أفغانستان... المرأة وأزمة الدولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

في ظل حكم طالبان، تحوّلت حياة النساء في أفغانستان إلى ساحة مواجهة يومية مع القمع والعنف، لم يعد التهميش مجرد سياسة، بل أصبح نظاماً متكاملاً يسلب النساء حقوقهن الأساسية ويقيد وجودهن، ومع ذلك لم تُطفأ شرارة المقاومة.

أفغانستان ـ في أفغانستان، لا يُعدّ يوم 25 تشرين الثاني/نوفمبر مناسبة رمزية فحسب، بل هو انعكاس لواقع يومي؛ يومٌ يصنف في التقويم العالمي على أنه "اليوم الدولي لمناهضة العنف"، لكنه بالنسبة للنساء في أفغانستان يمثل استعراضاً لسنة كانت فيها ممارسة العنف ليس حدثاً عابراً بل نظاماً حاكماً.

خلال هذا العام، اتخذت سياسات طالبان تجاه النساء طابعاً أكثر تماسكاً وتنظيماً وهيكلية؛ بدءاً من الإقصاء التدريجي للنساء من التعليم والعمل والفضاء العام، إلى الجلد العلني، والزواج القسري، والترحيل الإجباري للمهاجرين الأفغان من الدول المجاورة لا سيما النساء، واختفائهن قسراً، وصولاً إلى التحكم في أجسادهن، وحركتهن، وأصواتهن وحتى وجودهن داخل المنزل.

في الوقت الذي أُغلقت فيه أبواب الجامعات أمام الفتيات، وطُردت مئات النساء من أماكن عملهن، وحُبست الآلاف خلف جدران منازلهن، لم تخمد جذوة المقاومة. فقد أظهرت التجمعات الصغيرة في الشوارع، ودروس محو الأمية السرية، وشبكات التضامن عبر الإنترنت، والروايات التي تخطّت الجدران، أن النساء في أفغانستان لا يستسلمن لسياسة طمس وجودهن الاجتماعي؛ بل ابتكرن أشكالاً جديدة للحضور والمقاومة.

يروي هذا الملف عاماً بدأت فيه مظاهر العنف من السياسات العامة وامتدت إلى تفاصيل الحياة اليومية؛ ولكن في المقابل، انتقلت المقاومة أيضاً من الشارع إلى الحياة اليومية. إنها قصة نساء وقفن في وجه الإقصاء المنهجي؛ ليس لأنهن مُنحن الإذن، بل لأنهن يعتبرن أن الحق في الحياة لا يمكن التنازل عنه.

على مدار أربع سنوات من حكم طالبان، ضيق الخناق على النساء يوماً بعد يوم، حتى اضطرت بعض المناضلات إلى مغادرة البلاد لإنقاذ حياتهن وحياة أحبائهن. وقد أشارت التقارير إلى أن بداية مأساة النساء في أفغانستان تعود إلى انقلاب السابع والعشرين من نيسان/أبريل 1978، إذ قبل ذلك، كانت النساء تقاومن مجتمعاً ذكورياً، لكن مع وصول الحكومة الموالية للاتحاد السوفييتي إلى السلطة، ازدادت معاناتهن، وحُرمن من جميع حقوقهن الإنسانية من قبل الأنظمة الحاكمة.  لطالما قالت النساء في أفغانستان "كونكِ امرأة هو جريمة عظيمة في المجتمع الأفغاني".

 

البعد الحقوقي

على مدار العشرين سنة الماضية، ورغم القيود والأفكار المعادية للنساء، والحكومات التي تشكلت من تنظيمات ما بعد الثورة، ورغم العنف الأسري، والإهانات، والزواج القسري، والرجم، وقطع آذان وأنوف النساء، ومئات الجرائم الأخرى، استطاعت النساء والمدافعات عن حقوق المرأة أن يحققن إنجازات مهمة، وأن ينجحن في إقرار قوانين جوهرية لضمان حقوق النساء.

