الحراك النسائي في سويسرا من أجل أجور متساوية بين الجنسين

لم يكن الحراك النسوي السويسري والذي جرى في 14 يونيو/حزيران عام 2019، وليد الساعة وإنما له تاريخ يعود لعام 1991 عندما خرجت مجموعة من العاملات للمطالبة بالمساواة في الأجور

مركز الأخبار ـ لم يكن الحراك النسوي السويسري والذي جرى في 14 حزيران/يونيو عام 2019، وليد الساعة وإنما له تاريخ يعود لعام 1991 عندما خرجت مجموعة من العاملات للمطالبة بالمساواة في الأجور. 
 
إضراب ربيع عام 1991
تفاجئ الشعب السويسري بتحول فكرة أطلقتها مجموعة صغيرة من العاملات في مجال صناعة الساعات في منطقة جبال جورا التابعة لكانتون فو، وذلك بدعم من الزعيمة النقابية كريستيان برونر، إلى واحدة من أكبر مظاهر التحشيد السياسي في التاريخ السويسري، وشاركت في هذا الإضراب نحو نصف مليون امرأة من أنحاء البلاد، طالبن بالمساواة بين الجنسين في الأجور وبالتأمينات الاجتماعية، وكذلك من أجل وضع حد للتمييز والتحرش الجنسي.  
ولم يكن اختيار التاريخ "في عام 1991" من باب المصادفة، إذ وافق الناخبون والناخبات في سويسرا على مادة دستورية مستحدثة تقر بـ "المساواة بين الجنسين"، في 14 حزيران/يونيو عام 1981، لكنها لم تترجم على أرض الواقع، وعلى ذلك استمرت المفارقة بين الجنسين في الأجور.  
كما تزامن التحشيد النسوي مع الذكرى العشرين لـ "منح المرأة حق التصويت على المستوى الخارجي الفيدرالي"، وهو الأمر الذي جاء متأخراً بالمقارنة مع الدول الأوروبية الأخرى وبلدان العالم. وقد تم منح المرأة السويسرية الحق في الترشح والتصويت على المستوى الفيدرالي عام 1971.
وتعد المؤرخة "إليزابيث جوريس" إحدى رائدات تاريخ الحركة النسائية في سويسرا، التي ذكرت بأن فكرة التحشيد النسوي في عام 1991 لم يكن محتماً بمنحنى الإضراب، ووصفته بأنه يوم عمل وليس إضراباً، وذلك لأن مفهوم الإضراب يرتبط بالعمل المأجور، في حين عمل النساء في مجالات مختلفة تماماً وغالباً ما كان دون مرتب.
ونال مفهوم الإضراب أهمية سياسية ومكانة واضحة في التغيير، باعتبار أن مفهوم الإضراب حسب نظرة إليزابيث "هو وضع أي حراك اجتماعي، في سياق تاريخي، سيربطه بأحداث أخرى"، وفي الإضراب العام سنة 1918، لعبت النساء دوراً مهماً في إبراز حقهن في التصويت. ومع ذلك، كان من المفروض على إضراب عام 1991 مواجهة العديد من العراقيل، ففي الوسطين الاقتصادي والسياسي كانت هناك معارضة شديدة، كما وجه رئيس مجلس الشيوخ آنذاك ماكس أفولتر توصية للنساء بعدم المشاركة كي لا يُسئن إلى فضل الرجال حيال تطلعاتهن كما قال.
ومن جانب آخر، تعددت جوانب الخبرات الحياتية للنساء، داخل وخارج العمل المأجور، ولم يكن ليسمح بتبني أشكال التعبئة التقليدية، وقد تميز إضراب النساء عام 1991 بتنوع كبير في الفعاليات، وتنظيم الإضراب بطريقة لا مركزية على عكس الإضرابات التقليدية.
 
حشود شعبية وسط مدينة زيورخ
نُظم تجمّع شعبي يوم 14 حزيران/يونيو عام 1991، في ساحة هيلفيتسيا "Helvetiaplatz"، وسط مدينة زيورخ بالتزامن مع إضراب النساء السويسريات، وعلى الرغم من عدم إدراك الأهمية التاريخية لإضراب عام 1991 مباشرة، إلا أنه ترك أثراً كبيراً في سويسرا على ملفات الارتقاء بالمساواة بين المرأة والرجل ومكافحة التمييز على أساس النوع الاجتماعي، وكانت أعظم تجليات القوة الناهضة للحركة النسائية في عام 1993 بالذات، عندما رفضت الأغلبية البرجوازية "أحزاب اليمين المحافظ" في البرلمان انتخاب المرشحة الرسمية للحزب الاشتراكي "كريستيان برونر"، لعضوية الحكومة الفيدرالية، وفضّلت عليها رجلاً من حزبها.
واعتقدت الأغلبية البرلمانية أن بإمكان كريستيان برونر القيام بفعل الشيء نفسه مثلما قامت به ليليان أوشتنهاغن قبل عشر سنوات التي لم يتم انتخابها وهي مرشحة رسمية للحزب الاشتراكي، كما أضافت إليزابيث جوريس أن ردة الفعل كانت قوية وفورية، لأن الساحة الفيدرالية عجت بالمتظاهرين والمتظاهرات وكانت على رأسهم "كريستيان برونر"، وتطايرت الكرات الثلجية على رؤوس البرلمانيين، وأجبرت الجموع الوزير الفيدرالي المنتخب فرانسيس ماتاي، وبضغط من حزبه على الاستقالة، ليتم بعد أسبوع انتخاب الوزيرة روت داريفوس لعضوية الحكومة، ومنذ ذلك الحين لم يعد العنصر النسائي يفارق الحكومة الفيدرالية. 
وفي عام 1996، دخل قانون المساواة بين الجنسين حيز التنفيذ، الذي كان من بين مطالب المضربين، ووافق الناخبون السويسريون على قانون تقنين الإجهاض في عام 2002، وجرى تطبيق المادة المتعلقة بتأمين الأمومة عام 2004، التي كانت قد أدرجت في الدستور الفيدرالي منذ عام 1945. 
 
