المرأة العراقية... بصمة وتأثير في مختلف الحضارات والأزمنة (10)
رغم تراجع الفن في العصر الحديث في بلاد ما بين النهرين إلا أنه شهد مكانة عظيمة للمرأة. تزخر منطقة وادي الرافدين بأشكال الفنون المختلفة. وشكلت المرأة حجر أساس في هذا التقدم الحضاري فأول شاعرة عرفها التاريخ هي أنخيدوانا أبنة وادي الرافدين
النساء ركيزة أساسية في الأدب والفن (1)
سناء العلي
مركز الأخبار ـ .
"أنخيدوانا" أول شاعرة عرفها التاريخ
ولدت الشاعرة الأكادية في مدينة أور (2300-2225 ق.م) والدها الملك الأكادي سرجون ووالدتها تاشلولتوم كاهنة مرموقة لدى إله القمر نانا وهو منصب ذا امتياز سياسي.
تحدثت أنخيدوانا أو أنهيدوانا اللغتين السومرية والأكادية، ويعتبرها علماء الأدب والتاريخ أول كاتبة وشاعرة في التاريخ؛ كونها كانت تُذيل الواح قصائدها باسمها وقبلها لم يكن هناك من يفعل ذلك، وبلغت قصائدُها نحو 42 قصيدة (ترنيمة) مكتوبة باللغة السومرية. ونُقلت أعمالها للغتين الإنجليزية والألمانية. لقبت بـ "شكسبير الأدب السومري"، عينها الملك سرجون في منصب الكاهنة الأعلى في معبد الإله سن إله القمر وبذلك تكون قد حصلت على أعلى رتبة كهنوتية في الألف الثالث قبل الميلاد وهو ما يفسر نتاجها الشعري ذا الطابع الديني، مثل التراتيل الدينية وقصائد مدح الإلهة إنانا بعنوان "سيدة النواميس كلها" وتُعدد فيها خصال إنانا "عشتار"، ولها تراتيل معروفة باسم "تراتيل المعبد السومري" وهي أول مجموعة من نوعها.
المغنية السومرية "أور نانشي"
العديد من اللقى الأثرية بينت أن الغناء والعزف في بلاد ما بين النهرين شهدا مشاركة فاعلة للعنصر الأنثوي، مع العلم أن مهنة العزف وخاصة في المعابد تعد من المهن المرموقة.
"أور نانشي" من أوائل الذين قاموا بالغناء في العصور القديمة، تجيد الرقص والغناء معاً كما أنها تعزف على الآلات الموسيقية، مارست فنها في القصور الملكية والحفلات ذات المستوى الرفيع، فهي تنتمي للطبقة الارستقراطية.
يوجد لها تمثال وهي تعزف في معبد نيتي زازا في ماري على الضفة اليمنى لنهر الفرات، وهذا المعبد قد شيد في فترة ما قبل الملك سرجون وخصص لعبادة الإلهة عشتار.
استمر عمل النساء في العزف على الآلات الموسيقية وغناء القصائد المكتوبة لتمجيد الآلهة، إضافة للأغاني الشعبية التي تضمنت أحداث جرت في ذلك الزمن في مختلف الحضارات التي مرت على المنطقة.
الأدب في بلاد ما بين النهرين... فن الأسطورة
تميزت منطقة ما بين النهرين بالأساطير التي انتقل معظمها إلى الأجيال اللاحقة عبر الألواح المكتشفة، كانت المرأة جزءاً من الأدب فالنساء ساهمن في نقل الأساطير من جيل إلى جيل، كما أن العنصر الأنثوي كان حاضراً وبقوة في معظم الأساطير كالإلهة إنانا. الأساطير تناولت المرأة من مختلف النواحي المرأة المحبة والثورية والقائدة أيضاً.
امتلكت إنانا أو عشتار كما سماها البابليون والآشوريون لاحقاً قدسية خاصة، عُرفت باسم ملكة السماء، وبُنيت معابد خاصة لها، ارتبط اسمها بالخير والحب والوفرة فكان أن جفت الأرض ومات الزرع وانتهى الحب عندما نزلت إلى العالم السفلي كما تنقل الأسطورة.
في قصة الخلق البابلية "إنوما إليش" والتي كشفت عنها سبعة ألواح فخارية مكتوبة باللغة البابلية، تبرز الأنوثة كأساس لخلق الكون، واكتشفت هذه الألواح عن طريق الرحالة والمستكشف البريطاني هنري لايارد عام 1849م.
