سيرة غربتلي أرسوز بين العلم والنضال
حولت الصحفية غربتلي أرسوز سؤالها الوجودي "من أنا؟" إلى مسار نضالي عميق، لتصبح رمزاً للمقاومة النسائية، وبفضل إصرارها وشجاعتها، لا تزال حتى اليوم تُلهم الصحفيات وتضيء طريقهن في البحث عن الحقيقة ومواجهة الظلم.

ساريا دنيز
مركز الأخبار ـ قالت غربتلي أرسوز التي اعتبرت أن كارثتي تشيرنوبيل وحلبجة شكّلتا نقطة تحول حاسمة في حياتها "هذان الحدثان كانا يفترض أن يثيرا اهتمام الكيميائيين أكثر من غيرهم، لكن ردود فعلهم أصابتني بالدهشة، وبدأت أطرح على نفسي أسئلة وجودية من أنا؟ وماذا سأفعل؟".
كانت غربتلي أرسوز كيميائية، لكن كارثتي تشيرنوبيل وحلبجة، اللتين أودتا بحياة آلاف البشر، دفعاها إلى إعادة النظر في مسارها، لتكرّس حياتها لاحقاً للنضال من أجل عالم أكثر حرية وعدالة، ومن أجل الحقيقة التي آمنت بها حتى النهاية.
بنضالها الفريد، كتبت اسمها في صفحات التاريخ، وكانت من النساء القلائل اللواتي قدّمن إجابة عملية عن سؤال كيف تتحرر المرأة؟ ولماذا تعيش؟
يُذكر اسم غربتلي أرسوز بأحرف بارزة في تاريخ الصحافة النسائية الكردية، فهي أول امرأة تتولى منصب رئيسة تحرير في تركيا، وقد فقدت حياتها في الجبال التي أحبّتها ووصفتها بأنها موطن قلبها، وبعد رحيلها، أصبح تاريخ وفاتها يُخلّد كيوم للصحفيين الكرد.
وعلى الرغم من مرور السنوات، لا تزال مصدر إلهام للصحفيات الكرديات، تنير دربهن وتمنحهن القوة للاستمرار في مواجهة الظلم.
حين تتحول الأسئلة الوجودية إلى مقاومة
وُلدت غربتلي أرسوز في 11 تموز/يوليو 1965 في قرية أكبولوت التابعة لقضاء بالو في ولاية إيلازيغ، كان والدها يعمل في ألمانيا كعامل آنذاك، ولهذا سماها "غربتلي"، المستوحى من "الغربة".
في الصف الثالث الابتدائي، بدأت تشعر بحاجز لغوي بينها وبين زميلاتها ومعلماتها، ما دفعها منذ الصغر إلى التأمل والتساؤل، مرت السنوات والتحقت بقسم الكيمياء في كلية الآداب والعلوم بجامعة تشوكوروفا بأضنة، ثم حصلت على درجة الماجستير في تخصص "البيئة والطاقة".
خلال تلك المرحلة، بدأت نشاطها الثوري والنضالي، لكنها واجهت عراقيل حالت دون تقدمها في المسار الأكاديمي، لتتجه بكل قناعتها نحو طريق النضال من أجل الحرية والعدالة.
في سنوات شبابها الأولى، بدأت غربتلي أرسوز مسيرتها الصحفية، لكن في 10 كانون الأول/ديسمبر 1990، تم اعتقالها وتعرضت لتحقيق دام 15 يوماً، خضعت خلاله لتعذيب شديد، قبل أن تُرسل إلى سجن ملاطيا، وبعد عامين من الاعتقال، عادت إلى الصحافة بإصرار أكبر، وفي 26 نيسان/أبريل 1993، التحقت بصحيفة "أوزغور غوندَم"، حيث تولّت منصب رئيسة التحرير، لتصبح أول امرأة تتولى هذا المنصب في تاريخ الصحافة التركية، وتُسجّل بذلك سابقة تاريخية.
كانت غربتلي أرسوز تصف تجربتها بكلمات مؤثرة، قائلة "عُذّبت كثيراً حتى وصلت إلى مفترق طرق، إما أن أموت، أو أقبل أن أكون من حزب العمال الكردستاني، اخترت الحياة، لا شيء تغيّر؛ الأمر يشبه الكيمياء، فأنت في المختبر، تنظر إلى العينة من زوايا مختلفة، وكل عدسة تكشف جانباً جديداً، كذلك في الصحافة، كل منظور يُظهر وجهاً مختلفاً للحدث، وعندما تتكامل هذه الزوايا، تقترب الصورة من الحقيقة"، بهذا الفهم العميق، جمعت بين العلم والإعلام، لتجعل من الصحافة أداة لكشف الحقيقة ومقاومة الظلم.
في عالم الصحافة الذي لطالما هيمن عليه الرجال، كانت غربتلي أرسوز امرأة تتولى منصب رئيسة تحرير، لكنها كثيراً ما قوبلت بالتجاهل، لم تُدعَ إلى أي اجتماع رسمي بصفتها هذه، ولم تتمكن من الوصول إلى بعض مصادر الأخبار بسبب كونها امرأة كردية في موقع قيادي.
وعن تجربتها، قالت "من المهم جداً أن تكون امرأة كردية رئيسة تحرير، في السنوات الأخيرة، قطعت المرأة الكردية شوطاً أكبر من الرجل، وما وصلت إليه اليوم لا يعود فقط إلى جهدي الشخصي، بل يرتبط أيضاً بهذا التقدم الذي حققته المرأة الكردية".
بهذه الكلمات، عبّرت غربتلي أرسوز عن وعيها العميق بدورها الريادي، وعن إصرارها على كسر الحواجز التي واجهتها كامرأة وكردية في ميدان الصحافة.
الحقيقة التي لا تُعتقل
وفي 10 كانون الأول/ديسمبر 1993، تزامناً مع اليوم العالمي لحقوق الإنسان، تعرّضت صحيفة "أوزغور غوندم" لمداهمة عنيفة من قبل مئات من عناصر الشرطة التركية، وتم اعتقال غربتلي أرسوز إلى جانب عدد من زملائها، وبعد 13 يوماً من الاحتجاز، أُحيلت إلى القضاء وتم توقيفها رسمياً، ثم نُقلت إلى سجن صاغمالجي، وفي أول جلسة محاكمة لها في حزيران/يونيو 1994، أُفرج عنها.
وصفت تلك الفترة بمرارة، قائلة "لم يُعاملوني كصحفية، بل كإرهابية، ولم يسألوني شيئاً يُذكر عن عملي الصحفي".
وبعد الإفراج عنها، واصلت العمل في الصحافة لفترة، لكنها قررت لاحقاً أن تنقل نضالها إلى ميدان آخر، فالتحقت بالكفاح المسلح، وفي 7 تشرين الأول/أكتوبر 1997، استشهدت خلال اشتباك مع قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني في إقليم كردستان.
ورغم رحيلها، لا يزال إرث غربتلي أرسوز حياً، إذ تستمر الصحافة النسائية التي أسستها في تتبع الحقيقة، وتلهم أجيالاً من الصحفيات الكرديات في مسيرتهن النضالية.