الجزائر... المرأة وأزمة الدولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

يصطدم العنف ضد المرأة في الجزائر بجدارٍ في جهود الدولة لحماية صورتها، فعقلية الدولة الذكورية، المُضلِّلة تحت ستار الديمقراطية، تُصبح مصدر أزمة عميقة في البلاد، وفي المقابل، تُفضح نضالات النساء آلية عنف الدولة الذكورية.

مركز الأخبار ـ تتميز الجزائر بكونها من أكثر دول شمال أفريقيا اكتظاظاً بالسكان، ورغم بنيتها الاجتماعية الأكثر علمانية مقارنةً بالدول العربية الأخرى، إلا أن نموذج الدولة فيها منغلق ومُسيطر عليه، محافظاً على مظهر "ديمقراطي".

لقد أكسبها نضالها الطويل والدموي من أجل الاستقلال ضد فرنسا مكانةً مرموقة كـ "رمزٍ للمقاومة" في العالم العربي، وهذا الإرث التاريخي يضع الجزائر في مكانة مرموقة بفضل معارضتها للاستعمار في أفريقيا والعالم العربي.

يتميز نفوذ الجزائر وبنيتها الاجتماعية في المنطقة، إلى جانب ثقلها التاريخي وسياساتها الحالية، ببنيةٍ مميزة للغاية، فهي تنتهج دبلوماسيةً متوازنةً في الشرق الأوسط، مُثبتةً مكانتها ضمن المعادلة الإقليمية دون إثارة توترات حادة مع أي طرف، وبينما تحمي سيادتها بدقة، تُفضل الجزائر اتباع سياسة خارجية حذرة ومتوازنة.

وتتمتع الجزائر بواحدة من أعلى نسب الشباب في العالم، وهي تحافظ على نفس النهج المتوازن والحذر الذي تنتهجه في سياستها الخارجية وفي سياستها الداخلية، إلا أن هذا النهج المنغلق غالباً ما يُترجم إلى ممارسات قمعية. إن السياسات القاسية التي تنتهجها الدولة في مواجهة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وخاصة ارتفاع معدلات البطالة، وعدم قدرة المرأة على إيجاد فرص عمل، وعدم النظر إليها كموضوعات اجتماعية وسياسية، تجر البلاد إلى أزمة عميقة.

وتتجلى الانقسامات الطبقية في المجتمع، واختلال توازن القوى بين الرجال والنساء، وقمع الهوية الأنثوية بوضوح في التمييز الجنسي. ورغم غنى الجزائر بالتنوع الديني والثقافي، إلا أن أكثر المجالات التي يُختبر فيها تحقيق المساواة في الحقوق هي معاملة المرأة، ويشكل هذا الوضع إحدى أكثر نقاط الضعف في البنية الاجتماعية الجزائرية.

 

دولة الاضطهاد المخفي

في الجزائر، تُشكّل سياسات الدولة البنية الاجتماعية للمجتمع إلى حد كبير، وحرصاً منها على الحفاظ على مكانتها الإقليمية، تُعالج البلاد قضاياها الداخلية بمنطق مماثل. في هذا الإطار، تنتهج الدولة سياسةً مُحكمة، تفرض ممارساتها القمعية والاستغلالية على المجتمع، غالباً من خلال قوانين تمييزية على أساس الجنس والدين، وهكذا، يُنشئ هذا النظام بنيةً لا تُساءل أسباب العنف، ويتجلى هذا الهيكل بوضوح في التفاعل بين المرأة والمجتمع، وكذلك في العلاقات بين الرجل والمرأة، ورغم أن توعية المرأة في السنوات الأخيرة قد أدت إلى بعض التقدم، إلا أن القواعد الأساسية للنظام لا تزال قائمة على أساس سياسي يقمع المرأة ويستغلها، ولا يعترف بها كفرد يتمتع بحرية الإرادة.

ومن أهم أسباب العنف ضد المرأة هيمنة عقلية أبوية راسخة في سياسات الدولة، ويتجلى هذا التأثير بوضوح في مؤسسة الأسرة، وكما هو الحال في جميع دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يتسم نموذج الأسرة في الجزائر بطابع أبوي واضح.

وتواجه المرأة أشكالاً مختلفة من التمييز في جميع المجالات الاجتماعية، والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، علاوة على ذلك، تُشكل التقاليد والأعراف المُشبعة بالمعايير الجنسية آلية فريدة لقمع المرأة. إن العامل الأقوى للعنف ضد المرأة هو دور الدولة في تعزيز هيمنة الرجل، فالسياسات والقوانين تُعمّق التمييز بين الجنسين، بينما يُضفي الاستخدام المتحيز للآليات القانونية ضد العنف الأسري شرعيةً فعليةً على جميع أشكال العنف ضد المرأة، وهكذا، تُصبح الدولة عنصراً فاعلاً في النظام الذي يُرسي الأسس الاجتماعية التي تدعم هيمنة الرجل، مُساهمةً بشكل غير مباشر، وإن كان قوياً، في تفاقم العنف ضد المرأة.

