"البلدية" نظام يحمي المواطنين من سلطة الدولة ويحقق استقلالهم وحريتهم
البلدية هي دائرة حكومية تقوم بتطوير المدن والقرى المحيطة بها، وتعمل لتحسين البيئة والشوارع بزراعة الأشجار وتوصيل الإنارة إليها، ودعمها باللوحات الإرشادية، إضافةً لتنفيذ المنشآت، وتنظيم الأسواق، وكل ما يخص النشاط الثقافي، والرياضي، والاجتماعي.

سناء العلي
مركز الأخبار ـ لا يهدف النضال من أجل الحرية إلى تدمير الدولة، بل إلى ضمان ألا يصبح المجتمع معتمداً عليها في إنتاج وإعادة إنتاج نفسه؛ وكذلك يهدف لجعل الدولة مختلة وظيفياً من خلال إدارة الشعب نفسه بنفسه، وتكون هذه الإدارة وفق نظام يسمى بالبلدية والتي هي إدارة محلية تقوم ضمن نطاق عملها بالعمل وفق الصلاحيات التي منحها القانون، وفي بعض البلدان تتمتع البلدية بالشخصية المعنوية وحتى الاستقلال المالي والإداري في نطاق هذا القانون، أما في بلدان أخرى فلا تأثير حقيقي لوجودها وهنا تكمن المشكلة وتخلق الأزمة بين الدولة وإرادة المجتمع.
نظام البلدية غير معروف كثيراً في بلدان الشرق الأوسط بمفهومه الحقيقي، فهذه الأنظمة اعتادت على الإمساك بالسلطة بقبضة من حديد حتى في أصغر الأمور، وعملت على إبقاءها بيد شخص واحد ومدينة واحدة وهي العاصمة، حتى أن الكثير من البلديات لا تتمتع بالشخصية الاعتبارية أو الميزانية المستقلة أو القرار المستقل، هذا إذا ما تم استثناء عدد من التجارب التي تعد إلى حد ما ناجحة.
وتحمل البلدية على عاتقها العديد من المهام التي إن تم القيام بها على أكمل وجه تعطي وجهاً حضاري للبلاد، وتشجع السياحة، حتى أنها تعمل على تغيير العقليات تجاه العديد من المهام كالنظافة والتطوير العمراني وتنظيم الأسواق، وتخلق نوعاً من الوطنية أي الارتباط بالمكان والعمل على تحسينه.
وإنكلترا هي أول دولة طبقت نظام البلدية، حيث تم إنشاء أول مجلس بلدي رسمي عام 1325م في مدينة ليفربول، أما في البلدان العربية فيعود وجود البلديات فيها بشكله الذي سمي بـ "الحكم المحلي"، في لبنان للعام 1868، أي خلال الفترة التي حكم فيها محمد علي باشا مصر وضم لبنان إلى حكمه "في فترة الاحتلال العثماني"، وهذه التجربة ولدت بتشكل مجلس استشاري في العاصمة بيروت، لكن أعمالها لم تتجاوز تولي شؤون الصحة العامة، إضافةً للأمن والإنارة.
تأسيس البلديات تحت الاحتلال والاستعمار
تحتاج المدن والأرياف للتنظيم بغض النظر عن الظروف الصعبة التي مرت بها البلدان العربية سواء خلال الاحتلال العثماني أو البريطاني أو الفرنسي، أو الوصاية الغربية التي فرضت عليها، فلم يكن هناك مهرب من إنشاء أو تأسيس البلديات.
ففي منطقة الخليج العربي تأسست أول بلدية عام 1868 في اليمن خلال فترة الاحتلال البريطاني لمدينة عدن جنوب البلاد، أما بلدية البحرين فتأسست عام 1919، وتركز علمها في الحفاظ على البيئة والصحة وتحسين حياة الناس، ونفس العمل كانت ملزمة به أول بلدية في مدينة مكة السعودية عام (1925) خاصة مع استقبال آلاف الحجاج كل عام، أما بلدية الكويت فتأسست عام 1930، ثم تلاها تأسيس بلدية سلطنة عمان في العاصمة مسقط عام 1939، فيما تأسست بلدية دبي في الإمارات العربية المتحدة عام 1954، وخطت قطر في طريق هذه البلدان وأسست بلديتها بموجب القانون رقم (11) لسنة 1963.
وتأسست أول بلدية في فلسطين بمدينة القدس عام 1863، أما الأردن فأسست أول بلدية لها بمدينة السلط عام 1887، وفي سوريا تأسست أول بلدية بمدينة قامشلو شمال شرق سوريا عام 1925، وتعتبر أول بلدية منظمة في البلاد، ولكن بعد سيطرة حزب البعث على السلطة أصبحت البلدية حالها كحال جميع المؤسسات المدنية والخدمية لا تمتلك أي صلاحيات ليشهد عملها ضعفاً وفساد وبيروقراطية، وكنتيجة لهذه السياسة غير المسؤولة همشت العديد من المدن وحرم الريف من الخدمات الأساسية أقلها تعبيد الطرقات.