في دستور أفغانستان الذي يعتبر المرجعية العليا للتشريعات، تم التأكيد على مبدأ المساواة في الحقوق بين النساء والرجال. ورغم المعارضة الشرسة من قبل الجماعات المتطرفة والتيارات المتشددة، تم إقرار قانون مكافحة العنف ضد النساء. كما تم التوقيع على عدد من الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق المرأة، وإنشاء محاكم متخصصة للنظر في قضايا العنف القائم على النوع الاجتماعي. إلى جانب ذلك، تأسست وزارة شؤون المرأة، وتم إنشاء مراكز إيواء آمنة للنساء الهاربات من العنف، وظهرت منظمات مدنية عديدة تُعنى بالدفاع عن حقوق النساء وتعزيز مكانتهن في المجتمع.

يجب التأكيد على أن هذه الإنجازات لم تكن منّة من الحكومات، بل ثمرة نضالٍ مستمر وجهودٍ واعية بذلها نساء ورجال مثقفون من المجتمع الأفغاني، ففي كثير من الحالات، كانت الحكومات نفسها تُشكّل عائقاً أمام ارتفاع صوت النساء ومطالبتهن بحقوقهن.

لكن بعد الخامس عشر من آب/أغسطس 2021، ومع عودة طالبان إلى الحكم وتغيير الوجوه، تم القضاء على جميع تلك المكاسب والإنجازات، فبموجب مرسوم واحد، أُلغيت جميع القوانين والتطورات القانونية المتعلقة بحقوق النساء، وتم تحويل المؤسسات الخاصة بالنساء إلى مكاتب تابعة لوزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 

وقد تجلّت العداوة الصريحة لطالبان تجاه النساء في إصدار أكثر من 30 مرسوماً من قبل زعيم الحركة الملا هبة الله آخندزاده، كان هدفها تقييد النساء إلى أقصى حد، بل واعتبار صوت المرأة "عورة"، وتحولت وزارة الأمر بالمعروف عملياً إلى جهاز لقمع النساء وإهانتهن.

 

البعد الهوياتي

لقد تم اختزال هوية النساء في أفغانستان، على مدار أكثر من أربعة عقود، إلى مفاهيم مثل "الشرف"، "الشرعية"، "الغيرة"، و"الكرامة"؛ وهي مفاهيم تضافرت فيما بينها لتغذية العنف والجرائم المرتكبة بحق النساء. وفي السنوات الأربع الأخيرة، سعت حركة طالبان من خلال حرمان النساء من حق التعليم والعمل والمشاركة الاجتماعية، إلى القضاء على الهوية النسائية أكثر من أي وقت مضى.

في ظل الظروف الراهنة، تلجأ العائلات إلى تزويج بناتهن لأقاربهن هرباً من الزواج القسري الذي تفرضه حركة طالبان. يضطر الآباء والأمهات إلى بيع بناتهم لإنقاذ حياتهم وحياة أبنائهم الآخرين. وتلجأ النساء إلى التسول أو البيع في الشوارع لتأمين لقمة العيش لأطفالهن، وإذا لم يتوافق سلوكهن مع رغبة طالبان، يُزَجّ بهن في السجون. لقد أصبحت هوية المرأة الأفغانية اليوم محصورة في غطاءٍ إجباري تفرضه طالبان.

في هذا الوضع أصبح من يحدد هوية النساء هم رجال الدين الذين يتلقون الدعم من دول مثل الولايات المتحدة، باكستان، روسيا، الصين، الهند، إيران، تركيا، قطر، وبعض الدول الأوروبية، وقد صرحت النساء المهددات في أفغانستان مراراً بأن الدول المتورطة في هذه الأزمة، من جهة تقدمنا كضحايا لطالبان، ومن جهة أخرى تتظاهر بإنقاذنا من خلال شعارات حقوق الإنسان التي ترفعها في بلدانها.

ورغم هذه الظروف، لم تستسلم النساء في أفغانستان لهذه الهوية المفروضة بل واصلن المقاومة بشجاعة من خلال إنشاء مكتبات سرّية، ومدارس منزلية، وصالونات تجميل غير رسمية، وأنشطة مدنية تحت الأرض، ومسيرات واحتجاجات خفية. لقد أعادت النساء تعريف هويتهن الإنسانية من خلال فضح جرائم طالبان، ورفضن أن يُحكمن بالسجن الأبدي.

