المرأة الإيرانية وإمبراطوريات ما قبل الميلاد

يزخم التاريخ الإنساني سواء القديم أو الحديث بالكثير من الأسماء النسائية التي كان لها دور في تقدم المجتمعات، والتي وضعت بصمة في تاريخ البشرية والحضارة الإنسانية، فمنهن من نهضن ببلادهن، ومنهن من أحاط الغموض بحياتهن في غيبات التاريخ.

مالفا محمد

مركز الأخبار ـ إيران أو بلاد فارس قديماً لها تاريخ عريق يمتد إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام ق.م وثقافة خاصة ميزتها عن باقي الحضارات. في هذه البقعة من الأرض لعبت المرأة دوراً هاماً في مختلف الحضارات التي مرت على المنطقة، تصدرت مواقع مهمة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية وغيرها.

ما زالت إيران تتميز وإلى اليوم بتنوعها الثقافي، يسكنها الفرس والكرد والعرب والبلوش والأرمن والعديد من القوميات الأخرى، وشكلت التركيبة المكونة من القوم الآري والأقوام القديمة القاطنة في هضبة إيران شعباً تمتع طوال آلاف من السنين بثقافة وحضارة عريقة نتج عنها ظهور سلالات من الإمبراطوريات المؤثرة في العالم قديماً وحديثاً.

 

أناهيتا... أشهر آلهات بلاد فارس

لا يمكن إغفال تقديس المرأة من خلال تشبيهها بالآلهة. نقلت الأساطير عبر التاريخ قوة النساء من خلال مفهوم الآلهة الأنثى أمثال الإلهة تيشتر وهي في الميثيولوجيا الإيرانية أصل جميع المياه والأمطار ومسببة الخصوبة والنماء، والسبب في حمل النساء اللواتي لا تستطعن الإنجاب، وقد ذكرت في الأساطير أن الإلهة تيشتر كانت تصارع العفريت "آبوش" رمز الجفاف والموت.

لكن الإلهة أناهيتا "أناهيدا" إلهة المياه الجارية، هي الأشهر على الإطلاق، في عهد ما قبل الإسلام عرفت بأنها إلهة الجمال والخير والبركة، معبدها الموجود في مدينة كنغاور بمحافظة كرمانشاه مدرج على القائمة المؤقتة للتراث العالمي، وما يزال مقصداً لعلماء الآثار. يعتقد بعض المؤرخين العرب والإيرانيين أن بناء المعبد يعود إلى القرن الثالث الهجري فيما رجح البعض أنه يعود إلى القرن الثالث ق.م، والبعض الآخر يقول إنه يعود للقرن الأول ق.م.

وأناهيتا يعني الطاهرة أو النقية بدون خطيئة، وهي آلهة فارسية تمثل التصور الفارسي لإلهة بلاد الرافدين "عشتار" التي قدسها الآكاديون والبابليون والآشوريون، واستخدم اسمها لتسمية كوكب الزهرة، وقد عثر في معبدها المذكور آنفاً نقش يصفها بـ "أناهيتا العذراء، الطاهرة".

في المتحف البريطاني يوجد تمثال يصور الإلهة أناهيتا، يعود للقرن الخامس قبل الميلاد، وتبعاً لتطور عبادتها فقد وصفت بالآلهة الموفقة بين الأديان. كما أنه ورد ذكر الإلهتين أناهيتا وتيشتر في النسك الرابع من الكتاب الفارسي المقدس "آفيستا".

 

مكانة المرأة في الحضارة العيلامية

لعبت المرأة الدور الأساسي في عهد السلالة العيلامية أولى السلالات التي تأسست ما بين أعوام (3300 ـ 1200 ق.م) في أقصى الغرب والجنوب الغربي ما يعرف اليوم بإيران، لذلك نرى العديد من الآلهة الإناث تعود أصولها إلى الحضارة العيلامية التي يسميها الإيرانيين بـ عربستان للإشارة إلى إقليم الأحواز "الأهواز" والذي يعني بلاد العرب.