وفي العراق تأسست أول بلدية في العاصمة بغداد عام 1868، والبلدية الأولى في إيران تأسست بمدينة شيراز عام 1907، أما أفغانستان فلم يعرف متى تأسست أول بلدية فيها، إذ يقال أن مدينة بلخ التي عرفت كمركز حضري مزدهر في العصور القديمة شهدت شكلاً من أشكال الإدارة المحلية أو البلدية، أما في العصر الحديث فتأسست بلدية كابول عام 1973، وتأسست أول بلدية في تركيا بمدينة إسطنبول عام 1855، وتُعرف باسم "بلدية إسطنبول الكبرى".
وفي بلدان شمال أفريقيا فأول بلدية تأسست في الجزائر خلال فترة الاستعمار الفرنسي عام 1833، وفي تونس عام 1858، وفي مصر تأسست بلدية الإسكندرية عام 1890، وفي السودان تأسست البلدية في العاصمة الخرطوم عام 1899، ثم تأسست في ليبيا عام 1912 بلدية طرابلس، تبعتها بلدية المغرب عام 1917، أما في الصومال فتأسست البلدية في مدينة مقديشو خلال فترة الوصاية الدولية بين عامي 1950 و1960، حيث أصبحت مقديشو تتمتع بإدارة محلية صومالية.
ماذا يمكن أن تقدم البلدية للمواطن؟
تتمحور فكرة البلدية حول كونها هيئة محلية مسؤولة عن تقديم الخدمات العامة وتنظيم الحياة اليومية في نطاق عملها، من خلال تطوير المدن والقرى، وكذلك توفير الخدمات الأساسية كالصحة، والتعليم، وكل ما يتعلق بالبنية التحتية، إضافةً للنظافة العامة، وتنظيم الأسواق والمحلات.
ويمكن تعريف البلدية بأنها دائرة حكومية تقوم بتطوير المدن والقرى المحيطة بها، ومن مهامها إنارة الطرق وتحسين مظهر المدينة بزراعة الأشجار، ونصب اللوحات الإرشادية، وتنفيذ المخططات، وتنظيم الأسواق، وكذلك تصريف مياه الأمطار والمحافظة على نظافة المدينة، وللقيام بكل ذلك تتمتع البلدية بميزانية ضخمة، وبأقسام فاعلة تغطي جميع الجوانب الخدمية التي تحتاجها المنطقة، وهي القسم الفني المسؤول عن تخطيط المنشآت والطرق وتعبيدها وإصلاحها، إضافةً لقسم صحة البيئة المسؤول عن كل ما يتعلق بحماية صحة المواطنين، ومنع ما قد يضر بالبيئة، ويعمل هذا القسم على مراقبة محلات الأطعمة، وإنذار أو إغلاق ما يخالف القواعد الصحية الأساسية والنظافة، وتحمي البلدية كذلك أملاك المواطنين من عقارات، وأراضي، ومحال، بمنح أوراق الملكية لأصحابها، والبلديات الكبرى تملك حق الاستثمار وفق الميزانية المخصصة، مما يشجع السياحة.
تساهم البلدية بتنظيم المواطنين لشؤونهم وفق مبدأ أن كل شخص أدرى بمدينته وقريته واحتياجاتها، وهو الأقدر على وضع خطة تطويرها، كما يخلق العمل وفق هذا المنظور روح التضامن والتكافل والمسؤولية ضمن المدينة نفسها، ويفتح الباب للعمل الندي بين البلديات في المدن المختلفة مما يسرع عجلة التطوير ويحمي البيئة، فبلد بدون نظام بلدية سيخلق مناطق واسعة مهمشة، وقرى نائية تفتقد لأبسط الخدمات لأن المركز لا يمكنه العمل بمفرده وتغلب على مؤسساته البيروقراطية والفساد.
الانتخابات البلدية اختبار للنفوذ السياسي
البلدية هي مؤسسة خدمية بعيدة كل البعد عن السياسة، لكنها أصبحت في عدد من البلدان اختبار للنفوذ السياسي للأحزاب، واتضح ذلك في الانتخابات البلدية الأخيرة في كل من تركيا ولبنان، عندما نشأ صراع حقيقي بين القوى السياسية خلال الانتخابات باعتبارها اختبار لشعبية جهة سياسية أو حزب.
ففي الانتخابات البلدية الأخيرة بلبنان خلال شهر (أيار/مايو) اتضح تراجع حزب الله شعبياً في جميع المدن، كما أن الانتخابات تم تأجيلها لأكثر من مرة منذ تأسيس البلدية بالبلاد وحتى يومنا هذا نتيجة للأزمات السياسية التي مرت بها البلاد.
وفي تركيا تقدم البلديات نموذجاً للتنافس السياسي بين الأحزاب على خدمة المواطن، وبذلك توسع الأحزاب نفوذها بين الشعب، ولكن إرادة هذا الشعب تتم سرقتها من قبل السلطات التركية فبعد الانتخابات الأخيرة (2024) نسفت السلطات التي يقودها حزب العدالة والتنمية النتائج، وعينت أوصياء من قبلها، بعد أن لفقت التهم للناجحين واعتقلتهم.