حضرت إنانا وبقوة في عدد لا يحصى من أساطير بلاد ما بين النهرين منها قصتها مع الراعي الذي اغتصبها، وقصة خطوبتها، وتضحيتها من خلال قصة نزولها للعالم السفلي رغم معرفتها بالمخاطر.
يظهر تعظيم الأنثى في قصة إنانا والملك حيث تقول الأسطورة "كل يوم حين تغيب الشمس ترتفع نجمة عشتار وتتلألأ في السماء، كل شهر يتضاءل نور القمر وتظهر قوة النجمة وتشع بنورها....".
في إحدى الأساطير تصور الإلهة إنانا كمثال للمرأة الثورية صاحبة الإرادة القوية حيث تدخل في صراع مع الإله إنكي الذي حاول سرقة اكتشافاتها، هذا الصراع الذي نقلته الأساطير هو خير دليل على أن المرأة هي القوة المبدعة الأولى في العديد من المجالات. إنانا أصرت على كونها صاحبة الاكتشافات العظمى "الماءات"، ويبلغ عددها 104 اكتشاف.
تعالج "أسطورة تلمون" الصلة بين الأرض والماء وتكشف ذلك عن طريق الصراع بين الأنوثة وهي الأرض وبين الذكورة وهي الماء، ذلك الصراع الذي يهدد الطبيعة لكنه يعود إلى صفاءه بعد عودة الود والوفاق بين الجنسين. كما أن أسطورة إنكي تعالج ذات الموضوع.
كذلك كان لسميراميس وهي ملكة آشورية حكمت في العام 800 ق.م نصيب وافر من الشهرة في الأدب القديم، فالأساطير الأرمنية وغيرها نسجت حولها العديد من القصص وأطلقت عليها اسم محبوبة الحمائم.
النساء في فن النحت
لم يذكر أي شيء عن الأشخاص الذين مارسوا فن النحت قديماً لا أسماء ولا أجناس، فمن غير المعروف إن كانت النساء قد شاركن في هذا الفن أم أنه كان محتكراً من قبل الرجال، أما الحديث هنا سيكون عن العنصر النسائي الموجود في المنحوتات المكتشفة، فلا شك أن اللقى الأثرية تعج بعدد كبير من التماثيل والنقوش الأثرية لآلهة إناث وملكات وعازفات وغيرها.
صورت المنحوتات عمل المرأة اليومي مثل غزل الصوف واهتمامها بنفسها وهي تصفف شعرها أو تضع الحلي. وبعض المنحوتات كشفت عن طقس متبع لدى السومريين من أجل نزول المطر ويتمثل بأربع نساء يسمين "راقصات الري" يقمن برقصة تشبه الرقصات الفلكلورية المعروفة اليوم حيث يمسكن أيدي بعضهن.
ركزت المنحوتات على الأعضاء التناسلية، والنساء الحوامل بما يؤكد تقديس المرأة باعتبارها مانحة للحياة.
اختلفت أحجام هذه التماثيل منها ما هو صغير جداً (دمى طينية) حتى أن النساء كنَّ يعلقنها على رقابهن باعتبارها قرائن لهن أو تعويذة تحميهن من القوى الماورائية، وتقوم النساء بأنفسهن بتشكيل هذه التماثيل من الطين وحرقها في تنانير إعداد الخبز.
من أشهر التماثيل النسائية على الإطلاق تمثال "نينالا" ابنة الملك أور زبابا (2144ـ2164ق.م) ملك لكش إحدى المدن السومرية، وهو تمثال نصفي لامرأة رأسها مغطى بمنديل وعلى عنقها خمسة عقود وترتدي ملابس مطرزة.
وكذلك تمثال الآلهة حاملة الوعاء ويعود للحضارة البابلية (1800 ق.م)، اكتشف في ثلاثينات القرن الماضي عبر بعثة فرنسية، يبلغ طوله متر ونصف منحوت من حجر أبيض.
عُثر على تمثال عاجي لرأس امرأة يعتقد أنه يعود للحضارة الآشورية قبل نحو 2500 عام، الحضارة الآشورية عموماً شهدت ندرة في الأثريات التي تمثل المرأة والحياة حيث اقتصرت الأعمال الفنية على تصوير المعارك ومختلف مظاهر القوة في الدولة الآشورية.
