اسم قصتي هي جبال شنكال (1)

هاجر الإيزيديون من سهل نينوى إلى جبال شنكال منذ قرون واستقروا في تلك البقعة الجغرافية. هناك 20 بلدة وناحيتين ومئات القرى التابعة لمركز شنكال في المناطق التي استقر فيها الإيزيديون

روجبين دنيز
شنكال -
في الثالث من شهر آب/أغسطس عام 2014 هاجم داعش الإيزيديين في البداية من جهة القبلة. فجهة القبلة قريبة من تلعفر وبعجة ومئات القرى العربية. هذه المنطقة تسمى الشمال أو الجنوب أو القبلة أو الشرق من قبل المجتمعات التي تعيش في شنكال. أولئك الذين يعيشون على الجانب الجنوبي من جبل شنكال الذي يسميه الإيزيدون الشمال، بدأوا في التحرك وأخذ التدابير بعد سماع أنباء عما كان يحدث في ذلك الوقت، لكن العديد من الإيزيديين الذين لم يصدقوا وصول داعش إلى الشمال وقعوا أسرى في قبضته.
تأسست قرية حردان الواقعة جنوب الشمال والتي يبلغ عدد سكانها 1700 نسمة عام 1952. تحيط القرى العربية بحردان من ثلاثة جهات. غالبية سكان هم من الإيزيديين من جنوب كردستان، وبعضهم هاجر من شمال كردستان إلى شنكال بسبب حملات الإبادة التي تعرضوا لها. وينتمي أهالي هذه القرية إلى عشائر ميرخا وكوفاكاني ودافوتية.
 
تم التخلي عن أولئك الذين كانوا يعملون لصالح حزب PDK في حردان أثناء الفرمان
عمل معظم أهالي حردان مع البيشمركة قبل الفرمان. وبعد الفرمان عمل بعض الأشخاص في القرية مع قاسم ششو وحيدر ششو بسبب الخوف من الحزب الديمقراطي الكردستاني PDK. هذين الشخصين كانا ممثلين عن الحزب في المنطقة. وقع 480 شخصاً من القرية في أيدي داعش. على الرغم من مرور سنوات عدة لكن لا يزال مصير العديد منهم مجهولاً. ومن المعروف أن أكثر من نصف الأشخاص المفقودين كانوا يعملون مع الحزب.
 
هل تدفع الأمهات فقط ثمن هذه الأرض؟
يمر الطريق المؤدي إلى قرية حردان عبر قرية كرشبك العربية. بعد أن مررنا بقرية كرشبك، وبعد مسافة قصيرة وصلنا إلى منزل مدمر. إنه منزل مهدم بالكامل. في قرية شبك يحتوي كل بيت، وقلب كل أم على حزن كبير بسبب الفرمان الذي حدث قبل سبع سنوات. في حردان وعدا المنازل المدمرة، واجهنا صمتاً يشبه الموت. دخل الخوف إلى قلوبنا. مررنا أمام البيوت المدمرة ودخلنا القرية. بعد أن اجتزنا هذه البيوت، لفتت ثلاث نساء يجلسن أمام باب أحد الحدائق المنزلية أنظارنا. فتوجهنا إليهن. 
تبدو هؤلاء الأمهات حزينات للغاية لدرجة أننا نشهد اللون الأحمر في عيونهن. لماذا الآلام على وجه الأرض لا تكون إلا من نصيب الأمهات؟ هل تدفع الأمهات فقط ثمن هذه الأرض؟
تبدو الأمهات الثلاث بأغطية رؤوسهن البيضاء وشعرهن المجدول خلف رؤوسهن، وكأنهن دفعن ثمن فرمان قرية حردان من جدائلهن. كل واحدة منهن تضع يدها على قلبها وكأنها تحمي وتحافظ على الذكريات الموجودة فيه. من المحتمل أن كل واحد منهن قد أمسكت بأيدي أطفالها القتلى.
 