 

إحصائيات جرائم طالبان ضد النساء

وفقاً لتقرير صادر عن إحدى وسائل الإعلام المحلية في أفغانستان، تم جلد 715 شخصاً علناً خلال السنوات الثلاث الماضية، من بينهم 136 امرأة.

لا تُقدّم حكومة طالبان أي إحصاءات رسمية أو موحدة بشأن جرائم القتل أو الانتحار أو غيرها من الجرائم. ورغم أن منظمة الصحة العالمية تعتبر معدل الانتحار في أفغانستان أقل من المتوسط العالمي، فإن التقارير المحلية وشهادات الأطباء الأفغان تشير إلى ارتفاع ملحوظ في حالات انتحار النساء بعد عام 2021، وتشمل هذه الجرائم ما يُعرف بجرائم "الشرف"، والعنف الأسري، وعمليات القتل ذات الطابع السياسي.

منذ تولّي طالبان السلطة، حذّرت مؤسسات مثل بعثة الأمم المتحدة للمساعدة في أفغانستان ((UNAMA، ومنظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش مراراً من أن سياسات طالبان تمثل انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان الخاصة بالنساء، وقد تم الإبلاغ عن العديد من حالات القتل المتعمد للنساء في ولايات كابول، بلخ، هرات، وبدخشان.

وردت في تقارير الأمم المتحدة أن "طالبان والجماعات المرتبطة بها قاموا في بعض الحالات، بعد اعتقال النساء بتهم غامضة مثل الفجور أو مخالفة الأوامر الشرعية، بتعذيبهن ثم إخفائهن قسراً. وتعيش أسر الضحايا في صمت وخوف، دون أي إمكانية لتقديم شكوى أو متابعة قانونية".

قالت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقريرها لعام 2023 "العديد من جرائم قتل النساء في فترة حكم طالبان لا يتم تسجيلها أو يتم التستر عليها عمداً، وهذا التستر يؤدي إلى تضخيم الأرقام الحقيقية للعنف بشكل كبير".

إلى جانب القتل والاختفاء القسري، تُظهر العقوبات الجسدية، وخاصة الجلد العلني، الوجه الحقيقي لجرائم طالبان ضد النساء، فوفقاً لتقارير منظمة العفو الدولية وتأكيد مكتب ((UNAMA، فقد تم تسجيل أكثر من ألف حالة جلد علني في ولايات مختلفة من كانون الأول/ديسمبر 2022 حتى تموز/يوليو 2024، وكانت مئات النساء من بين الضحايا. وقد نُفذت معظم هذه العقوبات بتهم مثل "الهروب من المنزل"، "علاقة غير شرعية"، أو "لباس غير محتشم"، دون أي محاكمة عادلة، وتتحمل وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التابعة لطالبان المسؤولية الرئيسية عن تنفيذ هذه العقوبات، حيث يتم جمع الناس لمشاهدتها بهدف "إعطاء عبرة".

في مجال التعليم، أغلقت طالبان منذ آب/أغسطس 2021 أبواب المدارس الثانوية للبنات فوق الصف السادس، وفي كانون الأول/ديسمبر 2022، حظرت أيضاً التعليم العالي للنساء. ووفقاً لتقرير صادر عن اليونسكو في آب/أغسطس 2025، حُرمت أكثر من مليونين ومئتي ألف فتاة من حقهن في التعليم الثانوي والجامعي.

بسبب إغلاق أبواب التعليم والعمل أمام النساء، تصاعدت بشكل ملحوظ حالات الزواج القسري وزواج القاصرات، وتشير بيانات صادرة عن اليونيسف وعدد من المنظمات غير الحكومية إلى أن نسب زواج الفتيات دون سن الثامنة عشرة بلغت في بعض الولايات ما بين 40% و50%، وتضطر العديد من العائلات، تحت وطأة الفقر، إلى تزويج بناتها مقابل المال أو المواد الغذائية، وفي تقريرها لعام 2024، شددت الأمم المتحدة على أن سياسات طالبان لم تقتصر على انتهاك حقوق الإنسان الخاصة بالنساء، بل ساهمت أيضاً في ترسيخ دوامة من الفقر والعنف واليأس داخل المجتمع.