الحضور وفعالية نظام الكوتا
هيئة الأمم المتحدة للمرأة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أكدا على ضرورة تطبيق نظام الكوتا النسائية كإجراء تشريعي إسعافي لمواجهة النظرة النمطية والتهميش بحق المرأة، والذي من شأنه ضمان مشاركة فعالة للمرأة في الحكم المحلي أو البلديات.
وعلى ذلك ارتأت العديد من البلدان تطبيق نظام الكوتا بنسب لا تتجاوز الـ 30 بالمئة للدفع بالنساء نحو العمل البلدي لكن الحقيقة أن الغالبية العظمى من البلديات لا تعطي أي فعالية للدور النسائي، ويبقى كما في جميع القطاعات القرار بيد الرجال وغالباً يستحوذ الرجال على رئاسة البلدية.
ولكن مع ذلك لا يمكن التقليل من أهمية الكوتا باعتبارها تكسر النظرة النمطية المجتمعية لوجود النساء في هذه المؤسسة، وتشجعهن للانخراط في العمل الخدمي، وتحسين مستوى المعيشة والخدمات لمناطقهن، وهن أدرى بالاحتياجات المجتمعية.
تجربة الرئاسة المشتركة وفق مشروع الأمة الديمقراطية
في كل البلديات هنالك رئيس منتخب، وفي أغلب الأحيان يكون رجل، إلا في بلديات إقليم شمال وشرق سوريا ومخمور وشمال كردستان وشنكال أي المناطق التي تطبق مشروع الأمة الديمقراطية للقائد عبد الله أوجلان، يطبق نظام الرئاسة المشتركة، الذي يوجب ترأس البلدية من قبل رجل وامرأة منتخبين يتشاركان في جميع القرارات والمسؤوليات والصلاحيات.
وفي آذار/مارس 2025، افتتحت الإدارة الذاتية في شنكال بلدية لتقديم الخدمات للأهالي العائدين بعد ارتكاب مجزرة بحقهم من قبل مرتزقة داعش الإرهابية عام 2014.
أما في مخيم رستم جودي "مخمور" الذي يضم لاجئي شمال كردستان الذين ارتكبت بحقهم الدولة التركية في تسعينيات القرن الماضي مجازر يندى لها جبين الإنسانية، فاعتمد مشروع الأمة الديمقراطية لتأسيس البلدية وبذلك تم تطبيق نظام الرئاسة المشتركة لأول مرة عام ٢٠١٤.
وفي إقليم شمال وشرق سوريا التجربة الرائدة على مستوى الشرق الأوسط، بدأ تأسيس البلديات منذ عام 2014، ويوجد الآن 57 بلديّة في كل منها مكتب خاص بالمرأة، عمله يرتكز على متابعة تطور عمل النساء، ودعم خطط زيادة عدد العاملات في البلديّات، وتطوير مشاريع المرأة، وتنفيذ مشاريع مع الكومينات، إضافةً لإقامة دورات فكريّة ومهنيّة للمرأة.
كما أن بلديات شمال كردستان شهدت حضوراً نسائياً مهماً عام 1979، وبدأ مفهوم جديد للحكومة المحلية يتشكل في كردستان، حيث شهدت الانتخابات مشاركة نسائية كبيرة، وطبقت الحركة السياسية الكردية نظام الرئاسة المشتركة لأول مرة في الانتخابات المحلية عام 2014.
تجارب ناجحة يمكن الاقتداء بها
تختلف البلديات في الشرق الأوسط عن بلديات أوروبا من عدة جوانب أولها الهيكلية وليس آخرها الصلاحيات والفاعلية، فطابع المركزية يغلب على بلديات البلدان العربية، وكذلك الدولة التي لا تترك صغيرة ولا أصغر منها إلا وتفرض عليها سلطتها، وعلى النقيض تماماً نظام بلديات عدة بلدان من أوروبا التي تتمتع باستقلالية تامة وصلاحيات واسعة في إدارة الشؤون المحلية للمدينة.
فالنرويج تعد مثالاً بارزاً ففيها تتمتع البلديات بسلطات واسعة في مجالات التعليم حتى أنها تدير باستقلالية العملية التعليمية حتى الصف العاشر، ولها صلاحية إدارة قطاع الرعاية الصحية، والتنمية الاقتصادية، والتخطيط العمراني، والخدمات المقدمة للمسنين، والرعاية الاجتماعية، والتخطيط العمراني، والتنمية الاقتصادية، والطرق والمرافق البلدية، حتى أنه في العاصمة أوسلو نظام حكم برلماني، شبه مستقل مما يساهم في تحقيق التنمية المستدامة وتعزيز جودة حياة السكان.
وفي بلجيكا أيضاً تتمتع البلديات بصلاحيات واسعة في إدارة الشؤون المحلية من تعليم ورعاية أطفال وتعبيد الطرقات، وصيانة الحدائق وإصدار رخص قيادة وإقامة، وإصدار وثائق الميلاد، والوفاة، وإقامة فعاليات تعزز الروابط الاجتماعية، وكل ما يهم المواطن بشكل مباشر.