"سميراميس" مشاريع عمرانية خالدة
عملت الملكة سميراميس على إقامة العديد من المشاريع العمرانية منها بناء مدينة آشور بقصورها ومعابدها التي تحيط بها أسوار مرتفعة، كذلك أمرت ببناء نفق مقبب من الحجر تحت مجرى نهر دجلة للوصل بين طرفي المدينة، وأنشأت الجسور وقنوات الري على ضفاف نهري دجلة والفرات، والمنتزهات والنوافير المزخرفة في مختلف المدن التي توسعت فيها.
الجواري والأدب
ساهمت الجواري بنشر الثقافة خلال عهد الخلافة الإسلامية ومنها الفنون الجميلة والغناء والشعر. الجواري اللواتي تم جلبهن من الحجاز كان لهن تأثير واضح على تطور فن الغناء في العاصمة بغداد، من أشهرهن في مجال الغناء (بذل، تيم، دنانير، عَريب، فريدة، عاتكة بنت شهيدة، قلم الصالحية).
أثرت النساء في الأدباء والشعراء كما كنَّ ملهمات للكثير منهم، في ذلك الوقت انتشرت قصص الحب الرومانسي والقصائد التي وثقتها، ومن أشهر قصص الغرام التي انتشرت في ذلك الوقت قصة بشار بن برد والجارية عبدة، وقصة العباس بن الأحنف والجارية فوز، وقصة أبي العتاهية وعتبة، وقصة أبي نواس والجارية جنان والكثير من القصص، حتى ذلك الوقت لم تعرف الرواية أو السرد الطويل ما عدا قصة شهرزاد الشهيرة.
لم تكتف الجواري بأن يكن ملهمات فقط لكن عدد منهن نظمن الشعر أيضاً وكن يستقبلن الأدباء في مجالسهن ويتبارين مع كبار الشعراء، لكن التاريخ لم يحفظ من ذلك إلا النذر القليل حيث سيطر الرجال على كتابة التاريخ ومسحوا كل ما يهدد ذكوريتهم وانغلاق المجتمع الذي يخدم مصالحهم، لكن هناك قصتان نجتا من الحذف أو التحريف وهما لجاريتان في العصر العباسي امتلكتا موهبة في نظم الشعر ورواية الأخبار وهما جارية الناطفي وتدعى عنان، وجارية المأمون وتدعى عَريب.
الأدب الشعري والقصصي في العصر العباسي
قدمت النساء الحرائر والجواري موضوعات شعرية مختلفة كالغزل والزهد والرثاء والمديح والهجاء، كانت بمجملها من نوع المقتطفات الشعرية ذات النظم الخفيف، أبدعت النساء في أدب المراسلات الشخصية وأدب التوقيعات كذلك.
تبوأت علية بنت المهدي أخت الخليفة هارون الرشيد مكانة عظيمة في عالم الشعر، إضافة لكونها أول مغنية في العصور الوسطى، في شعرها قدمت معاناة المرأة التي تتعرض لكبت عاطفي فكانت قصائدها معبرة عن ذلك، وقد نقلت صورة عن المرأة في ذلك العصر وعنف المجتمع الذي يحرمها من التعبير عن مشاعرها ويقف في وجه عواطفها بينما يبيح للرجال كل شيء.
حذت خديجة بنت المأمون حذو علية بنت المهدي فعالجت مواضيع متعلقة بالمرأة منها أمنيات بالحرية حيث انتقدت المجتمع الذي يعيب الحب على المرأة بينما يشجع الرجل عليه. بينما الجارية عنان كانت أكثر جرأة بالتعبير عن مشاعرها.
رابعة العدوية (717ـ 796م) أحد أعلام الشعر في عالم التصوف الإسلامي، اشتهرت بقصائدها الصوفية وتعد مؤسسة مذهب الحب الإلهي.
في شعر الرثاء أبدعت الأميرة أم جعفر زبيدة بنت جعفر الهاشمية (766ـ831م) بعد فقدانها لابنها الخليفة الأمين العباسي. واشتهرت القصائد التي القتها الشاعرة الفارعة بنت طريف في رثاء أخيها الوليد.
كما اشتهر أدب القصص ومنها ألف ليلة وليلة حيث تدير أحداثها امرأة وهي شهرزاد.
ومن المغنيات الشهيرات إضافة لعلية بنت المهدي امتلكت مُتَيَّم الهِشَامِيَّة صوتاً شجياً (توفيت في عام 838م).
