المرأة العراقية... بصمة وتأثير في مختلف الحضارات والأزمنة (2)

تمتلك منطقة ما بين النهرين والتي يتربعُ العراقُ على مساحةٍ كبيرةٍ منها أقدم الحضاراتِ التي عرفتها الإنسانية، لكن وفي كل بقاع العالم غُيب تاريخ المرأة وغُيبت قضاياها الملحة

المرأة في الحضارات القديمة  

سناء العلي
مركز الأخبار ـ ، فالمرأة العراقية لم تكن بمعزلٍ عن هذه المؤامرة التي استهدفت النساء منذ أن تآمر الرجل عليها وهو ما أطلق عليه الفيلسوف الكُردي عبد الله أوجلان مصطلح "الانكسار الأول".  
 
كيف كانت المرأة العراقية؟
قدست الشعوب التي سكنت العراق المرأة وشبهتها بالآلهة باعتبارها واهبة الحياة؛ فتولت إدارة المجتمع الزراعي، وأخذت مكانة روحية عظيمة بين الناس. كانت الأرض بالنسبة لهم هي الأم مصدر العطاء. الأم الأرض أول معبود اتخذته البشرية في كل مكان عُرفت فيه الزراعة وتدجين الحيوانات.
عُرفت الآلهة عند السومريين باسم "الأنوناكي"، في البداية كانت جميع الآلهة إناث كل ما يتعلق بالخير والاستقرار ارتبط بالمرأة فكانت الآلهة إنانا وهي أول إلهة أنثى رمزاً للخصب والحب والخير، كما عرفها البابليون باسم عشتار، فيما بعد أضاف إليها الأكاديون والآشوريون صفة القوة. 
ننهورساج اعتبرت إلهة للخصوبة والأرض. أما إلهة البناء فهي لبيتوم ويتضرع الناس لها عندما يَعزمونَ على بناء مسكن لهم.
كي إلهة الأرض وهي القرين الرئيسي لإله السماء، بعض المؤرخين يعتبرها ذات الآلهة السومرية ننهورساج، وجدت في آثار السومريون صورة لها على شكل رحم، وتطورت فيما بعد إلى الإلهة أنتو عند البابليين والأكاديين. 
 
المدنية والمرأة... الأساطير توثق فترة حرجة من تاريخ النساء  
قبل حوالي 5000 عام بدأت المؤامرة على المرأة حيث أجتمع الشيخ الكبير في السن والشاب والرجل القوي وشكلا أول تحالف سياسي وعسكري وإيديولوجي بغية الانقلاب على المرأة، من خلال إنهاء دور النساء وتقليل مكانتهن في المجتمع وكانت البداية ابتكار آلهة تحاكي الآلهة الأنثى فظهر مفهوم الإله الذكر، فلإلغاء تأثير الآلهة إنانا ابتكروا الإله "تموز" ومنحوه ذات المهام وسمي بإله الخصب والرعي.
حاول الرجل سرقة انجازات المرأة، وتمثل ذلك في إحدى الأساطير، تقول الأسطورة أن الإله إنكي حاول سرقة انجازات الإلهة إنانا التي أصرت على كونها صاحبة الاكتشافات العظمى "الماءات"، ويبلغ عددها 104 اكتشاف.
أسطورة الدمار هي توثيق آخر على صراع المجتمع النيولوتي بقيادة المرأة مع الرجل تمثل ذلك بحادثة اغتصاب إنانا من قبل الفلاح "شواكلايتودا"، الذي يلجأ إلى المدينة ويختفي هناك هرباً من إنانا.
في الحضارات اللاحقة لم يكن حال النساء أفضل بل على العكس من ذلك، في الحضارة الأكادية استُخدِمت النساء لمصالح الامبراطورية باسم الزواج السياسي، وفي الحضارة الآشورية أضافوا صفة الحرب على إلهة الحب إنانا أو كما يسمونها بعشتار، واستخدمت النساء في الحروب الهادفة لتمكين الإمبراطورية وامتُدِحت النساء اللواتي شاركن في حروب الدولة الآشورية.
 
