء، لم يقتصر الأمر على حصرهن في رموز نمطية للتمييز على أساس الجنس، بل واجهن أيضاً إقصاءً يستهدف هوياتهن الجسدية والروحية والوجودية.

في حين برز انعدام أبسط شروط الأمن في الحياة اليومية كشكل من أشكال الإقصاء، برز استبعادهن من التمثيل في آليات صنع القرار والمفاوضات والعمليات السياسية المتعلقة بمستقبلهن ومدنهن المدمرة كشكل آخر من أشكال الإقصاء.

 

حصاد أوضاع المرأة

لم تعد كلمة "معاناة" كافية لوصف ما حلّ بالنساء في قطاع غزة خلال أكثر من عامين من القصف المتواصل، الحصار، والنزوح المتكرر، تحوّل واقع المرأة إلى مزيج من الصدمات المتراكمة: خسارة الأحباء، تآكل الخدمات الصحية، انعدام الأمن الغذائي، تآكل الحماية القانونية، وقبول مؤسسات حقوق الإنسان بالوضع الراهن، وتفشّي مظاهر اجتماعية كانت محاربة سابقاً، والزيادة الملحوظة في اغتصاب النساء والفتيات وإساءة معاملتهن في ظل ظروف الحرب.

هذا الملف يرصد عامين من الانهيار المؤسسي والاجتماعي والاقتصادي والنفسي، ويعرض حصاد الأحداث والنتائج على مستويات يومية وحياتية.

 

الصدمة الأولى وانهيار الخدمات

مع بدء الحرب تحوّل قطاع واسع من المجتمع المدني إلى فضاء طوارئ دائم؛ آلاف العائلات نزحت مراراً، المستشفيات تكتظ بالجرحى والمصابين، والمرافق الصحية توقفت أو تعرَّضت لأضرار جسيمة، الهجوم على البنية التحتية الصحية لم يكن جانبياً: أرقام منظمة الصحة العالمية تُظهر مئات الحوادث التي استهدفت المنشآت الصحية والعاملين الصحيين خلال الفترة التالية لبدء الحرب، مع مئات القتلى والمصابين بين العاملين والمرضى نتيجة هجمات متكررة وتقييدات على الحركة والوصول للمستلزمات الطبية، هذه الخسائر انعكست على قدرة الحوامل والمرضعات في الحصول على رعاية آمنة، وارتفعت حالات الولادة خارج المرافق الصحية والمضاعفات المرتبطة بنقص الرعاية. 

تشير البيانات العامة إلى أنّ 55,500 امرأة حامل ومرضع قد انتقلن إلى مستوى الخطر الناتج عن سوء التغذية.

 

العنف الأسري المتزايد مع اندلاع الحرب

 مراكز الدعم النفسي والاجتماعي تقلّصت أو أُغلقت، وخدمات منع العنف والاستجابة لحالات العنف القائم على النوع الاجتماعي (GBV) أصبحت متقطعة أو محدودة للغاية، تقارير جهات متخصّصة رصدت ارتفاعاً محسوساً في معدلات العنف الأسري واستغلال الفتيات، وصعوبة الوصول إلى خدمات الاستجابة والحماية. 

بالمقابل تحوّلت النساء في خضم الفوضى إلى الركيزة الأساسية للأسر فالمرأة هي التي تنظّم صفوف الحياة في الخيام، وتواسي الأطفال، وتدير شؤون الأسرة رغم انعدام الموارد، لكنها بنفس الوقت تعاني من اضطرابات ما بعد الصدمة، والشعور المزمن بالخوف والعزلة، بسبب فقدان الأبناء أو الأزواج أو الأحباء، دون وجود أي منظومة دعم فعّالة تعيد إليها التوازن.

وأظهرت استطلاعات محلية أنّ 9 من كل 10 نساء في مراكز الإيواء تعانين من أعراضٍ نفسية حادة، بينها الأرق والكوابيس والقلق في ظل غياب أي برامج موجهة لاحتوائهن.

 

تفاقم الانهيار الاجتماعي والاقتصادي

في السنة الثانية من الحرب، وتقريباً منذ منتصف 2024 إلى أواخر 2025، تفاقم النخر الاجتماعي والاقتصادي مع استمرار الحرب وتحولها إلى صراع مطوَّل، مما أدى إلى تفاقم الانهيار الاجتماعي والاقتصادي. ووصل ارتفاع معدلات الجوع إلى مستويات كارثية من المجاعة، مما أدى إلى سوء التغذية بين الأطفال والحوامل، وزيادة حادة في عدد الأطفال والنساء الذين يموتون جوعاً، علاوة على ذلك، أثرت مشاكل صحية خطيرة على غالبية السكان.