وبحسب الميثولوجيا الإيرانية القديمة كانت العبادات الدينية تتطور على أساس الآلهة الأم، فالإرث الذي تركه البعض في تلك المنطقة لا يزال باقياً حتى يومنا هذا، وما يدل على ذلك اكتشاف تماثيل الآلهة بكثرة في البلاد. إلا أن الباحثين اختلفوا في أصل الكتابات الميثولوجية الإيرانية القديمة التي تجذر أصول الآلهة الأم ووظائفها.

ومن أهم الشواهد التي تدل على مكانة المرأة والآلهات في الحضارة العيلامية وتقديسهم لهن، تمثال الآلهة "بي نين كير" وهي أول وأهم آلهات الحضارة العيلامية، وتعرف بأم الآلهة، دام نفوذها إلى أن سقطت حكومة عيلام.

كما وأدرج اسم الإلهة ناريدي عدة مرات وترجم من قبل علماء الآثار بعدة أشكال منها (ناريدة، ناريتة)، وبحسب العديد من المصادر فقد ذكر اسمها لأول مرة في عهد الملك إيشبوم في مدينة السوس (الشوش)، وتعرف بلقب إلهة النصر، كما ذكر اسمها في معاهدة هيتا ـ نارمسين ستة مرات. ووجد لها آثار قيمة منها تمثال كشف في مدينة السوس يتواجد حالياً في متحف اللوفر بباريس، وكأس مصنوع من الفضة نقشت عليه صورتها ويعود إلى عهد الملك كوتيك إينشوشيناك.

وكذلك وجد تمثال الإلهة "كي ري ريشا" التي يرجح المؤرخون أن تكون زوجة الملك العيلامي هوبمان، وتعرف بـ "السيدة الكبيرة"، وقد ظهر اسمها على الآثار المتبقية من بين 7 ملوك عيلاميين كانوا يعبدونها.

من الملكات اللواتي ذاع صيتهن الملكة العيلامية الشهيرة "نابيراسو نابيرشا" زوجة الملك العيلامي أونتاش نابيرشا حاكم مدينة السوس التي تمركزوا فيها في منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد، وقد وجد لها تمثال يعود إلى حوالي (1340 ـ 1300) عام ق.م أي خلال العصر العيلامي الأوسط، ويعرض هذا التمثال في متحف اللوفر الفرنسي، وقد بني التمثال من النحاس والبرونز وهو بحجم جسم الإنسان ولكن الرأس والذراع الأيسر كانا قد تحطما. على واجهة تنورتها خط مكتوب باللغة العيلامية ويذكر فيه اسمها وعائلتها والآلهة التي ترعاها.

كان كل إقليم من أقاليم عيلام حريصاً على استقلاله واستقلال ملكه وفي كل واحدة منها كان يتم تنصيب إلهة أم "الإلهة الحامية" التي يستمد الملك منها سلطته، كانت الآلهات يعدن الحاكمات الأصليات، تعكسن النظام الاتحادي للدولة التي كانت قائمة في الألف الثالث قبل الميلاد. فضلاً عن الزواج الملكي الذي كان له دور في ولاية العرش وتنصيب الحكام فقد لعب ابن الأخت دوراً في كسب شرعية الحكم.

وثيقة العصر العيلامي الحديث التي تعود لحوالي 710 ق.م، تدل على ذلك بشكل مباشر، بعد وفاة الملك يتزوج الوريث من أرملة أخيه، الأبناء المولدون من الزواج الملكي كان لهم الحظ الأكبر في الحكم وتولي المناصب، حيث كانت تلك العلاقة تجسيد لما يجري في المجمع الإلهي من زواج الإلهة كريريشا من الإله خومبان ومن ثم الإله إينشوشيناك. حسب الفكر الديني في عيلام، ولد من ذلك الزواج الإله خوتران الذي نال لقب "ابن الإلهة الأم المحبوبة"، وكان على الوريث أن يتزوج أرملة الملك التي هي أخت لكلاهما، من أجل أن يكون الوريث الشرعي، فأصبح النسل الملكي ينحدر من الأنثى.

