موسم "تقطير الزهر" تقليد حضاري تتناقله نساء مراكش عبر الأجيال
مع حلول فصل الربيع من كل عام اعتادت نساء المغرب الاحتفال بموسم تقطير الزهر، والذي يعتبر موروثاً حضارياً تتناقله النساء عبر الأجيال، وتصون من خلاله الأم تعليم ابنتها أسرارها بعد أن تكون قد ورثتها من جدتها.
رجاء خيرات
مراكش ـ انطلقت "زهرية مراكش" في دورتها الثانية عشر، تخليداً لموسم تقطير ماء الزهر مع بداية فصل الربيع وتفتح أزهار النارنج المنتشرة في المدينة والذي يعتبر موروث حضاري يجب الحفاظ عليه.
أحيت جمعية "منية" لصيانة الثقافة والتراث بمراكش أمس السبت 16 آذار/مارس، حفلاً تخلله تخليد تقليد نسائي سنوي وهو موسم تقطير الزهر، الذي تتوارثه النساء جيلاً بعد جيل ويعتبر موروثاً ثقافياً يجب الحفاظ عليه.
واعتادت النساء أن تحتفين بموسم تقطير الزهر مع حلول فصل الربيع من كل عام، حيث يعد هذا التقليد موروثاً حضارياً تتناقله النساء من جيل لآخر، وتصون من خلاله الأم هذه العادة لتلقن ابنتها أسرارها بعد أن ورثتها من جدتها، كما تساهم بشكل فعال في إشراك نساء مراكش في هذا الطقس الموسمي، سواءً داخل بيوتهن أو في التعاونيات النسوية أو بمبادرة من الجمعيات التي تعنى بالتراث والثقافة.
وقالت عضو جمعية "مُنية" لصيانة التراث والمشرفة على عملية التقطير مليكة العبادي "يبدأ مراسم تقطير الزهر عندما تتفتح أزهار النارنج (تسمى الزنبوع) في الأشجار، وتستمر بالإزهار لأربعة أسابيع أو أكثر، ويبلغ ذروته مع حلول فصل الربيع أي في 21 آذار، حيث تتزود النساء بزهر النارنج عادة من سوق العطارين بالمدينة العتيقة، بعد أن يتم جنيه من الحدائق والبساتين المحيطة بالمدينة".
وأوضحت بأن النساء تخرجن قطاراتهن من المخابئ ببيوتهن مع حلول فصل الربيع، تنظفنها وتنخرطن في عملية التقطير، حيث يشكل ذلك مناسبة لكي تجتمع الأسر المراكشية كباراً وصغاراً ليحتفلوا في طقوس تعبق بشذى الزهر الفواح وسط أجواء تعمها الفرحة والمتعة في نفوس الصغار قبل الكبار.
وعن أهمية هذا الطقس النسوي، أكدت أن نساء مراكش ولعن منذ القدم بفن تقطير الزهر، حيث تحتفين به كل عام ويشكل انطلاق موسمه عيداً بالنسبة لهن باعتباره جزءاً لا يتجزأ من الموروث الثقافي والحضاري الذي استطاعت النساء أن تحافظن عليه من الاندثار، من خلال إحيائه سنوياً وتلقين أسراره لبناتهن، كما أنه يعتبر تراثاً لا مادياً من قبل منظمة اليونسكو.
وعن طقوس التقطير ومراحله بينت أنه يبدأ بتحضيرات أولية، تبدأ بتنظيف النساء للبيت وتعطيره بالعود، ثم تتوجهن إلى الحمام للاغتسال، نظرا لما تتطلبه عملية التقطير من دلالة رمزية تستوجب الطهارة، وقبل الشروع في المراسيم تلبس النسوة قفاطين تقليدية وتتزين بما يليق بالاحتفال والعيد.
أما عن عملية التقطير قالت مليكة العبادي، تتطلب العملية استعمال أواني نحاسية حيث يملأ قدر يسمى "البرمة" بالماء وتوضع فيه حفنات من زهر النارنج وقطعة نقدية من النحاس، حتى إذا ما نفذ الماء بداخلها سمع رنين القطعة كنوع من التنبيه حتى لا يحترق الزهر ويفسد عملية التقطير، فوق "البرمة" يوضع إناء به ثقوب يسمى "الكسكاس" ويُملأ بالزهر ثم يُوضع الجزء الأعلى الذي يتصل بأنبوب طويل يسمى القطارة.
ولفتت إلى أن هذه الأجزاء الثلاثة يتم إغلاقها بإحكام تام مع بعضها البعض عن طريق وضع شريط من الثوب مغمور في الدقيق المخلوط بالماء حتى يلتصق بالجوانب ويمنع تسرب البخار الذي تحتاجه عملية التقطير، وتتم كل هذه العملية تحت نظر النساء اللواتي تتابعنها بعناية، وعندما يغلي الماء في القدر، تفرغنه وتعوضنه بماء بارد في الجزء العلوي من القطارة، حتى إذا ما بدأت أولى قطرات الزهر تنزل في الإناء المتصل بالأنبوب، تشرع النساء في رفع أصواتهن بالزغاريد.
وأوضحت أن كل هذه الطقوس تتم في أجواء من الاحتفال مصحوبة بجلسات الشاي والحلويات المغربية التقليدية، مما يضفي على الأجواء الكثير من البهجة والفرح، مشيرةً إلى أن ماء الزهر المقطر له العديد من الاستعمالات، حيث يستعمل في تنسيم بعض الأكلات التقليدية، ويضاف إلى عجائن بعض الحلويات التقليدية ك"كعب الغزال" و "الغريبة بالسمن" وغيرهما كما تستعمله النساء في العناية بالبشرة، وينصح بالاحتفاظ به في مكان نظيف بعيداً عن الهواء، لأنه إذا تغير لونه فسد طعمه ولم يعد صالحاً للاستعمال.
ودأبت جمعية منية لصيانة التراث على تنظيم هذا الملتقى السنوي، والذي سيستمر لثلاثة أيام، حيث سيتم عرض عملية تقطير الزهر في عدد من الفضاءات الثقافية بالمدينة، لكي تتعرف الفتيات على هذا الطقس وتتعلمن فنونه وأسراره.
وستتخلل طقوس التقطير تنظيم عروض ومداخلات حول هذه المراسيم يأطرها أساتذة باحثون خبروا فنون التقطير وأسراره، فضلاً عن تنظيم حفلات موسيقية تحييها فرق في الطرب الأندلسي وقصائد الملحون التي تتغنى بجمال الطبيعة وطقوس النزاهة (النزهة) التي دأب المراكشيون على تنظيمها خلال فصل الربيع، حيث يخرجون إلى المتنزهات والمنتجعات ويقيمون لأيام بين أحضان الطبيعة احتفالاً بفصل الربيع.