خلف أي باب تطرقه تجد أم باكية
ليلى جلال، سيفي وبيبون... يبدون وهن ينظرن وكأنهن يقدننا إلى المستقبل على خطى تجاربهن وقصصهن. ألمهن عظيم لدرجة أن العالم كله يخجل منهن. 
من بين هذه الأمهات الثلاث كانت الأم سيفي مع بناتها الثلاث وأبنائها الستة وزوجها قد وقعوا في قبضة داعش. تحررت هي وبناتها الثلاث وأثنين من أبنائها ولكنها إلى الآن لا تعرف مكان زوجها وأبنائها الأربعة الباقين. تقول "أريد أولادي الذين عملت بجد كبير حتى أرعاهم وأربيهم".
كما وقع العديد من أفراد عائلة بيبون في أيدي داعش. لم تتلق أي معلومات عن ابنها منذ سبع سنوات. أما ليلى جلال فقد وقع ولداها وشقيقتها والعديد من أفراد عائلتها في أيدي داعش يوم الفرمان. التفتت ليلى جلال إلينا وقالت "هل ترون قرية حردان هذه؟  ستجدون أماً باكية وعيناها مليئتان بالدموع خلف أي باب تطرقونه". 
 
"مزق صراخ بناتي غشاء أذني"
وصفت سيفي الأشياء التي رأتها والأحداث التي عاشتها "الأمر صعب جداً بالنسبة لي. لا أستطيع تحمله. عندما أخذوا أطفالي بعيداً، لا أعرف ما حدث لي. قبضوا على جميع أطفالي في مدرسة في تلعفر وأخذوهم. جثوت على ركبتيّ على الأرض وبكيت لساعات واضعة رأسي ووجهي على أرضية خرسانية لكن نار قلبي لم تنطفأ، لقد تمزق قلبي. كما مزق صراخ واستغاثة بناتي غشاء أذني. أنتم الآن ترون أجسادنا ولكن قلوبنا محطمة وممزقة، لم يتبقى أي سلام أو راحة في قلوبنا، لقد ضللنا طريقنا. ماذا يمكنني أن أقول أكثر". 
عندما كانت سيفي تتحدث عن ألمها، عادت الأمهات الأخريات أيضاً بالزمن إلى الوراء وتذكرن الأشياء التي عشنها.
 
إلقاء نظرة على شنكال من منزل ليلى جلال 
قالت ليلى جلال "يجب أن يعرف الجميع ما حدث يوم الفرمان في قرية حردان. أريد أن أتحدث ولكن ليس من أجلي فقط بل من أجل كل أهالي حردان، أريد أن أتحدث نيابة عنهم جميعاً". بعد أن ودعنا كل من بيبون وسيفي، ذهبنا معها إلى منزلها. في البداية أخذتنا ليلى جلال إلى سطح منزلها ومن هناك أشارت إلى منازل أولادها ومنازل القرية المدمرة. ثم التفت إلى الجبال وقالت "هل تعلمون أن هذه الجبال حمت الإيزيديين. لو لم تكن شنكال موجودة لما كان هناك إيزيديون لأن أصولهم تعود إلى الجبال. ليعلم الجميع هذا موطننا وتاريخنا، نحن ننتمي إلى هذا المكان ولن نتركه أبداً".
 