 

استغلال المرأة... بناء الزقورات

قبل حوالي 5000 عام بدأت المؤامرة على المرأة، وعمل الرجال على إنهاء دور النساء ولما للحياة الدينية والروحانية من أهمية كبيرة قديماً، كانت البداية ابتكار آلهة تحاكي الآلهة الأنثى فظهر مفهوم الإله الذكر.

وعلى الرغم من عدم استسلام المرأة وإبدائها مقاومة كبيرة، إلا أن الرجل استطاع أن يهمش ويقلل من مكانتها في المجتمع. انقلب النظام الأمومي إلى نظام أبوي يعتمد على التملك والتسلط والتمييز، وأخرج الطبيعة عن مسارها وأخضعها لقوانين مصطنعة لصالحه، احتكر الرجال تحت مسمى الآلهة كافة مناحي الحياة المختلفة، لم ينتهي الأمر بذلك بل ربطت أسمائهم مع الملوك لزيادة سطوتهم بينما بقيت المرأة كموضوع للإنجاب ورعاية الأسرة فقط.

كانت المعابد إحدى أشكال السلطة الذكورية حيث تم استغلال النساء فكما يؤكد الفيلسوف الكُردي عبد الله أوجلان فإن الزقورات كانت أشبه ببيوت دعارة. إن تطور تنظيم شؤون المرأة في الزقورات لم يكن أكثر من استغلالاً لشخصها وجسدها وتسخيرها بشكل كامل لخدمة الدولة.

افترض العديد من المؤرخين أن تلك المعابد كانت تحتوي في وقت من الأوقات على أضرحة مخصصة لعبادة الآلهة، على الرغم من أن الدليل الوحيد على ذلك جاء في كتابات المؤرخ اليوناني الإغريقي هيرودوت، حيث لم يتم العثور على أية أضرحة على الإطلاق في أي من عشرات الزقورات التي تتناثر في صحاري إيران والعراق.

بعد تطور الزقورات التي لم تكن مقتصرة على ممارسة الشعائر الدينية، بل كانت أماكن ثقافية وسياسية، استعبدت النساء وكان على الإلهات أن يخضن صراعاً كبيراً مع الكهنة، وقد صورت الأساطير تلك الصراعات، وهي كانت معركة حقيقية بين المجتمع الطبيعي بقيادة المرأة وبين مجتمع المدنية بقيادة الرجل.

وكانت المدنية الأساس الذي بنيت عليه السلطة والطبقية كما عرفها عبد الله أوجلان في مرافعته "القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية" قائلاً "غالباً ما يعرف مجتمع الثقافة العامة الذي تشكلت فيه الطبقة والمدينة والدولة، بأنه مجتمع المدنية ذلك أن الطبقة والمدينة والدولة هي تصنيفات أولية لمجتمع المدنية، أي أن المجتمع متمايز طبقياً".

كما ربط القائد عبد الله أوجلان بين المدنية واستعباد المرأة ففي مرافعته "أزمة المدنية وحل الحضارة الديمقراطية في الشرق الأوسط" يقول بأنه "يكمن أول تناقض ديالكتيكي كبير للمدنية في عبودية المرأة المتجذرة تدريجياً، وفي الانطلاقات السلطوية الملك ـ الإله والتي باتت حالة مرضية".

 

تأثر العيلاميين بالحضارات المجاورة

بحسب المؤرخين والسجلات المكتوبة منذ 3000 عام ق.م تقريباً فإن حضارة عيلام تزامنت مع حضارة السومريين أقدم الحضارات التي ظهرت في بلاد ما بين النهرين، وتأثرت بها، فقد ساهمت المرأة في تطوير الحضارة العيلامية كما ساهمت النساء في تطور الحضارة السومرية، من حيث الزراعة وأساليب الري وبناء السدود.