بالتزامن مع القيود المفروضة على التعليم، أصدرت طالبان في كانون الأول/ديسمبر 2022 مرسوماً يمنع النساء من العمل في المنظمات غير الحكومية، ثم وسّعت هذا الحظر ليشمل المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص. ووفقاً لتقرير هيئة الأمم المتحدة للمرأة لعام 2024، فقد فقدت نحو 90% من العاملات وظائفهن، مما أدى إلى دخول ملايين النساء المعيلات للأسر في حالة من الأزمة، ولا يُسمح إلا لعدد محدود منهن بالعمل في القطاعات الصحية أو التعليمية، وذلك بشرط أن يكن برفقة محرم.

أعلن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة في العام نفسه أن هذه السياسات أدت إلى تفاقم الفقر وزيادة اعتماد النساء، مشيراً إلى أن عدد النساء غير القادرات على تأمين احتياجاتهن الغذائية اليومية بلغ مستوى غير مسبوق.

 

الكوارث الطبيعية (الزلازل)

تعد النساء والأطفال الأكثر تضرراً من كارثة الزلزال الذي تعرضت له أفغانستان في التاسع من أيلول/سبتمبر 2025، فأكثر من 11,600 امرأة حامل احتجن إلى رعاية طبية عاجلة، في ظل ظروف صعبة تميزت بضعف الوصول إلى الخدمات الصحية، وأظهرت التقييمات السريعة المبنية على النوع الاجتماعي أن خطر العنف القائم على النوع ارتفع بشكل كبير في المناطق المتضررة، خصوصاً في ولاية كونر، حيث كانت نصف النساء والفتيات بحاجة إلى خدمات دعم الناجين من العنف قبل الزلزال الذي فقم من هذه الأوضاع.

في المخيمات المؤقتة، واجهت النساء والفتيات تحديات خطيرة، من بينها نقص في مرافق المياه والصرف الصحي، وانعدام الخصوصية، ووجود طوابير مختلطة للرجال والنساء، بينما كانت إدارة المساعدات تتم غالباً من قبل الرجال، مما زاد من احتمالات التعرض للعنف والاستغلال. لم تتجاوز نسبة النساء العاملات في المجال الطبي في الولايات المنكوبة الـ 10%، ما حرم الكثير من النساء من الوصول المباشر إلى الرعاية الصحية والنفسية.

وتأتي هذه القيود في سياق عام من العنف الممنهج ضد النساء، حيث تشير التقارير إلى تسجيل مئات حالات قتل النساء وأكثر من 840 حالة عنف جنسي في السنوات الأخيرة فقط، وبذلك فإن النساء والفتيات في أفغانستان لم يكنّ ضحايا مباشرة للكوارث الطبيعية فحسب، بل واجهن أيضاً تهديدات ممنهجة من العنف القائم على النوع، إلى جانب حرمان شديد من الخدمات الإنسانية والطبية.

 

الكوارث الإنسانية (اللاجئون) 

وضع اللاجئين:

في الأشهر الأخيرة، أدّت موجة واسعة من ترحيل اللاجئين الأفغان من الدول المجاورة، خصوصاً باكستان وإيران، إلى نشوء أزمة إنسانية جديدة، ووفقاً لتقارير المنظمة الدولية للهجرة (IOM) والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، فقد تم ترحيل أكثر من مليون ونصف أفغاني من باكستان، ونحو نصف مليون من إيران، قسراً أو تحت الضغط، خلال الفترة من تشرين الأول/أكتوبر 2023 حتى تموز/يوليو 2025.

عاد الكثير من هؤلاء الأشخاص إلى أفغانستان وهم محرومون من المأوى والغذاء والخدمات الصحية الأساسية، وتكتظ المخيمات المؤقتة في ولايات ننكرهار وقندهار وهرات بعائلات كانت تعيش لسنوات في الخارج، لكنها اليوم تواجه واقعاً قاسياً دون أي مصدر للبقاء أو دعم يُذكر.

حذّرت منظمات الإغاثة من أن عمليات الترحيل القسري للاجئين الأفغان تجري في وقت تواجه فيه البلاد أزمة حادة من الفقر والبطالة والقيود السياسية، ما يجعلها غير قادرة على استيعاب هذا العدد الكبير من العائدين.