وتشير تقديرات المنظمات الإنسانية وآليات رصد الأمن الغذائي إلى أن شريحة كبيرة من السكان تعاني من انعدام الأمن الغذائي الذي يتراوح بين "الطوارئ" و"الكارثة"، وأن النساء والأطفال هم الأكثر تضرراً. ووفقاً لإحدى الدراسات، توفي 175 شخصاً بسبب الجوع منذ بداية الحرب، منهم 93 طفلاً، وقد أعلنت الأمم المتحدة رسمياً أن الوضع في غزة قد وصل إلى مستوى المجاعة.

اقتصادياً، غياب الدخل واندحار سوق العمل دفع نساء كثيرات إلى تحمل أعباء اقتصادية قاسية تمثلت في التوجه إلى العمل المؤقت، أو بيع ممتلكات متواضعة، أو الدخول في ترتيبات زواج مبكرة كوسيلة لتقليل الأعباء المعيشية، مؤسسات محلية وأممية وثّقت ارتفاعاً ملحوظاً في حالات زواج القاصرات داخل المخيمات ومجمعات الإيواء مع آثار نفسية وصحية وتعليمية سلبية على الفتيات (معدلات ما قبل الحرب كانت مرتفعة بالفعل في بعض مناطق غزة، لكن الحرب زادت من الضغوط الدافعة إلى هذا الخيار). 

كما تدهورت حياة العاملات بشكل غير مسبوق فأكثر من 70% من النساء فقدن وظائفهن أو مصادر دخلهن الصغيرة نتيجة تدمير المنشآت التجارية والخدمية، وانهيار القطاعات الإنتاجية، وتوقفت المشاريع النسوية الصغيرة التي شكّلت قبل الحرب شريان حياةٍ للكثير من العائلات، مثل الخياطة والحرف اليدوية والمشاغل المنزلية، ومع تواصل الحصار وانعدام المواد الخام، تحوّلت النساء إلى البحث عن بدائل بدائية للبقاء، من صناعة الخبز على الحطب إلى تجميع الخردة وبيعها.

تعرضت النساء في غزة إما للمجازر أو لصدمات نفسية عميقة، يمكن وصفها بالوباء تمثل بالاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، بالمقابل الخدمات النفسية متقطعة أو غير متوفرة. الفتيات والنساء المسنات على حدّ سواء أبلغن عن مستويات عالية من القلق، الكوابيس، وعدم القدرة على التخطيط للمستقبل. نقص الدعم النفسي، وغياب الخصوصية، وزيادة الواجبات اليومية خلق حلقة مفرغة من الإجهاد المزمن، تُشير التقارير إلى أن 75 % من النساء في غزة تشعرن باكتئاب منتظم، و62 % تعانين من الأرق، و65 % من كوابيس واضطرابات القلق.

 

  التسلسل الزمني للولادة في خضمّ أشدّ الحروب وحشيةً

يُظهر التسلسل الزمني للولادة في خضمّ أشدّ الحروب وحشيةً صورةً مأساويةً. خدمات الرعاية الصحية للحوامل اللواتي يعانين من صدماتٍ نفسيةٍ عميقةٍ شبه معدومة. وكما يزيد زواج الأطفال والحمل في ظلّ ظروف الحرب من المخاطر، فقد بلغ تأثير ارتفاع حالات الاغتصاب مستوىً لا يُمكن تجاهله، وقد برزت مخاطرٌ أعلى بكثيرٍ على الأمهات والمواليد أثناء الحمل والولادة، وتتزايد معدلات الولادات غير الآمنة وغير المُتحكّم فيها بسرعة. وقد وثقت منظمة الصحة العالمية والمنظمات ذات الصلة على نطاق واسع الهجمات على المرافق الصحية وتأثيرها المباشر على القدرة على تقديم الرعاية الصحية الطارئة أو العادية.