كما امتهنت النساء مهناً مختلفة منها الكتابة والطب والغناء والعزف كذلك، وأعمال تزيين النساء، ولم تقتصر الآثار على تماثيل الإلهات بل شملت منحوتات في غاية الدقة للنساء اللواتي ابتكرن العديد من الفنون المنزلية كفن الغزل والنسج والخياطة وحياكة السلال، وقد اكُتشفت العديد من الآثار التي تدل على ذلك منها منحوتة لامرأة عيلامية تغزل النسيج موجودة في متحف اللوفر الفرنسي.

ومع انتقال الحضارة العيلامية والسومرية من حياة الزراعة إلى الحياة المدنية، عمل الرجل على بناء المدن والمعابد وأبعد المرأة عن المناصب المرموقة واحتكرها لنفسه، انقسم المجتمع في ظل المدينة إلى طبقات ملوك وكهنة، وطبقة الشعب من عمال وفلاحين وتجار، النبلاء وأصحاب الأملاك، وطبقة العبيد وتعد المرأة جزءاً منها، وأصبحت المرأة تابعة له، وبذلك تراجع دور المرأة واقتصر على أعمال المنزل ورعاية الأطفال ودور ثانوي في الحياة متمثل في مساندة الرجل في أعماله خارج المنزل.

فبدأ الرجل بتهميش المرأة على كافة الأصعدة الحياتية التي تعدت إلى احتكار حريتها وكرامتها، بعد نشوء الزقورات التي منحت الكهنة الذكور مكانة كبيرة بين فئات الشعب المختلفة، ولم تملك النساء الحق في استلام مناصب كهنوتية مرموقة.

كما أن انتهاك حقوق المرأة ظهر على صعيد الأسرة أيضاً فقد كان يحق للرجل العيلامي أن يبيع زوجته وأولاده إذا ما أرهقته الأعباء المادية، كما كان يحق له قتل المرأة غرقاً إذا تخلت عن واجباتها الأمومية، وكان باستطاعته أن يطلق زوجته بسبب أو بدون سبب أو يتزوج بأخرى.

كان المجتمع العيلامي يسمح بتعدد الزوجات بالإضافة إلى السماح للرجل الذي يتوفى أخيه بتزوج أرملته؛ كوسيلةٍ للحفاظ على الثروة داخل الأسرة أو القبيلة وعدم ضياعها. بينما لو طلبت امرأة الانفصال عن زوجها تعاقب بالقتل.

ومما لا شك فيه أن التشريع البابلي القديم أيضاً كان له الأثر الفاعل في تشريعات حضارات الجوار ومنها الحضارة العيلامية، وبالرغم من أن العيلاميين لهم قوانين خاصة تنظم شؤونهم، إلا أن المنقبون قد عثروا في مدينة السوس على مسلة حمورابي التي نقلها الملك العيلامي شوتروك ـ ناخونتا أثناء غزوه بابل في القرن الثاني عشر ق.م. كما تم نقلها إلى منطقة خوزستان للاطلاع عليها وإعادة تداولها من قبل الإمبراطورية الفارسية. كما واكتشف عالم الآثار غوستاف جكواير الشاهدة المنقوشة عليها شريعة حمورابي في خوزستان عام 1901، وتعد شريعة حمورابي الأكثر قسوة من أي شريعة تزامنت معها أو تلتها.

التناقض في تشريع قوانين المرأة أبرز المزاجية الذكورية في التعامل مع المرأة آنذاك، ففي الوقت الذي تأخذ المرأة جزءاً من حقوقها في قانونٍ ما، تُؤخذ حياتها في قانون آخر. فالمجتمع البابلي كان أبوياً، والسلطة في نطاق العائلة أو الأسرة بيد الرجل، بيده حق عقد الزواج أو إلغائه ويرجع نسب الأولاد إليه، أما المرأة فلم يكن بيدها الخيار في الزواج أو فسخه، ولم يكن لها حق السيادة على نفسها.