وتُعد النساء والفتيات من بين الفئات الأكثر هشاشة بين العائدين. فقد كانت الكثير منهن يتمتعن في دول اللجوء بإمكانية الوصول إلى التعليم والعمل ودرجة من الحرية، لكنهن بعد العودة واجهن قوانين طالبان الصارمة التي تحرمهن من حق التعليم، التوظيف، والمشاركة المجتمعية. وتشير تقارير اليونيسف وهيئة الأمم المتحدة للمرأة إلى أن عدداً كبيراً من النساء العائدات يتعرضن لخطر الزواج القسري، الفقر، والعنف الأسري. كما أن غياب مراكز الدعم، واشتراط وجود محرم، ونقص الخدمات الصحية، جعل حياة النساء في المخيمات الحدودية في حالة حرجة.

وتؤكد منظمات الإغاثة أن هذه العودة القسرية تحدث في ظل تفاقم الأزمة البنيوية في أفغانستان، واستمرار الفقر والبطالة، في ظل حكومة تتبنى نهجاً سياسياً دينياً في سياساتها الداخلية والخارجية، ما أدى إلى تراجع البلاد بشكل أكبر، ولا تمتلك الدولة القدرة على استيعاب هذا الكم من السكان العائدين.

ومع ذلك لم تكن النساء الأفغانيات مجرد متفرجات على القيود المفروضة عليهن خلال العام الماضي، فرغم الحظر المفروض على التعليم والعمل والمشاركة العامة، استطعن في مختلف أنحاء البلاد ابتكار أشكال جديدة من المقاومة والصمود.

 

كابول... الصفوف المنزلية وشبكات التعليم السري

بعد إغلاق الجامعات والمدارس أمام الفتيات، بادر عدد من المعلمات السابقات في مناطق دشت برتشي، قلعة فتح ‌الله، وكارته ‌سه إلى تنظيم صفوف تعليمية سرّية للفتيات بين سن 12 و20 عاماً. كانت هذه الصفوف تُعقد داخل المنازل، وبحضور محدود يتراوح بين 7 إلى 12 طالبة، بهدف تفادي لفت انتباه عناصر طالبان.

 

شملت المواد الدراسية الرياضيات، اللغة الإنجليزية، الأدب، وأحياناً العلوم الأساسية. لم يكن للمعلمات دخل ثابت، بل كانت التكاليف تُغطّى من خلال تبرعات محلية أو مساهمات بسيطة من الأسر. هذه المبادرة تمثل شكلاً من أشكال المقاومة التعليمية، وتعبيراً عن إصرار المجتمع على استمرار التعلم رغم القيود الصارمة.

هرات... شبكات الخياطة والاستقلال المالي المنزلي

في مناطق بل ‌رنكینه، شيدايي، والناحية السادسة، شكلت النساء مجموعات صغيرة تهدف إلى تحقيق قدر من الاستقلال المالي من خلال الخياطة، التطريز، وصناعة الحرف اليدوية. لم يكن الهدف من هذه المبادرات مجرد كسب الدخل، بل الحفاظ على الهوية الاجتماعية للمرأة بصفتها "فاعلاً حيّاً في المجتمع".

بعض هذه المنتجات لم تُرسل إلى داخل أفغانستان، بل تم تسويقها عبر الإنترنت وشحنها إلى مشترين في إيران وتركيا، ما أتاح للنساء فرصة للتواصل الاقتصادي خارج الحدود، رغم القيود المفروضة عليهن داخل البلاد، هذه المبادرات تمثل نموذجاً للمقاومة الصامتة والابتكار الاجتماعي في وجه التهميش.

 

مزار شریف: حلقات القراءة وتوثيق روايات العنف

على مدار العام الماضي، نظّمت مجموعات صغيرة من النساء في مدينة مزار شريف جلسات أسبوعية للقراءة والنقاش، حيث ناقشن قضايا اجتماعية وسياسية، وفي الوقت نفسه قمن بتوثيق روايات شخصية تتعلق بالاعتقال، التهديدات الأسرية، والهجمات على التجمعات النسائية.