تدّعي الجزائر أنها تعترف بالمساواة بين الجنسين في دستورها، وقد سنّت مؤخراً عدة قوانين تُجرّم العنف الأسري، إلا أن إنفاذ هذه القوانين غالباً ما يكون ضعيفاُ، مع وجود ثغرات في التطبيق تؤدي إلى نقص كبير في ملاحقة قضايا العنف الأسري والتحرش.

رغم الخطاب المستمر حول الإصلاح، لا تزال العديد من مواد قانون الأسرة تُفضي إلى نتائج تُصب في مصلحة الرجال، ويتجلى هذا الموقف المتناقض للدولة في جميع سياساتها المتعلقة بالمرأة، فبنية قانون الأسرة، إلى جانب الضغط الاجتماعي والأعراف الأبوية الراسخة، تُحدث رد فعل عنيفاً ضد المرأة، ويُتيح هذا الوضع منصةً تُسهّل تبرئة مرتكبي العنف ضد المرأة؛ فالإجراءات بطيئة، والنظام يُشتت الانتباه.

في الجزائر، أصبح قتل النساء موضوعاً رئيسياً للنقاش العام، وبينما تسعى وسائل الإعلام والمجتمع المدني جاهدةً لتسليط الضوء على العنف ضد المرأة، لا تُبلغ الكثيرات عنه بسبب الضغوط الاجتماعية والتبعية الاقتصادية وانعدام الثقة بمؤسسات الدولة، فالعنف ضد المرأة ظاهرة قديمة ومتجذرة في الجزائر، تغذيها هياكل اجتماعية تقليدية ونظام أبوي، وفي هذا النظام، تُعتبر المرأة أدنى من الرجل. هذا النظام، الذي لا يزال قائماً في الأسرة والمجال العام، يُطمس دور المرأة في المجتمع، ويجعلها في كثير من الأحيان "جسداً بلا فعل".

لقد أُهدرت طاقة المرأة وكرامتها، وكثيراً ما أُهملت قيمة النساء وهويتهن وحقوقهن بشكل تام، ويتجلى ذلك في أنماط التنشئة الأسرية والمجتمعية، التي تضع الأبناء في مكانة أعلى وأكثر امتيازاً من البنات، ويبدأ استبعاد المرأة منذ الولادة؛ إذ يُفضّل الأبناء على البنات، ويتجلى هذا النهج الذكوري في العديد من الأمثال الجزائرية، على سبيل المثال "من كثرت بناته، ساءت أحواله"، ويعكس هذا التعبير استمرار القيم الذكورية في المجتمع. ورغم وجود القوانين، لا تزال السلطة الأبوية راسخة الجذور، ويمكن القول إن هذه القوانين غالباً ما تكون مجرد "نصوص زخرفية"، مما يفسح المجال لاستمرار العنف بأشكال جديدة، كالعنف الاقتصادي والاجتماعي والتحرش والاغتصاب.

وفقاً لبيانات مجموعة "وقف جرائم قتل النساء في الجزائر" (Halte féminicides Algérie)، قُتلت 315 امرأة بين عامي 2019 و2024. معظم هذه الحالات ناجمة عن العنف الأسري. حالياً، يُبلّغ عن حوالي 500 حالة عنف ضد المرأة شهرياً، بزيادة قدرها 12.39% مقارنةً بعام 2023. مع ذلك، لا تعكس هذه الأرقام الوضع الحقيقي تماماً؛ فقد سُجِّلت 1630 حالة عنف نفسي وجسدي ضد المرأة هذا العام، وتبرز حالات الإذلال والتهميش والضغط النفسي والاستغلال والاعتداءات الجسدية، وتُوَصَم النساء اللواتي يتعرضن للعنف الاجتماعي بألفاظ مهينة وغير أخلاقية، سواءً داخل أسرهن أو في الشوارع، ويتعرضن لضغوط نفسية شديدة.

بالإضافة إلى ذلك، سُجِّل ما لا يقل عن 96 اعتداءً مرتبطاً بالتحرش في الأماكن العامة، وهذا يجعل الشوارع مكاناً غير آمن للنساء، ويفاقم انتشار التحرش والاغتصاب والاعتداءات الأخرى اضطهادهن. يُمارس العنف ضد المرأة بأقصى درجاته في الشوارع، وكثيراً ما تغض الدولة الطرف عن هذا العنف، وتفرض السرية على القضايا المعروضة على المحاكم، مما يحول دون وصول المعلومات إلى الجمهور، وفي هذا السياق، يكتسب دور السلطات في الجزائر أهمية بالغة. إن مجرد سنّ قوانين رادعة لا يكفي؛ بل يجب إنفاذها بفعالية ومعاقبة مرتكبيها. إن غياب الرقابة الفعالة وآليات الوقاية يُفاقم انتشار العنف ويُعمّق انعدام ثقة النساء بالدولة الذكورية.

