رسالة بخشان عزيزي وانعكاس القمع التاريخي والتمرد عليها
إن العصر الدموي والعنيف الذي نعيشه هو في الواقع عصر إخفاء الحقيقة وإنكارها وفرض الأكاذيب، عصر أصبحت فيه الحدود بين الحقيقة والكذب ضيقة ويصعب التمييز بينهما، والدور الثوري للقادة والكشافة المجتمعية هو الاعتراف بهذه الحدود وعبورها.
مقال بقلم: بهار أورين
في وسط هذه الفترة من الرعب والإنكار، تطرح أسئلة عديدة، من بينها ما هي الحقيقة وما هو بديلها؟، وهل من الممكن التفكير في بديل وعالم آخر؟، أم أن هناك إمكانية لعقلية ثورية وتخيل؟ يوتوبيا الحرية؟ وفي الواقع فإن النساء والأمم المضطهدة تناضل ضد عقبات يوتوبيا الحرية وتدفع الثمن.
يمكن قراءة وتحليل رسالة المعتقلة الصحفية والناشطة بخشان عزيزي، بطرق عديدة، إنها أكثر من رسالة شكوى، فهي انعكاس للقمع التاريخي والتمرد عليها، نضال ومقاومة صعبة ضد أفعال هذا القمع بأفظع الطرق، ومن ناحية أخرى، دروس عظيمة وقيمة للنضال والمقاومة.
يمكن رؤية الوجه الأسود للنظام الأبوي التاريخي والعداء الطويل الأمد للمرأة في سطور رسالتها، مقاومة بخشان عزيزي لا مثيل لها، إنها نشر للتراث ومواصلة مقاومة للمرأة عمرها آلاف السنين، ضد عدم المساواة والتمييز الذي وصل إلى أقصى حد في نظام الدولة القومية القائم على النظام الأبوي.
وبخشان عزيزي تمثل هذا التقليد في هذه المرحلة من تاريخ نضالات المرأة، إن مقاومتها والمتعاونين/ات معها تقيم الصلة بين الماضي والحاضر والمستقبل؛ دون الانقطاع عن العالم وصناع التاريخ، هذه المقاومة هي في الواقع بداية كتابة تاريخ حرية المرأة.
كما قال القائد عبد الله أوجلان "إن تاريخ استعباد المرأة لم يُكتب، وتاريخ الحرية ينتظر أن يُكتب"، إن هذه المقاومة ملهمة ومحفزة، ومصدر الإلهام لنا نحن النساء هو المبدأ النضالي الذي إذا آمنا به والتزمنا به، يمكننا قلب هذا الاتجاه التاريخي رأساً على عقب باتجاه الحرية والمساواة، وإذا لم يتم قلب هذه العملية، فسوف نضطر إلى تكرار التاريخ، الأمر الذي سيؤدي إلى المأساة.
التاريخ الذي كان هوية المرأة تم تجاهله وسرده فقط من وجهة نظر الرجل، وهو بالتأكيد مشوه وغير صحيح، إن التقليل من قيمة المرأة يرتبط في الواقع بهذا النوع من المواقف التاريخية التي تم نسجها في جسد النظام الأبوي من أجل اعتبار دونية المرأة أمراً طبيعياً، وفي النهاية إظهار النظام الأبوي كحقيقة، لذلك، فإن أحد جوانب نضال المرأة هو تفكيك هذه الآراء وتقديم نموذج جديد.
قصة المرأة في الثقافة يوجد فيها تحالف قوي بين الدين والحكومة والسلطة الأبوية التي تغذي بعضها البعض وتنتج وتعيد إنتاج أيديولوجية مناهضة للنسوية هي قصة مماثلة، ومكان تكاثر هذه الثقافة هو نظام الأسرة والسجون والمؤسسات التأديبية والإشرافية الخاضعة لحكم الحكومة.
وفي النظام الذكوري يتم تعريف المرأة على أنها الجنس الضعيف لجعل المجتمع ضعيفاً في صورتها، وإضعاف المجتمع هو الاستسلام للصمت والخضوع، وإن نضال المرأة للخروج من هذا الوضع المفروض هو في الحقيقة بداية وشرارة ثورة اجتماعية، وهو ما رأيناه في انتفاضة Jin Jiyan Azadî"" التي تهدف بحسب بخشان عزيزي، إلى إعادة ربط المرأة بالحياة والحرية.
إن الأزمات والكوارث الاجتماعية اليوم هي نتاج الخلط بين الدين والحكومة والسلطة الأبوية، وإن الحياة بدون امرأة حرة هي حياة ممزوجة بالقبح والاستغلال وفي النهاية انعدام الحرية، ولهذا السبب فإن هذه الانتفاضة دعوة للحرية، حرية لا ينبغي السعي إليها بل ينبغي بناؤها وتطويرها، ولذلك فإن التأكيد على أن "حرية المجتمع متوقفة على حرية المرأة" هو المبدأ التوجيهي ومركزية نضالات القرن الحالي.