منحت تلك القوانين المرأة مهراً، وفي حال طلاقها تسترد ما أخذته معها من منزل أبيها، كما أنه يحق لها حضانة أبنائها بعد الطلاق، وكان من أهم أسباب الطلاق والانفصال بين الزوجين الزنا أو العقم، كما أن تعدد الزوجات كان مباحاً بشرط أن تكون الزوجة عقيمة وأن تكون الزوجة الثانية من فئة العبيد، أي كان يحق للرجل اتخاذ العديد من المحظيات وهذا بالطبع كان ظلماً بحق المرأة.

تلقى المرأة في النهر إذا تبين أنها أهملت زوجها لكن إذا كان الإهمال منه فأقصى ما يمكن أن يناله هو دفع بائنتها (أي الطلاق البائن الذي لا رجعة فيه إلا بعقد جديد مستوفياً الشروط والأركان التامة للزواج)، والسماح لها بالعودة إلى منزل أبيها، ووفقاً لشريعة حمورابي يمكن للرجل أن يستخدم زوجته في سداد ديونه، ما لم تشترط عليه قبل الزواج ألا يقدمها لدائنيه، أي أن المرأة كانت عرضة للقتل بداعي الشرف والطلاق التعسفي.

أما بالنسبة للميراث فهو من حق الرجال فقط، ولا تأخذ النساء من الميراث شيئاً إلا إذا انعدم وجود الذكور، من جهة أخرى أعطت المرأة حق التملك والتعليم والعمل بالتجارة وامتلاك الحوانيت، وعقد الاتفاقات القانونية كالبيع والشراء وغيرها من الأعمال، وبحسب الباحثين في علم التاريخ واللغات فإن شريعة حمورابي قد أبرزت المرأة كمدعية وعرف عن بعضهن أنهن تقلدن بعض المناصب العامة كحاكمة وكاتبة.

 

التشريعات الآشورية... تمييز اجتماعي وسياسي وثقافي

بعد توسع الحضارة الآشورية التي تعرف بأنها عدوانية تقوم على الحروب في الألفية الثانية ق.م؛ وانتشار شعبها في إيران بأعداد قليلة آنذاك، غلب على البلاد الطابع الذكوري، حيث أن الآشوريون قدسوا الإله الذكر آشور. 

أضاف الآشوريون إلى عشتار إلهة الحب والجمال صفة الحرب، أما النساء اللواتي تمتعن بمراكز مرموقة لم يكنَّ إلا الحلقة الأضعف في تلك المجتمعات، واستمر هذا التقليد حتى الحقبة الآشورية الجديدة (934 ـ 609 ق.م)، بيد أن أهمية النساء كانت تنبع بشكل أساسي من كونهن على صلة قرابة من الملك أو الأمير، أي لم يحكمن بشكل منفرد، بل كن يقمن بدور الوصاية على العرش، أو كن شريكات لأزواجهن لا أكثر.

التاريخ وحتى الآثار المكتشفة اقتصرت على منجزات الملوك وأهملت المجتمع وأوضاع المرأة، واقتصر دور المرأة كما يوثق التاريخ الآشوري في إيران وبلاد ما بين النهرين (الشرق الأدنى القديم)، على بطولات النساء اللواتي ساهمن في تثبيت أركان الإمبراطورية العسكرية، ومنها الزواج السياسي.

الأدلة عن الحياة التي عاشتها النساء فعلياً خلال الإمبراطورية الآشورية مستمدة من الوثائق القديمة التي تتضمن روايات لا تعبر في الجزء الأكبر منها عن مختلف شرائح المجتمع، فغالبية النساء المذكورات في نصوص آشورية قديمة مرتبطة بالبلاط الملكي، حتى أن كتب المؤرخين لم تأتي سوى على ذكر ثلاثة ملكات فقط.