الحضارة السومرية وسيطرة مفهوم الدين
تعد الديانة السومرية من أهم مرجعيات شعوب بلاد ما بين النهرين وبالطبع كان للكهنة "الذكور" مكانة كبيرة بين فئات الشعب المختلفة، لم تملك النساء الحق في استلام مناصب كهنوتية مرموقة، واقتصر دورهنَّ على أعمال المنزل ورعاية الأطفال ودور ثانوي في الحياة متمثل في مساندة الرجل في أعماله خارج المنزل. واستمر تأثيرهم أي الكهنة حتى بعد استبدال قيادة البلاد بالملوك.
لاهوتياً بقيت المرأة كموضوع للإنجاب ورعاية الأسرة، بينما احتكر الرجال مناحي الحياة المختلفة. 
استمر الصراع بين القوى المتكافئة وهي (المجتمع النيوليتي ومجتمع المدينة) حتى عام 2000 ق.م بعدها بدأت الكفة ترجح على حساب المرأة، من خلال تأنيث المجتمع واستعباده وإعطاء السلطة صفة الرجولة.
مع ظهور السلالة واكتسابها قوة كبيرة في حضارة ميزوبوتاميا السفلى "بلاد ما بين النهرين" في الفترة الممتدة بين (5000 ـ 4000 ق.م) وبما أن الملوك هم من الرجال فكان إنجابهم للذكور مسألة حيوية من أجل استمرارهم، كما أن مفهوم تعدد الزوجات من أجل إنجاب المزيد من الأبناء الذكور مرتبط بذلك. 
 
النساء في الزقورات "المعابد"
تؤخذ الفتيات إلى المعابد والتي تطورت إلى هياكل هرمية طويلة القامة أطلق عليها اسم الزقورات، للعمل فيها. الفتيات كنَّ يكرسنَّ ذواتهنَّ لهذه الزقورات، ويتلقينَّ دروساً في الجماليات، فتحت نظام سرايا الزقورات يحترفنَّ فنون كالرقص والموسيقا.
هؤلاء الفتيات يعرضنَّ فنونهنَّ أمام الرجال ممن يملكون المال فإن أُعِجبَ أحدهم بإحداهنَّ تزوجها. ويَؤخذُ المعبد ثمن ذلك، لقد استُخدِمت النساء من أجل فائدة المعبد. يقول الفيلسوف الكُردي عبد الله أوجلان في مرافعتهِ الأولى إن المعبد استَخدم النساء من أجلِ مصالحهِ وهؤلاء النساء أشبهَ بالعملاء الأكثر إنتاجاً وعطاءً في مجتمع دولة الرُهبان الجديدة، وهذا يُماثل بيت الدعارة في وقتنا الراهن، ويؤكدُ على أن الرُهبان استخدموا النساء لمصالحهم الشخصية.
بحسب نظام الطبقية السائد في ذلك الوقت فُرض الحجاب على فئات مُحددة من النساء، حيث منعت الجواري من ارتدائه، واقتصر على النساء من علية القوم، كما تَظهر النساء في النقوش الجدارية وشعرهنَّ مزين بعمامة، وهناك لوحة موجودة اليوم في المتحف البريطاني لامرأة مرتدية الحجاب.  
انتقلت أساطيرهم المكتوبة باللغة المسمارية على الواح الطين والحجر إلى الأكاديين والآشوريين، بالإضافة إلى أن التوراة الكتاب المقدس عند اليهود تضمن جزءاً من هذه القصص.
 