وما دامت إرادة المرأة وسلطتها على هويتها وجسدها مرفوضة، وما دامت ذاتيتها مرفوضة، فلا يمكن أبداً أن نتحدث عن مجتمع يقوم على معايير المساواة والحرية، ففي السنوات الماضية، حولت نساء إيران وشرق كردستان ما لا يوصف والمحظور إلى سبب للنضال من أجل اكتشاف وعلاج الأمراض التي تنتجها وتنشرها الثقافة الأبوية، وأصبحت هذه النضالات اجتماعية وتحولت تدريجياً إلى ثقافة لجعل المجتمع صالحاً للعيش بالنسبة للمرأة.
وشددت بخشان عزيزي في رسالتها على الهوية الوطنية والجنسانية كسبب للقمع وعدم المساواة، والتعذيب والسجن والموت بسبب "كوني كردية" و"كوني امرأة"، فالسياسة التي تطبقها الدول القومية في المنطقة حالياً هي "إرهاب" على خلفية نضالات الكرد وخاصة النساء الكرديات، ووسم كل عمل ونشاط مدني وسياسي وبيئي بـ "المحاربة" و"البغى"، "وعشرات الكلمات الرئيسية التي اخترعوها لوأدها في مهدها ووضع حاجز كبير تحت هذه العناوين ضد الرجال والنساء المناضلين/ات.
وإن تدمير الثروات الجغرافية ونهبها، وسياسات تدمير الأخلاق والثقافة الاجتماعية الكردستانية، وحظر اللغة الأم، إلى جانب تدمير الكرد، وجه آخر من أبعاد الحرب الحالية، إلا أن الوعي والنضج السياسي والاجتماعي للكرد، الذي هو في حد ذاته نتاج عقود من النضال، وصل إلى مرحلة لم يعودوا فيها يستسلمون للاستعمار بأي شكل من الأشكال، وقد تسبب هذا الموقف في ممارسة أبشع أعمال العنف والقمع المطبقة في كردستان.
سنوات من النضال من أجل الحرية والديمقراطية أوصلت الكرد إلى مرحلة اجتياز هذه الاختبارات التي تم التعرض لها في السجن والجبل والشارع لترسم مستقبلاً جديداً وتضع حداً للظلم والظالم.
وجريمة بخشان عزيزي وأصدقائها الوحيدة، كما قالوا عن أنفسهم، هي القيام بالواجبات الأخلاقية والإنسانية في ظل الانحطاط الأخلاقي والوجداني وقول الحقيقة ضد الأكاذيب التي انبثقت من تاريخ الحضارة، ففي عصر الاغتراب، كونك باحثاً عن الحقيقة، هي استمرارية ثقافة الحكمة الرافدينيّة، إنها عودة إلى الإحصائيات وخدمة الإنسانية، وإن عشتار هي صانعة للتاريخ، ونضال المرأة ومقاومتها هو بيان تحرير المرأة في القرن الحادي والعشرين، الذي ينير طريقنا.
جغرافية الشرق الأوسط وبيئته الدموية توحي بوقفة تاريخية بمنعطف خطير، حيث تلقي جبهة الخيانة بظلالها على تاريخ كردستان مثل وصمة عار سوداء ومخزية بجانب جبهة الحرية والنضال من أجل الإنسانية في أكثر حرب غير متكافئة على الإطلاق.
العصر الذي كان فيه الأطفال في المنطقة يقاتلون في أصعب الظروف مع جيش الناتو الأكثر تجهيزاً دليل على أن "الكرد ليس لديهم صديق آخر غير الجبال" وهذه هي ذاكرتنا الجماعية التي تنتقل من جيل إلى جيل حتى لا ننسى أن النسيان هو الموت، وهذه الحملة، التي أطلق عليها أحد قادة الكريلا اسم "حرب الكريلا في عصر الفضاء"، تعبر عن طابع هذه الحملة بأفضل شكل، ولا شك أنها لا تشبه حملات الكرد السابقة.
الحقيقة التي انكشفت الآن للجميع، أن القضية الكردية دون النظر إلى حقائقها التاريخية والثقافية والاجتماعية واللجوء إلى العنف والقمع والقتل بحق الكرد، لا تساعد على حل المشكلة فحسب، بل تزيد من إصرار الكرد، لمواصلة مقاومتهم ونضالهم.
وفي السنوات الأخيرة، ومع اشتداد الحرب في كردستان، رأينا هذا الموقف، فقط من خلال نموذج ديمقراطي قائم على حرية المرأة يمكننا إنهاء الأزمة التي سببتها القومية وإنقاذ الشرق الأوسط وكردستان من الفوضى والحروب المستمرة.
لقد وجدت المرأة طرقاً مختلفة وأساليب خاصة في مواجهة العقلية الأبوية ضد الحدود والعوائق، هذه الصراعات هي الوعد بحياة جديدة، كلما ارتفع صوت المرأة، أصبحت سيطرة الرجل أكثر صعوبة، أحياناً يتم اختطافها، وأحياناً يتم اغتصابها أو إذلالها وإهانتها، وأحياناً تختفي وتقتل، لكن المقاومة لا تزال موجودة، وفي هذه اللحظة التاريخية، أصبحت المرأة مرادفة للنضال والمقاومة، ولم يكن أي نضال اجتماعي وأساليبه وأدواته سهلاً في أي لحظة من التاريخ.