لم تكن المرأة في الحضارة الآشورية أكثر من متاع للرجل مع ذلك استطاعت الملكة العراقية سميراميس التي تولت السلطة عام 800 ق.م لمدة خمس سنوات، الوصول إلى سدة الحكم كوصية على العرش حتى يكبر ابنها، وتغيير الكثير من مرجعيات الحضارة. وكان لها تأثير إيجابي على حياة النساء في إيران من الناحية الدينية والفكرية والاجتماعية إضافةً لإدارة البلاد، استطاعت أن تضيف نوعاً من الأنوثة من خلال إبراز أدوار لآلهة إناث، في دولة وصفت بأنها عسكرية.

رسمت مدونة قانونية تعود إلى حكم الملك تغلث فلاسر الأول (1114 ـ 1076 ق.م) في الحقبة الآشورية الوسطى، صورة المرأة قاتمة، فبحسب المدونة كان يمكن أن تتعرض المرأة للعقاب ليس فقط عن تجاوزات ترتكبها بنفسها إنما أيضاً عن جرائم يرتكبها أنسباؤها. كما أن النساء حرمن من الميراث، أي كانت الورثة أو تركة الأب توزع على الأبناء الذكور فقط.

لم تكن النساء في الإمبراطورية الآشورية يشاركن في الحروب، لذا كان المجتمع ينظر لهن باستخفاف وخاصة اللواتي كن ينجبن إناثاً، لنفس السبب المذكور كان يتم إهمال الأطفال المصابين بعاهة عقلية أو جسدية، بل كان يتم التخلص منهم، وإذا أمسك رجل بالقوة بعذراء تقيم في منزل والدها واغتصبها، يأخذ والد العذراء زوجة المغتصب لاغتصابها؛ ولا يعيدها إلى زوجها، بل يتخذها لنفسه، وكانت ضحية الاغتصاب ترغم على الزواج بمغتصبها.

كما كان هناك تمييز اجتماعي بين النساء أيضاً وهو الذي ظهر بشكل واضح في التشريعات الآشورية التي ميزت ما بين المرأة الحرة والجارية أو التي تمارس البغاء، بواسطة غطاء الرأس، فهو بحسب تشريعاتهم يعبر عن رمزية اجتماعية لتمييز المرأة الحرة عن الجارية، ولم يكن يحمل أي مضامين دينية، كما في الديانات التوحيدية اللاحقة.

أما على الصعيد الفني مارست النساء العزف والغناء، وكانت مهنة العزف وخاصة للعازفين في المعابد من المهن المرموقة، وعكست الأختام واللقى الأثرية مشاركة المرأة في الأدب كذلك، وعلى الرغم من كل تلك القوانين المجحفة بحق النساء، إلا أن تأثير الإمبراطورية على إيران كان ضعيفاً لأنها سيطرت على مساحات قليلة من البلاد، ولم تستطع أن تتوسع أكثر من ذلك.

المرأة الميدية

كانت الإمبراطورية الميدية إحدى الإمبراطوريات العظمى في التاريخ القديم التي أقيمت على أرض كردستان الحالية، لعبت دوراً كبيراً في نشوء الحضارة الإنسانية في المنطقة التي عرفت قديماً بـ مزبوتاميا والتي كانت تطلق على الأراضي الواقعة بين نهري دجلة والفرات.

استوطن الميديون الشمال الغربي لما يعرف الآن بإيران، واختلط بعضهم بالشعوب المحلية في جبال كردستان مكوناً الشعب الكردي، وهم قوم إيراني من السلالة الآرية، ويقطنون في منطقة تشمل جنوب أذربيجان وأجزاء من زاغروس، وقد حكموا هضبة إيران وما ورائها منذ القرن الثامن قبل الميلاد وحتى قيام السلالة الأخمينية.