الملكات الأكثر تأثيراً 
لم تذكر الألواح السومرية التي كُتب عليها أسماء الملوك اسم أي ملكة، وحتى عام 2500 ق.م كان الرجال هم المسيطرون على الناحية العسكرية أيضاً، عُرف بعض الملوك بأنهم عسكريون يطلق عليهم اسم لوغاس ويعني رجل كبير، بالمقابل لا توجد نساء يحملنَّ هذه الصفة بل إنهنَّ استبعدنَّ بشكل نهائي من العمل العسكري إضافة لاستبعادهنَّ عن الحكم.
ذكر التاريخ أسماء بعض الملكات اللواتي حكمنَّ بلاد سومر منهنَّ الملكة شبعاد ملكة أور والتي تعرف أيضاً باسم "بو آبي" وهي زوجة الملك "آبار كي"، حكمت في حوالي العام 2500 ق.م، وماتت في سن الأربعين عاماً كما تشير الأبحاث الأثرية، وجد في قبرها ثلاث أختام أسطوانية الشكل من اللازورد كتب عليها اسمها ولقبها وهو "الملكة بو آبي"، يُعتقد أنها كانت ذات مكانة عظيمة حيث وجد في قبرها كميات كبيرة من المعادن والأدوات الثمينة، كما أن تسعة وخمسون شخصاً دفنوا معها. بسبب هذا العدد الكبير من الأشخاص المدفونين معها يعتقد المؤرخون أن النظرية الصحيحة لتفسير ذلك هو أن الملكة شبعاد كانت ضحية لطقوس معينة.
كان في بلاد سومر طقس يعرف بالزواج المقدس فيتزوج الملك كاهنة "وبحسب مؤرخين فإنها فرضية بأن الملكة شبعاد ذات صفة دينية أي أنها إحدى الكاهنات"، هذه الطقوس هي إعادة لأسطورة إحياء الإله تموز في الربيع، فبعد طقوس الزواج يتم دفن ممثلة الآلهة عشتار مع حاشية الملك.    
يعود الفضل في بناء الحدائق المعلقة إحدى عجائب الدنيا السبع إلى الملكة البابلية "أوميت" أو "أميديا" زوجة نبوخذ نصر، وهي ابنة الملك الميدي سياخريس وعاشت في بلاد مادي وتقع حالياً شمال إيران حيث تتميز تلك المنطقة بطبيعتها الجبلية. تقول الرواية التاريخية أنها اشتاقت إلى أرضها الجبلية وهو ما لم تجده في بابل ذات الأرض المستوية فكان أن بُنيت لها هذه الحدائق.  
التاريخ الآشوري والآثار المكتشفة عنه اقتصرت على منجزات الملوك وأهملت المجتمع وأوضاع المرأة، فالجداريات عبارة عن معارك يباركها الإله آشور. واقتصر دور النساء كما يوثق التاريخ الآشوري على بطولات النساء اللواتي ضحينَّ من أجل تثبيت أركان الإمبراطورية العسكرية، أحد أشكال تلك التضحيات هو الزواج السياسي. 
لم تكن المرأة في الحضارة الآشورية أكثر من متاع للرجل مع ذلك استطاعت الملكة سميراميس الوصول إلى الحكم وغيرت الكثير من مرجعيات هذه الفترة. حاولت إضفاء حياة دينية وفكرية على إمبراطورية عرفت بكونها ذات طابع عسكري، وعملت على إبراز أدوار الآلهة الإناث. 
سميراميس من أشهر ملكات الحضارات القديمة، سُميت بـ "محبوبة الحمائم" وتولت السلطة بشكل كامل في العام 800 ق.م بعد موت زوجها الملك الآشوري شمشي أدد الخامس لمدة خمس سنوات حتى كبر ابنها. 
قامت بمشاريع عمرانية واسعة ومنها بناء مدينة آشور، وبناء نفق مُقبب من الحجر تحت مجرى نهر دجلة يصل بين طرفي المدينة، وقادت حروب عديدة سيطرت من خلالها على بلاد الشام ومصر وبلاد ميديا، حتى أن بعض المؤرخين يؤكدون أنها وصلت إلى الهند.
أما الملكة نقية أو زكوتو لعبت دوراً مهماً في سياسات الإمبراطورية الآشورية، وأدارت الممتلكات الخاصة وأمرت ببناء المعابد والقصور أثناء حكم ابنها أسرحدون (680 ـ 669ق.م).  
 
الحضارة الأكادية
في عام 2335 ق.م اجتاح الملك سرجون الأكادي المملكة السومرية، اندمج الغزاة مع بلاد سومر وانصهروا معاً مكونين شعب مختلطاً، لم يستمر الحكم الآكادي أكثر من مئة عام، وعلى ذلك لم يعدل الأكاديون القوانين السومرية إلا قليلاً وذلك بخصوص السياسة أما العادات والأعراف فاستمرت كما هي ومنها القوانين المتعلقة بالمرأة.
اقتصر تأثير المرأة في الحضارة الأكادية على الملكات واللواتي لديهنَّ صلة قرابة مع أصحاب السلطة، لكن ومع ذلك تم استخدامهنَّ من أجل مصالح الإمبراطورية من خلال الزواج السياسي.  
 
أحوال المرأة في بابل 
في عام 1763 ق.م أسس الملك الشهير حمورابي دولة بابل، أما عن أوضاع المرأة في بلاد بابل يظهر لنا التاريخ والآثار المتبقية بأنها كانت مهمشة بشكل كبير ومحرومة من حقوقها. في بابل ما يعرف بمجلس الحكماء وهو يدير شؤون الدولة كان مقتصراً على الرجال.
ويتعلم الفتية مهنة آبائهم أما الفتيات يتعلمنَّ شؤون المنزل، لكن هذا لم يمنع بعض الفتيات من تعلم القراءة ففي معظم المدن والمعابد البابلية كانت تنتشر المكتبات التي ارتادها البابليون من بينهم نساء.
لم ينتهي تأثير الآلهة بل ارتبطت أسماءها مع الملوك لذلك كان يعتقد أن ارشكيجال وهي إلهة العالم السفلي تحكم إلى جانب زوجها نيرغال ملك بابل.
من جهة أخرى كان للمرأة حق التملك والعمل في البيع والشراء وغيرها من الأعمال، لكنها عرضة للقتل بداعي الشرف، والطلاق التعسفي.
وفي بعض المخطوطات التي عثر عليها الباحثون سيرة حياة عائلة بابلية، أظهرت أن الزواج كانت أحادياً، مع ذلك كان يحق للرجل اتخاذ العديد من المحظيات.
في بابل استمر عمل النساء في العزف على الآلات الموسيقية وغناء القصائد المكتوبة لتمجيد الآلهة، إضافة للأغاني الشعبية التي تضمنت أحداث جرت في ذلك الزمن.