لم تتوقف إبداعات المرأة عند نظم الشعر فالميادين النثرية شهدت مشاركة واسعة من قبل النساء في الدولة العباسية ومنها أدب المراسلات الشخصية منهن الجارية عَرِيب التي عرفت بالغناء ونظم الشعر أيضاً، والشاعرة فضل البصرية التي أثنى الكاتب العباسي سعيد بن حميد على كتاباتها بالقول "ما رسائلي المدونة عند الناس إلا من إنشائها".
لم تقتصر التوقيعات على كبار رجال الدولة العباسية ويبلغ أدب التوقيعات من الأهمية بأنه الكلمة الوجيزة التي يوقع بها الخليفة أو وزيره. وتُعد التوقيعات النسائية جزء مهم من الأدب النسوي، تميزت كتابات النساء بقوة التعبير واللغة والسلاسة، الشاعرات استخدمن الالفاظ السهلة والتعابير الرقيقة والجمل القصيرة المعبرة.
الشعر العراقي إبداع وتميز نسوي... نازك الملائكة أيقونة عراقية
يعرف العراق بشعره الراقي ولغته القوية، كما تنتشر في البلاد قصائد باللهجة العامية "الدارجة" ولها من الشهرة الكثير. تنوعت المواضيع التي تطرق لها الشعر. المرأة وعلاوة على كونها تكتب القصائد، فهي البطل في جميع كتابات الشعراء.
تقول فرح غانم صالح وهي الأستاذة المساعدة في جامعة بغداد في كتابها المعنون بـ (الشعر النسوي في العراق 1960ـ2000) أن الشعر النسوي تميز بقدرته على طرح قضايا المجتمع والإنسانية، حيث أثبتت الشاعرة العراقية هويتها النسوية وكرست قيم الأنوثة، وقاتلت عنف الحروب بأحاسيسها، كما وطرحت الشاعرات القضايا القومية كذلك.
نازك الملائكة (1923ـ2007) تتربع على عرش الشعر العراقي وهي من رواد الشعر العربي الحديث، وتتميز بكونها أول من نظم الشعر الحر من خلال قصيدة الكوليرا عام 1947. ونشأت في بيئة ثقافية فوالدتها سلمى عبد الرزاق الملائكة مواظبة على كتابة القصائد ونشرها في الصحف والمجلات تحت اسم "أم نزار الملائكة"، وكذلك والدها لديه موسوعة باسم "دائرة المعارف الناس" والعديد من أقربائها ينظمون الشعر.
بدأت مشوارها الأدبي بالاطلاع على الأدب العالمي وعملت على ترجمة بعض الأعمال الأدبية الإنكليزية إلى العربية، ولها كتابات نقدية تميزت بالمعرفة التاريخية بالأدب مبنية على الحجج المنطقية وذات أسلوب هادئ ورصين منها (سيكولوجيا الشعر 1992، قضايا الشعر الحديث 1962، دراسة في علم الاجتماع بعنوان التجزيئية في المجتمع العربي 1974)، ولها مجموعة قصصية بعنوان "الشمس التي وراء القمة 1997". وتضمنت مجموعاتها الشعرية (عاشقة الليل 1947، شظايا الرماد 1949، قرارة الموجة 1957، شجرة القمر 1968، ويغير ألوانه البحر 1970، مأساة الحياة وأغنية للإنسان 1977، الصلاة والثورة 1978).
تُعرف الشاعرة الكُردية نجيبة أحمد (1954) بأنها أول امرأة كردية تدخل مجال الشعر في عام 1976 إلا أن مستورة الكردستانية أو مستورة أردلان (1805ـ1948) هي أول شاعرة ومؤرخة كردية.
من أوائل الشاعرات اللواتي ظهرن بداية القرن العشرين الشاعرة زينب خان (1900ـ 1963) كتبت عن قضية المساواة بين الجنسين واعتبرت أنه وبدون حرية الوطن لن تكون هناك مساواة بين الرجل والمرأة. تركت وراءها ديوانين من الشعر وقصائد متفرقة وعشر قصائد للأطفال ومذكراتها.
الكاتبة والشاعرة درخشان جلال (1934ـ2010) كتبت سيرة حياة المناضلة حفصة خان نقيب ولها كتاب عن تاريخ اتحاد نساء كردستان.
فيما احتفظت الشاعرة الكردية كازال إبراهيم خدر بخصوصية تختلف عن قريناتها من الشاعرات، حيث أنها واظبت على كتابة شعرها بلغتها الأم، وسعت لإيصاله إلى بقية أبناء الشعب العراقي من خلال ترجمة أعمالها إلى اللغة العربية كما أن لها دواوين مترجمة للغة الفارسية ولغات أخرى.