طوفان الكرامة في الساحل السوري

 مقال بقلم الكاتبة والصحفية هيفيدار خالد

بتاريخ 27 من الشهر الحالي دعا رئيس المجلس الإسلامي العلوي الأعلى في سوريا والمهجر، الشيخ غزال غزال، إلى الخروج في مظاهرات سلمية حاشدة للتنديد بالهجوم الإرهابي الذي وقع في مدينة حمص وسط البلاد، في مسجد الإمام علي بن أبي طالب، والذي أسفر عن سقوط ثمانية شهداء و18 مصاباً. كما دعا للتنديد بالواقع الذي يعيشه العلويون اليوم في سوريا، مؤكداً أنهم لا يريدون حرباً أهلية، بل يسعون لتحقيق فدرالية سياسية في سوريا الجديدة؛ سوريا العدالة والكرامة التي تحمي حقوق جميع الأقليات العرقية والدينية وتحافظ على وجودهم عبر تحقيق مطالبهم المشروعة. وذلك من أجل السوريين الذين عاشوا سنوات طويلة في الخوف والكبت والمهانة تحت حكم البعث القمعي.

في صباح يوم الأحد المصادف 28 من الشهر الحالي، لبّى الآلاف من السوريين في الساحل السوري نداء الشيخ غزال غزال، وتدفقوا إلى الميادين والساحات، وخرجوا في اعتصامات كبيرة شهدتها عشرات المدن والقرى. وشاركت فيها مختلف فئات المجتمع، وكانت النساء في طليعة هذه التظاهرات السلمية التي تحولت إلى طوفان بشري لفت أنظار الجميع، وأطلق عليه السوريون اسم "طوفان الكرامة". ردد المتظاهرون شعارات تعكس مطالبهم في الحرية والعيش الكريم وحياة تليق بتاريخهم. نعم، لقد كسر السوريون حاجز الخوف، وعبّروا علناً عن سخطهم من سياسات السلطة الحالية في دمشق، مؤكدين بوقفتهم الشجاعة ومطالبهم الصريحة استمرار نضالهم السلمي ومطالبهم المحقة والمشروعة رغم الظروف الصعبة.

رفع المتظاهرون لافتات عبّرت عن مطالبهم الأساسية في ظل ما يتعرضون له من انتهاكات وممارسات إجرامية ترقى إلى جرائم حرب، مثل "نطالب بالفيدرالية لأن الأمن حق وليس امتياز"، "فدرالية.. فدرالية"، "اسمع يا عالم، الشعب العلوي لا يركع"، "سلمية بدنا ياها"، "اعتصام الكرامة.. العلويون يُبادون بصمت"، "أوقفوا خطف النساء العلويات"، "أطلقوا سراح المخطوفين"، "الفيدرالية إنهاء للتهميش وتأسيس للعيش المشترك"، "بدي بابا"، و"علوية، سنية، مسيحية، درزية، كردية.. كلنا إخوة". كما رفعوا شعارات وطنية تؤكد وحدة سوريا، وطالبوا بالإفراج عن المعتقلين لدى السلطة في دمشق، وبالعدالة الانتقالية ومحاسبة مرتكبي الجرائم بحق أبناء مدنهم وبلداتهم، وتحقيق الحرية لجميع المكونات السورية.

المظاهرات التي شهدتها مدن الساحل السوري مثل: القرداحة، جبلة، طرطوس، حمص، الدالية، بانياس، مصياف، سهل الغاب واللاذقية، شكّلت الحدث الأكبر والأهم بالنسبة لسكان هذه المنطقة والشعب السوري عموماً. فقد فاجأت الحشود جميع السوريين رغم محاولات القمع من قبل مسلحي الحكومة المؤقتة، وأعادت إلى قلوبهم شعوراً بأن الشعب قادر على مواجهة السياسات التي تحاول النيل من عزيمته وكرامته وحقوقه المشروعة. لكن هذه المظاهرات السلمية قوبلت بعنف شديد، حيث هاجمت عناصر ما يسمى "الأمن العام" التابعين لوزارة الدفاع في الحكومة الانتقالية الحشود العزّل، وأطلقوا الرصاص الحي. بالتزامن، استُقدمت تعزيزات عسكرية إلى مدن الساحل، وترافقت مع تهديدات بالذبح للعلويين وسط تكبيرات تدعو للقتل والترهيب، في مشهد مأساوي أعاد إلى الأذهان ممارسات حزب البعث بحق الشعب السوري. ومع ذلك، لم تهزم هذه الهجمات عزيمة المتظاهرين، بل صمدوا ولم يرضخوا.