سويسرا في مؤخرة الترتيب من إحصائيات الاضراب
عندما تولت السيدة القادمة من جنيف كريستيان برونر رئاسة اتحاد نقابات عمال القطاع العام في عام 1982، كان مفهوم "السلم الاجتماعي في مكان العمل" الذي أبرمته في عام 1937، النقابات العمالية وأرباب العمل في قطاع صناعة الحديد والصلب على شكل اتفاق يلغي اللجوء إلى الاضراب كوسيلة للكفاح النقابي، ولازال قائماً ومطبقاً.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الاتفاق الذي يرسخ "السلم الاجتماعي" في مواطن العمل، بعد الحرب العالمية الثانية لم يكن عنصر أساسي لضمان النمو والرفاهية والاستقرار السياسي في الكونفدرالية فحسب، بل إنه أدى منطقياً إلى إضعاف وسائل الكفاح النقابي، حيث أصبحت سويسرا ولعدة سنوات في مؤخرة الترتيب من إحصائيات الاضراب.
وجاء الاتفاق كنتيجة متأخرة للصدمة الشديدة التي أحدثها الإضراب العام الذي شنته النقابات السويسرية في عام 1918، والذي أدى إلى اتخاذ الحكومة الفيدرالية قرار بإنزال قوات الجيش من أجل إنهاء الانتفاضة العمالية التي تمثلت حصيلتها في مقتل ثلاثة من العمال وتقهقر بلد بكامله. 
 
مارثا غوستلي من رائدات الحركة النسائية
شاركت البرجوازية المخضرمة مارثا غوستلي في إضراب المطالبة بمساواة الأجور مع الرجال والذي نظمته حركة نسائية حديثة تقوم عليها مجموعة من الشابات المناضلات من تيار اليسار في عام 1991. 
وتعليقاً على الاضراب كوسيلة حديثة من وسائل الكفاح لتحقيق المساواة في الحقوق، قالت إنها كانت من رائدات الحركة النسائية الأوائل اللواتي ساهمن فيها، وكانت تعتمد في أسلوبها ونهجها على استراتيجية العمل الإعلامي والتوعية والتعليم، وعللت ذلك بالتناسب مع الظروف السائدة في ذلك الزمن، فالنساء في الأرياف، لا تتوفر لديهن أدنى فكرة عن نظام الحياة المدنية ولا كيفية عمل المؤسسات الحكومية.
  
حدوث إضراب نسائي جديد
بالرغم من إنجازات الحركة النسائية، إلا أن قضية المساواة بين الجنسين لا تزال حديث الساعة، وقد أبرزت حركة #metoo (أنا أيضاً) عام2017، موضوع التحرش الجنسي والتمييز على أساس النوع الاجتماعي والتوجه الجنسي. وأشارت إليزابيث عام 2011، إلى أن الذكرى السنوية العشرين أذكت احتمالية إضراب نسائي جديد، إلا أن الفكرة لم تصل مداها، وذلك لأنه يتطلب قاعدة شعبية متعاطفة معها، وأعداد هائلة من جيل الشابات اللواتي يتشوقن للحركة النسائية. 
وأقر المؤتمر النسوي لاتحاد النقابات السويسرية في كانون الثاني/يناير 2018، فكرة قيام إضراب نسوي جديد على المستوى الوطني يوم 14 حزيران/يونيو في عام 2019، التي سبق أن أطلقتها دوائر نقابية وناشطات نسويات في سياق المناقشات التي رافقت تنقيح قانون المساواة بين الجنسين، بالإضافة إلى النقابات العمالية، يحظى الحدث بدعم تحالف الجمعيات النسائية السويسرية والاتحاد السويسري للنساء الكاثوليكي ترابط خارجي، وتجمع النساء الإنجيليات في سويسرا والاتحاد السويسري للفلاحات والريفيات، وقد اعتمد الإضراب شعار "الراتب، الوقت، الاحترام". كما اختارت المشاركات في هذا الحراك اللون البنفسجي الذي يدل على التغيير والتميّز.
ويعد الحراك النسوي في سويسرا حركة حقوقية تدافع عن حقوق المرأة في العمل، وغيرها من الحقوق الأساسية التي تدعم دورها الريادي في المجتمع بكافة مجالاته.