وتقول الناشطة الإعلامية في الشأن الاجتماعي هبة كريزم تعليقاً على أزمة غزة متعددة الأبعاد أنها عنف مضاعف ضد المرأة وهي شكل من أشكال العنف الذي يجب مجابهته في اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة وحملة الـ 16 يوماً المرتبطة بها، مؤكدةً أن أوضاع النساء في غزة مأساوية للغاية، خاصة بعد حربٍ دامية استمرت نحو عامين وسط نزوحٍ حصارٍ وقصفٍ مكثف، لا سيما أوضاعهن الاجتماعية التي بدأت تتدهور منذ اليوم الأول في حرب السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 حتى يومنا هذا.

وتعتقد أن الفتيات هنّ من دفعن الثمن الأكبر "وثّقنا آلاف الحالات التي زوجّت فيها القاصرات في سنّ السادسة عشرة على الأقل، ووجدنا نتائجٍ سلبية عكست على القاصرات من بينها تدهور الوضع الصحي نتيجة الإجهاض، بالإضافة إلى اضطرار العديد منهن للانفصال دون الحصول على حقوقهن وسط الإذلال والإهانة، وزواجهن في بيئة غير مناسبة وعيشهن في الخيام في ظلّ انعدام أدنى المقومات الحياتية والخصوصية".

 

في تشابك العنف السياسي والاجتماعي، تسود الأبوية

في سياق الحرب والنزاع، يسود منطق السلطة الذكورية الذي يستغل التشرّد والفقر وانهيار الدعم المؤسسي ليُرسّخ هيمنته عبر العنف، العنف ضد النساء في غزة ليس مجرد ظاهرة جانبية بل أداة مزدوجة من جهة سياسية لنشر الخوف وكسر صمود المرأة، ومن جهة اجتماعية لفرض واقعٍ تهميشها اجتماعياً.

وتكشف الدراسات والتقييمات الميدانية أن غياب الردع القانوني، وانهيار النظام القضائي، والتخلي عن النساء في ظروف الحرب، يسهل إفلات الجناة من العقاب؛ وهذا بدوره يغذي العنف الذي تنتجه الحرب، ويجد لنفسه مساحة، ويديمه، ويتكرر، ويترك آثاراً خطيرة على نظام السلوك الاجتماعي ومستقبل الفتيات.

 

الحركة النسوية... انتكاسة وتأثير طويل الأمد

الحركة النسوية في غزة كانت فيما مضى أحد الأعمدة المجتمعية الفاعلة؛ أما اليوم تعرّضت للانكسار فمقرات دُمّرت، وقيد تحرّكها بشدة بسبب القيود المفروضة على الحركة عموماً، والموارد الموجّهة إليها قليلة جداً أو معدومة وسط تركيز الإعلام الدولي على الجانب الإغاثي لحظة بلحظة، وتجاهل الجانب الحقوقي والمؤسّسي.

المؤسسات النسوية المحلية تتعرض للتهديد، والمنظمات الدولية لم تستطع أن تسدّ فجوة الحماية أو تحوّل الضغط السياسي والدبلوماسي إلى صيانة فاعلة لحقوق المرأة، وإذا لم تُعد هذه الحركة إلى الصدارة، فإن المرأة ستفقد تمثيلاً حقيقياً في إدارة الأزمة وفيما بعد الحرب.

وتضاف إلى ذلك مؤشرات مدمّرة، على سبيل المثال، أوضح تقرير هيئة الأمم المتحدة للمرأة أن قرابة مليون امرأة وفتاة في غزة تواجهن مجاعة ومحرومات من الوصول إلى مياه نظيفة أو مراحيض عاملة أو مستلزمات النظافة الضرورية، وحوالي 84 % من المرافق الصحية في غزة تعرضت لأضرار أو دُمّرت، مما يزيد من هشاشة الوضع الصحي للنساء. علاوة على ذلك، وفي أسوأ الظروف، أُبلغ عن مقتل أكثر من 10271 امرأة في غزة حتى الآن خلال الحرب.

 

مقاعد النساء الشاغرة في عمليات إعادة الإعمار والتفاوض

إن مشاركة المرأة في المفاوضات والقرارات السياسية رفيعة المستوى، التي تُشكل أي تسوية أو عملية إعادة إعمار، محدودة للغاية أو معدومة. ويشير الخبراء وصانعو السياسات الدوليون إلى أن المرأة لا تتمتع بحضور بارز أو مؤثر في لجان التفاوض أو على طاولات اتخاذ القرارات المتعلقة بمستقبل غزة. ويُعد هذا جزءاً من نمط عالمي لاستبعاد المرأة من عمليات السلام، ويساهم في الفشل في تلبية احتياجات مجتمع هشّ بفعل الحرب.