 

لا يتم تحديث الإحصائيات بشكل دوري

لم تقم المنظمات أو المؤسسات المعنية بإحصائيات رسمية لنسب العنف في السنوات الأخيرة لتبقى الأرقام مغايرة للواقع، ويجب العمل على تصحيحها، فهناك إحصائية قديمة لكنها موسعة كشفت مُعدلات الانتشار في المسح الوطني العام الذي أجري عام 2006، وجاء فيها أن حوالي نصف مليون امرأة في الجزائر تتعرضن للاعتداء البدني بانتظام بل حتى يومياً.

وحسب الدراسة حول "العُنف ضد المرأة في الجزائر.. واقع وإجراءات" فإن هذا الرقم يتنافى وبشكل صارخ مع العدد المُتدني نسبياً للحالات المُسجلة لدى السُلطات القضائية لعدة أسباب أبرزها: رفض المرأة تقديم شكاية لدى المصالح الأمنية ضد من يُعنفها من أفراد أُسرتها بسبب الحواجز أو الضوابط التي يفرضها المُجتمع أو الأعراف الاجتماعية عليها، فهي غير قادرة على مُواجهة زوجها أو أبيها أو أخيها في المحكمة وكذلك نُقص التوعية لدى المرأة.

 

وعي المرأة ينعكس على الميدان

إن الحديث عن الُعنف يُحتم علينا الحديث عن النضال النسوي في الجزائر الذي مرَ بمرحلتين هامتين تميزت كل مرحلة منهما بمحطات تاريخية ساهمت بشكل ملحوظ في بناء الرصيد التاريخي للنضال النسوي الجزائري، وتتمثل هاتين المرحلتين في مرحلة ما قبل الاستقلال ومرحلة بعد الاستقلال.

ولقد تُرجم الوعي النسوي في مرحلة ما قبل الاستقلال من خلال مشاركة المرأة الجزائرية في ثورة التحرير الجزائرية جنباً إلى جنب مع الرجل، وكانت الكثيرات منهن قائدات لمُقاومات شعبية غنية عن التعريف مثل مُقاومة لالا فاطمة محمد بن عيسى المعروفة بفاطمة نسومر المرأة التي أرهبت فرنسا وهزت عرش الاحتلال وحسيبة بن بولعيد التي تُعتبر رمزاً من رُموز الثورة وواحدة من أيقونات المقاومة وشهيدة المليون ونصف مليون شهيد ولهذا لم يستطع السياسيون إقصائهن أو إنكار الدور البارز الذي لعبنه، وتم تأسيس الاتحاد الوطني للنساء الجزائريات في 19 يوليو/تموز 1963، ومن بين أهم النشاطات التي قام بها: المطالبة بقانون أساسهُ المُساواة بين الرجل والمرأة ونظم أول مُظاهرة نسوية في تاريخ الجزائر المستقلة في 8 مارس/آذار 1965 من أجل فرض هذا المبدأ.

وبعد هذه المحطة جاءت أحداث الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 1988 (ربيع الجزائر الذي انتهى بإقرار دُستور جديد أنهى مرحلة الأحادية الحزبية وفتح باب التعددية السياسية والإعلامية)، ففي هذه الفترة برز للعلن نضال نسوي جديد في ثوب جمعيات نسوية ذات أهداف وطموحات مُتباينة، فمنها المُنادية بترقية المرأة ومنها المُطالبة بالمساواة بين الجنسين، وأخرى تُنادي بالعودة إلى الأصالة، لكن هناك أمر ينبغي ذكرهُ وهُو أن مُعظم مطالب النضال النسوي تمحورت حول تحيين قانون الأسرة عند البعض وإلغاءه عند آخرون.

على الرغم من ذلك، فإن الإرث التاريخي لنضال المرأة في الجزائر والمكاسب التي تحققت عبر سنوات من الضغط والمناصرة والمشاركة السياسية والاجتماعية لا تزال على خلاف مع الواقع الحالي، تُظهر سياسات الدولة الضعيفة وتصاعد العنف أن الإصلاحات لا تزال تقتصر على التشريعات؛ ولم يتم دعم آليات التنفيذ الفعالة، لا تزال النساء يواجهن العديد من العقبات في السعي لتحقيق العدالة؛ تخدم مؤسسات الحماية الحكومية والملاجئ ومراكز الدعم النفسي والاجتماعي مصالح الهيمنة الذكورية وتفشل في دعم النساء في مواجهة العنف. وبالتالي، فإن التاريخ الطويل لنضال المرأة الجزائرية من أجل الحرية والمساواة يتناقض مع تزايد حالات عنف الدولة ضد المرأة. واليوم، تبرز مكافحة العنف كجبهة جديدة في النضال المستمر للمرأة الجزائرية. والآن على النساء أن تجعلن مطالبهن بالحرية مسموعة بشكل أكبر.