امتلكت المرأة الميدية مكانة هامة ودور كبير في تقديم المشورة، هذه المكانة سمحت لها باعتلاء مناصب مرموقة وقيادة البلاد، إلا أن هذه الأدوار تمثلت خلال فترات متقطعة من تاريخ الإمبراطورية.

لمعت أسماء عدة لنساء احتللن مناصب بارزة ومرموقة من حيث تدبير شؤون الدولة وترسيخ علاقات التعايش السلمي بين أبناء الإمبراطورية الميدية من جهة، وبين ميديا والإمبراطوريات المجاورة لها من جهة أخرى، مثل بابل ومصر لذا كانت علاقات ميديا مع هاتين الدولتين الكبيرتين علاقات متينة وقوية، كما كان للنساء أدوار هامة في ترسيخ حقوق المرأة منهن الملكة الكردية (فاشتى)، التي عملت على نشر التسامح بين مكونات المجتمع الميدي.

ولدت الملكة فاشتى حوالي سنة 624 ق.م، كان والدها قائداً في الجيش الميدي، ووالدتها شقيقة الملك كي خسرو ثالث ملوك مملكة ميديا التي تأسست ما بين أعوام (678 ـ 550 ق.م).

على الرغم من أن المعلومات غير وافية عنها، إلا أنه وبحسب ما ذكر في كتابات المؤرخين فأنها ناضلت من أجل تمتع النساء بالتقدير والاحترام اللازم، وسعت لتخليصهن من عبوديتهن ومن تبعية الرجل حتى تصل للمساواة بين الجنسين.

 

الزواج السياسي

استخدمت النساء لعقد الصلح بين الإمبراطورية الميدية والإمبراطوريات المجاورة لها من خلال الزواج السياسي، كانت الملكة أرينيس زوجة آخر ملوك الإمبراطورية الميدية أستياجيس، وهي ابنة الملك الليدي ألياتس الثاني وشقيقة آخر ملوك ليديا كرويسوس، من ضحايا هذا الزواج، ربطت أرينيس بزواجها علاقات الإمبراطوريتين وعقدت الصلح بينهما في عهد ألياتس الليدي وسياخريس الميدي، وكان الصلح بوساطة إمبراطورية بابل التي كانت تتمتع بعلاقات جيدة مع كليهما.

كما أن الملك سياخريس قد زوج ابنته أميديا شقيقة الملك أستياجيس من الملك البابلي نبوخذ نصر الثاني بحدود القرن السادس قبل الميلاد، لتعزيز التحالف بين البلدين بعد أن هزموا الإمبراطورية الآشورية، فبدأت المملكتان ميديا وبابل عقد اتفاقيات سياسية وتحالفات عسكرية، وقد عرفت أميديا بالمرأة التي بنى لها نبوخذ نصر الجنائن المعلقة.

 

الخروج عن العادات

بالنسبة لنظام إدارة الأسرة في العهد الميدي، فكان يعتمد على أساس سيادة الأب وتعدد الزوجات، أما بالنسبة إلى نظام الزواج في القصور، فقد أعتاد الملوك أن يحصروا زواج أبنائهم وبناتهم ضمن الأسرة الملكية، إلا أن الملك الميدي أستياجيس خرج عن هذا التقليد بسبب حلم رأى فيه أن ابنته ستنجب ابن أو ابنة قد يطيحون به من الحكم ويقضون على مملكته.

فقرر عدم تزويج ابنته الأميرة ماندانا ابنة الملكة أرينيس زواج ملكي ضمن الإمبراطورية الميدية، خوفاً من سيطرة أولادها في المستقبل على الحكم، فزوجها من الأمير قمبيز الأول الذي ينحدر من السلالة الأخمينية التي بدورها تنتمي إلى السلالة العيلامية.

 

غداً: المرأة الإيرانية ما قبل عصر الخلافة الإسلامية