"قصتي مثل قصة كل شخص"
وصفت ليلى جلال علاقة الإيزيديين بالجبال كثيراً. قاطعناها وقلنا "سنبدأ الآن قصتك، قصة قرية حردان. ماذا تحبين أن يكون اسم القصة؟" قالت بنبرة صوت حاسمة؛ "ليكن اسم قصتي جبل شنكال. فقصتي هي قصتنا جميعاً. وألمي هو ألم كل الإيزيديين. عندما يروي كل إيزيدي قصته في الحقيقة هو يروي ويتحدث عن قصص وتجارب جميع الإيزيديين فقصصهم جميعاً واحدة". 
وأضافت "أنا ليلى جلال من قرية حردان. أعيش في هذه القرية منذ أربعين عام. أنا في الأصل من قرية زورافا. وبعد أن تزوجت أتيت إلى هنا. كانت الحياة صعبة للغاية في الماضي، وكانت الظروف المعيشية صعبة جداً، لكن العلاقات والحياة المشتركة كانت أفضل بكثير حينها. كنا سبع أخوات وكنا كالأصدقاء. أنا أكبرهم، لذا قمت برعايتهم جميعاً. كانت والدتي تذهب للعمل وتجمع القش والحطب في الجبال. ولأنني كنت الطفلة الأكبر كنت أخدم وأرعى أخواتي الصغيرات. وأختي التي هي الآن في قبضة داعش تعتبرني أماً وأختاً لها. لكل واحدة منهن مكانة في قلبي. قضينا معظم حياتنا في الجبال. كانت الظروف صعبة ولكن علاقاتنا كانت سبب سعادتنا وسلامنا. في حردان كنا نعمل جميعاً ونزرع القمح ونطحنه. في بعض الأحيان كنا نصنع 100 طوبة في اليوم، حيث نجمع التراب بواسطة العربة اليدوية، ونحضر الماء من الوادي. بالإضافة إلى هذه الأعمال، كنا جميعاً أمهات، وكان لدينا أطفال نرعاهم ونهتم بتربيتهم. لذلك كانت الحياة أصعب على النساء. أبناؤنا الذين رعيناهم بالعمل الشاق والصعب جداً وقعوا أسرى في قبضة داعش بين ليلة وضحاها!".
 
"لم نتوقع أبداً أن يخونونا"
"في قرية حردان كان مفهوم الحياة المشتركة موجوداً. وكل شخص يفكر بالآخر كما لو كنا جميعاً أقارب. ولدينا علاقات جيدة جداً مع القرى المجاورة. سكان تلك القرى كلهم من العرب. يأتون إلى أعيادنا وأفراحنا وأتراحنا، ونحن أيضاً نذهب إلى مناسباتهم. كان أطفالهم يدرسون في مدرسة قريتنا. لم نتوقع أبداً أن يخونونا. عندما هاجم داعش من جهة القبلة، قال لنا القرويون المجاورون "لا تخافوا لن يحدث لكم شيء، لا تذهبوا إلى أي مكان". ونحن صدقنا ذلك. إلى الجنوب من قرية حردان كانت قرية فرا لينا، وإلى الشرق كانت قرية حجي فاضل، وإلى الشمال كانت قرية كر شبك. كانت كر شبك مخرج قريتنا، أي على الطريق المؤدية إلى حردان. عندما هاجم داعش، انضم سكان تلك القرى جميعاً إلى داعش".
 