تعليقاً على هذا الإقصاء تقول المحللة السياسية تمارا الحداد أن "استبعاد النساء اليوم من طاولات التفاوض ومن لجان التخطيط لإعادة الإعمار ليس غياباً شكلياً فحسب، بل هو عملية سياسية لها نتائج ملموسة تتمثل في إعادة الإعمار التي تُبنى بلا حضور نسائي ستحفر بها فجوات اجتماعية جديدة، وستُهدر فرص تحويل البنية إلى بنية تضامنية تحفظ الحقوق الصحية والتعليمية والاقتصادية للنساء، إذا أردنا غزّة قادرة على التعافي، فيجب أن تكون النساء شريكات في صنع القرار، لا عناصر تكميلية على هامش الخريطة".

 

دائرة قهرٍ مضاعف وظواهر اجتماعية خطيرة

منذ اشتداد الحرب في غزة، برزت ظواهر اجتماعية خطيرة طالت النساء والفتيات، من أبرزها زواج القاصرات وانتشار التحرش والاستغلال الجنسي داخل بيئة النزوح والمخيمات، وهي قضايا غالباً ما تُغطّى بالصمت والخوف والوصم المجتمعي.

لقد أدّت حالة الانهيار العام، والفقر، وانعدام الأمان، وغياب الرقابة القانونية إلى تفكك منظومة الحماية الاجتماعية التي كانت تحُدّ من هذه الممارسات قبل الحرب، واليوم، تكشف التقارير الحقوقية عن وجهٍ آخر للمعاناة النسائية في غزة وجهٍ لا تصنعه القذائف وحدها، بل أيضاً الضغوط المعيشية والنظرة القاسية للمرأة كعبءٍ يمكن التخلص منه أو استغلاله.

بعد عام من الحرب، تُظهر بيانات منظمات حقوق المرأة المحلية ارتفاعاً ملحوظاً وغير مسبوق في معدلات زواج الأطفال في عامي 2024 و2025 مقارنةً بمستويات ما قبل الحرب، وقد حدثت العديد من هذه الزيجات خارج المحاكم الرسمية، في بيئات هجرة مغلقة يصعب فيها الوصول إلى المؤسسات القانونية أو الإدارية. وترى الأسر المهددة بالجوع والنزوح في تزويج بناتها وسيلةً لتخفيف العبء الواقع عليها أو شكلاً من أشكال "الحماية" من الوحدة والخوف في المخيمات. بل إن هناك حالات أُجبرت فيها فتيات لا تتجاوز أعمارهن 15 عاماً على الزواج من رجال يكبرنهن بعقود، دون وعي بحقوقهن أو القدرة على إدراك عواقب الوضع المفروض عليهن. هذه الظاهرة ليست خياراً اجتماعياً؛ بل هي نتيجة انهيار نظام العدالة، وعجز المنظمات النسائية عن التدخل في مناطق النزوح، وتجاهل الحرب التام لحقوق المرأة ووجودها.

تتفاقم أيضاً حالات الإساءة والاغتصاب. فقد ازدادت حالات الضغط للحصول على المساعدة في الملاجئ ومناطق النزوح المزدحمة، والتحرش والاغتصاب في دورات المياه المشتركة أو أماكن الاغتسال، والإساءة في طوابير الماء والطعام. ووفقاً لشهادات موثقة من منظمات محلية، تلتزم العديد من النساء والفتيات الصمت خوفاً من فضح هذه الانتهاكات أو الوصم أو الانتقام، ولا توجد تقريباً أي ملاذات آمنة أو مراكز متخصصة يمكنهن اللجوء إليها.

أدى انعدام الخصوصية الذي توفره الخيام وانعدام الإضاءة ليلاً إلى تفاقم المخاطر التي تواجهها النساء. وتشير المنظمات النسائية إلى زيادة ملحوظة في الشكاوى غير الرسمية المتعلقة بالتحرش والتهديدات في المخيمات، إلا أنه لا تُتخذ تدابير فعالة لردع الجناة.