تم تشفير جزء من هذه الروايات وإرسالها إلى منظمات حقوق الإنسان ووسائل إعلام ناطقة بالفارسية خارج البلاد، بهدف منع طمس هذه التجارب وتوثيق العنف المنهجي بشكل مستمر. هذا النشاط لا يقتصر على التوثيق، بل يُعد شكلاً من أشكال المقاومة المدنية، وسعياً للحفاظ على الذاكرة الجماعية للنساء في مواجهة القمع.

 

احتجاجات رمزية وقصيرة الأمد

في جلال ‌آباد وننكرهار التي يفرض فيها طالبان رقابة صارمة، لجأت النساء إلى أشكال رمزية من الاحتجاج بدلاً من التجمّعات في الشوارع، تمثّلت هذه الأشكال في كتابة عبارات قصيرة على الجدران، نثر أوراق صغيرة تحمل رسائل الحرية، أو حتى تعليق شال أبيض على النوافذ.

هذا النوع من المقاومة، الذي يستبدل الحضور الجماعي بالإشارات اليومية، سمح بنشر الرسائل الاحتجاجية في نسيج الحياة العادية، دون إثارة الانتباه المباشر، لكنه حمل دلالات قوية على استمرار الرفض والصمود.

 

النساء في المنفى... رابطات الداخل بالخارج

عشرات النساء من الصحفيات والناشطات الحقوقيات والمدنيات المقيمات في إيران، باكستان، ألمانيا، فرنسا وكندا أدّين دوراً محورياً كـ "جسر تواصلي" بين الداخل والخارج، فقد تلقّين معلومات أولية، روايات، صوراً وشهادات من داخل أفغانستان، وقمن بنشرها دون الكشف عن هوية المصدر، حفاظاً على سلامتهن.

اعتمدن على شبكات خاصة عبر تطبيقات مثل واتساب وسيغنال لضمان نقل المعلومات بشكل آمن، وبفضل وعيهن بخطر التعذيب والاعتقال الذي تواجهه النساء داخل البلاد، صمّمن نظاماً متعدد الطبقات لنقل الروايات، يضمن الحماية والسرية، ويسهم في إبقاء صوت النساء الأفغانيات حياً في الساحة الدولية.

 

انتصار المقاومة على جميع الأزمات

في نهاية المطاف، أصبحت أربع سنوات من حكم طالبان مرادفاً للقمع المنهجي للنساء في أفغانستان: القتل، التعذيب، الجلد العلني، حرمان النساء من التعليم والعمل، وفرض الزواج القسري، في أفغانستان، لم تُحرَم النساء من الحقوق المتساوية فحسب بل دُفعن إلى موقع من الدرجة الثانية، بل وحتى خارج التصنيف الإنساني. النظام الأفغاني القائم على أيديولوجيا الإسلام السياسي، يمرّ بأزمة عميقة ويشهد عملية فساد اجتماعي وبنيوي. ولا يمكن الخروج من هذه الأزمة الإنسانية والوجودية إلا من خلال حلول تقودها النساء.

إن أفغانستان ديمقراطية لا يمكن أن تتحقق إلا في ظل نظام يعترف بهوية النساء ويعززها. لكن حكومة طالبان لا تملك مثل هذا التصور، ولا تسعى إليه. علاوة على ذلك، فإن المنظمات الدولية تتعامل مع أفغانستان ونساءها بنفاق وحسابات سلطوية. المسؤولون الحقيقيون عن الأزمة الإنسانية في أفغانستان هم تلك البُنى التي، من أجل مصالحها، أغرقت الشرق الأوسط في مستنقع من الجهل، وانعدام الفلسفة، وغياب الوعي.

ومع ذلك، لم تصمت النساء الأفغانيات أمام هذا النظام المدمر المفروض، بل خلقن أشكالاً جديدة من المقاومة رغم كل الصعوبات، وعلى الرغم من حظر مشاركتهن في التعليم والعمل والمجال العام، فإن النساء في جميع أنحاء البلاد يواصلن النضال من أجل الحياة والوجود.

لقد أوصلت النساء الأفغانيات، بشجاعتهن وإبداعهن، أصواتهن إلى العالم، وأثبتن أن العنف والتمييز المنهجي مهما بلغ شدته، لا يمكنه قمع إرادة الإنسان ومقاومته، ولا يمكن اختزالهما في الصمت أو الاستسلام.