"عندما استيقظنا يوم الفرمان، رأينا البشمركة قد غادروا"
تقول ليلى جلال أنه قبل الفرمان، كان هناك حاجز لبيشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني PDK على الطريق المؤدية إلى قريتهم. "كانت الاتصالات الهاتفية ترد من جهة القبلة ويقولون إن البشمركة تركونا وتخلوا عنا. أهربوا أنقذوا حياتكم، اخرجوا من بين العرب، لقد خانونا هنا وسوف يفعلون نفس الشيء معكم. كان كلامهم صحيحاً. وعندما استيقظنا في الصباح رأينا أن البشمركة لم يكونوا في أماكنهم، ولم يقولوا لنا أي شيء وغادروا. كان هناك الكثير من الناس في قريتنا ممن يعملون مع البشمركة، لكن لم يخبروهم هم أيضاً بذلك. اتصلوا بعدة أشخاص فقط وقالوا، لا تذهبوا إلى أي مكان ستأتي قواتنا". 
هاجمت عصابات داعش قرية كوجو أولاً ثم جاءوا إلى قريتنا وهاجمونا مع القرويين سكان القرى العربية المحيطة بنا. دخلوا إلى القرية في الظهيرة، وقالوا لنا علقوا أقمشة بيضاء على منازلكم، لن نفعل لكم شيئاً ثم غادروا. ثم أخبرنا أناس اتصلوا بنا من القبلة وقالوا بأنهم أخذوا النساء والفتيات وقتلوا الرجال. على هذا الأساس، اعددنا العدة للهرب والخروج من القرية. كنا حوالي 60-70 شخصاً ركبنا شاحنة كبيرة، وكان الآخرون يتبعوننا بالسيارات. سرنا على الطريق، وعندما اقتربنا من كرشبك، قطعت العصابات طريقنا".
وواصلت "كما قام القرويون العرب من القرى المحيطة بقرية حردان بمحاصرتنا من الجانب الآخر. فقط كانت جهة زورافا مفتوحة. لم يكن هناك طريق سالك للمركبات في تلك الجهة ولكن مع ذلك ذهب بعض القرويين بسياراتهم من تلك الجهة إلى أن وصلوا إلى مكان محدد ثم واصلوا السير على الأقدام. لم تتوقف شاحنتنا أبداً. وتم إغلاق جميع الطرق بعد أن مرت شاحنتنا بأمان. وصلت أعداد كبيرة من مرتزقة عصابات داعش. وثبتوا الأسلحة الثقيلة على مركباتهم. أوقفوا حوالي 30 مركبة كانت تسير خلفنا. ثم تم إخراجهم من القرية ونقلهم إلى الطريق الرئيسي. هناك أخرجوهم جميعاً من المركبات، وفصلوا النساء والأطفال والرجال والمسنين عن بعضهم. وأخذوا كل ما كان في حوزتهم من مال وحُلي. القرويون أهالي القرى المجاورة هم من فعلوا ذلك، فقد كانوا يعرفون جيداً من يملك الذهب والمال. قالوا للبعض؛ أموالكم كثيرة أخبرونا أين خبأتموها. وقع 40 بالمئة من القرويين في أيدي داعش. كان عددهم 480 شخصاً. هناك، على الطريق الرئيسي قتل مرتزقة داعش مجموعة منهم، ورموهم في الحفر التي حفروها حول الطريق ودفنوهم فيها. أخذوا الباقي بالمركبات إلى تلعفر".
 
ظلت نظرات أمهات حردان معلقة بالمجزرة
لم يتمكن من الهرب دون النظر لمعرفة ما حل بأطفالهن الذين تركوهم وراءهم. توجهوا إلى طرق ومسارات مجهولة. عندما هربوا على عجل وابتعدوا عن مكان الحادث، نظرت جميع الأمهات إلى أطفالهن من خلال الثقوب الموجودة في القماش المغلف لعربة الشاحنة. ظلت عيون ونظرات الأمهات ثابتة ومعلقة بالمجزرة التي حدثت هناك. لم تنفصل أرواحهن وقلوبهن عن أبنائهن أبداً. وعرفت أجسادهم أن الجبال فقط ستحميهم، فاتجهن إلى أحضان الجبال. كان كل شخص يتصل بهاتفه مع من بقي، لكن العصابات هي التي كانت ترد على اتصالاتهم وتقول إنهم قد أسروهم. في ذلك الوقت لم يتبقى أي معنى للخلاص والنجاة.
بعد رحلة عبر الطرق الجبلية توجهوا إلى سهل ربيعة. كانت رحلة طويلة وشاقة وصعبة. من ربيعة دخلوا إلى أراضي روجافا في شمال وشرق سوريا. 
"لقد سرنا على الطريق حاملين الألم في قلوبنا. كان الألم عبئاً ثقيلاً، واستمرت مصاعب رحلتنا بين الحياة والموت. مشينا نحن الأمهات حاملين الوجع والألم في قلوبنا إلى أن وصلنا إلى الحدود. هناك مد الرفاق فقط يد العون لنا وساعدونا. أتوا لنجدتنا. طوال أيام كنا جائعين وعطشى، مشينا لأيام وكنا متعبين. هيأوا لنا أماكن نمكث فيها، كما تم الترحيب بنا بحرارة. لن ننسى أبداً الأشياء التي فعلوها من أجلنا. اهتموا بنا، وبقينا معهم لمدة يومين، ثم عبرنا إلى إقليم كردستان، حيث مكثنا هناك 3 سنوات".