وفي بعض الحالات، أُبلغ عن حالات اعتداء نتيجةً للفوضى الناجمة عن النزوح وانهيار النظام الاجتماعي، لا سيما في المناطق التي يتنقل فيها السكان على دفعات، وكثيراً ما تُجبر الضحايا على الصمت أو الزواج من الجاني لتجنب "العار".

 

وهذا يُوقع النساء والفتيات في دوامة مزدوجة من القمع: قمع الحرب والتقاليد. وتُؤكد المنظمات النسائية أن الأرقام المُبلغ عنها لا تعكس سوى جزء ضئيل من الحقيقة، إذ إن الغالبية العظمى من الضحايا لا يستطعن ​​التحدث عن تجاربهن ولا يجدن أي سلطة تحميهن.

 

الجسد الأنثوي: جبهة أخرى في الحرب

وفي تعليقها على هذه التحولات الاجتماعية، تقول المحللة السياسية تمارا الحداد "المرأة في غزة تُدفع اليوم إلى حافة الانهيار الأخلاقي والاجتماعي، نحن لا نتحدث فقط عن حربٍ عسكرية بل عن حربٍ تُعيد تشكيل المجتمع على أسسٍ قاسية، تُكرّس فيها الأبوية والعنف. فحين تُجبر فتاة قاصر على الزواج لتأمين لقمة العيش، أو تُضطر امرأة للصمت على تحرشٍ خوفاً من العار، هذا يعني أن الحرب تجاوزت حدود السلاح إلى حدود الجسد والكرامة، ومن المؤسف أنّ هذه القضايا لا تجد أي تمثيل في لجان المفاوضات أو الخطط السياسية، وكأن معاناة النساء لا تستحق أن تكون بنداً على جدول مستقبل غزة".

لم تُخلّف الحرب دماراً مادياً فحسب، بل أشعلت وعمّقت أزمات أخلاقية واجتماعية مترابطة، أصبحت أجساد النساء ساحة صراع أخرى، وأُجبرت الفتيات على تحمّل مسؤوليات تتجاوز أعمارهن بكثير. في مجتمعٍ منهكٍ بالحرب، وفي ظلّ حكومةٍ منشغلةٍ ببقائها بدلاً من حماية مواطنيها، فإنّ الخطوة الأولى لمعالجة هذه الكوارث هي دراسة أزمة الشرق الأوسط والحرب الفلسطينية الإسرائيلية من جذورها. مع أنّ هذه الحرب ليست حرباً نسائية، إلا أنّه إذا كانت النساء متورطاتٍ فيها، فيجب تفسيرها على أنها حربٌ شنّها عليهنّ رجال هذا القرن المسيطرون. بالنظر إلى النتائج والأهداف، يُمكن ملاحظة أنّ هذه الحرب تؤثر بشكلٍ مباشر على وجود المرأة وعلى نموذج النظام الذي تسعى إسرائيل إلى تصميمه في الشرق الأوسط. تهدف إسرائيل من خلال هذه الحرب إلى تغيير خرائط الشرق الأوسط ونظامه. هذا يعني أنّ النظام الذي تسعى إلى إرسائه هو تجلٍّ مستمرّ لعقلية الدولة الذكورية.

 

إحصائيات الأخيرة

خلفت الحرب 69,564 قتيلاً معظمهم نساء وأطفال، و170,833 مصاباً ومصابة، منهم من فقد أحد أعضائه، وحتى بعد قرار وقف إطلاق النار قتلت القوات الإسرائيلية أكثر من 312  شخصاً وتسببت بإصابة 760 آخرين.

في الواقع، تتمتع المرأة الفلسطينية بقوة هائلة؛ فقد برهنت مراراً وتكراراً على قدرتها الاستثنائية على المقاومة، وإبداعها الاجتماعي، ومبادراتها في التعليم والمساعدات الإنسانية والرعاية الصحية. ومع ذلك، إذا أُهملت حقوق المرأة والحقوق الاجتماعية في حل أزمة غزة، فإن الأزمة، مهما بدت مُحَلّة، تُهدد بالتفاقم. في هذا السياق، يُمكن التغلب على أزمة الشرق الأوسط، وتحديداً أزمة غزة، من خلال مجتمعات وأنظمة ديمقراطية ذات دساتير ديمقراطية. لذلك، لا تُعتبر المرأة مجرد ضحية حرب؛ بل يجب اعتبارها شريكاً أساسياً في إعادة الإعمار بعد الحرب.