استشهد مدنيان عزّل بطريقة الذبح، أي بالإعدام الميداني، وأصيب 50 آخرون، إضافة إلى اعتقال العشرات وتعرض المئات للضرب المبرح على يد مسلحي السلطة الانتقالية. حتى المشايخ المسالمون الذين لم يشاركوا في المظاهرات، مثل الشيخ علي هلهل رئيس المجلس الإسلامي العلوي في طرطوس، لم يسلم من القمع، إذ اعتُقل على خلفية دعوته لتلبية نداء الشيخ غزال. والسؤال يبقى: من المسؤول عن كل هذه الجرائم، ومن سيحاسب عليها؟ إذ دخل المسلحون المدن والقرى العلوية وهددوا بالقتل مجدداً، ما جعل الأهالي يعيشون حالة من التوتر والقلق وعدم الاستقرار.

كان يوماً مليئاً بالقمع الدموي للاعتصامات السلمية بعد الهجوم الإرهابي في مسجد الإمام علي بن أبي طالب بحمص. ظهرت صور ومشاهد حيّة تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي، لم تعد مجرد توثيق للحظات عنف، بل تحولت إلى مرايا مشروخة تعكس انهياراً أخلاقياً مرعباً. الإعلام العربي غض الطرف عن الجرائم المرتكبة بحق السوريين، فيما ظهر عناصر الأمن العام وهم يحملون السلاح ويواجهون المتظاهرين السلميين أمام أنظار الجميع وعدسات الكاميرات دون خوف، بل متباهين بقتل المدنيين العزّل. لتكشف الحكومة عن وجهها الدموي وحقيقتها القمعية مجدداً، خاصة مع سجلها الأسود في الجنوب السوري بحق الدروز، والمجازر التي ارتُكبت في الساحل في آذار الماضي، دون محاسبة للمجرمين الذين ينهشون ما تبقى من الروح السورية الأصيلة ونسيجها الاجتماعي.

الأوضاع في سوريا، التي طحنتها آلة القمع لعقود ثم مزقتها الحرب، ستتغير بعد هذه الفعالية السلمية التي قادها أبناء الساحل وأكدوا فيها تمسكهم بحقوقهم المشروعة. فقد أظهروا للجميع أن سوريا بحاجة إلى حوار داخلي بين مكوناتها، ونظام سياسي لا مركزي يمثل الجميع. نعم، من مجازر الساحل إلى تفجير كنيسة مار الياس، ومن دماء جرمانا وصحنايا إلى السويداء، وما جرى في الساحل يوم الأحد، تتجلى حقيقة قاسية: أن كل هذا الجبروت لن يوقف السوريين عن التوحد في وجه سياسات السلطة ذات اللون الواحد، التي لا تستطيع مداواة جروحهم العميقة. فكل سوري اليوم يتوق لرؤية الأمن والأمان والعيش في دولة ذات سيادة، بإدارة ديمقراطية ودستور ينهي سنوات العنف والاضطهاد.

المجلس الإسلامي العلوي الأعلى في سوريا والمهجر وصف أحداث الساحل يوم الأحد بأنها "انتهاك فاضح وواضح للقوانين الإنسانية والمواثيق الدولية التي تكفل حرية التعبير والتظاهر السلمي"، في مشهد يُدين الصمت الدولي. فيما حمّل مجلس سوريا الديمقراطية الحكومة الانتقالية مسؤولية تداعيات قمع التظاهرات، وأدانت الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال شرق سوريا القمع، محمّلة الحكومة مسؤولية خطاب الكراهية والتحريض، وداعية إلى بناء سوريا ديمقراطية فدرالية.

حتى الآن، تلتزم الدول العربية الصمت حيال ما تعرض له الشعب السوري من قبل عناصر الأمن العام، وكأن القتلى والمصابين من عالم آخر لا يعنيهم أمرهم. ويبقى تصعيد النضال السياسي السلمي الخيار الأمثل للشعب السوري، الذي أصبح ضحية لسياسات الهيمنة العالمية ومخططاتها التوسعية ومصالحها الاقتصادية. وحدة سوريا وشعبها تمر عبر النضال المشترك والإرادة المشتركة، والنساء السوريات قادرات على قيادة هذه المرحلة، كونهن الأكثر تضرراً من سياسات السلطة المتشددة التي تحكم البلاد اليوم. إن نضال المرأة المشترك هو سبيل حياة كريمة تليق بجميع السوريين الأحرار، وتحقيق مطالبهم في الفيدرالية السياسية.