من يملك حق الحديث عن السلام؟

مقال بقلم الصحفية زيلان عبدو

السلام ليس شعاراً يكتب على اللافتات أو يهتف به في الاحتجاجات فقط، ولا يقتصر على السياسة وحدها، السلام لا يعرف حدوداً جغرافية أو انتماءات قومية، ولا يلتفت إلى الجنس أو اللون، إنه أكثر من مادة إعلانية أو عنواناً بارزاً وعريضاً في الصحف والأخبار اليومية، وليس كذبة ينطق بها السياسيون لاستخدامها كأداة لكسب الأصوات أو لتقريب وجهات النظر أو لزيادة النفوذ، كثيرون ينطقون بالسلام وفي الوقت ذاته يوجهون السلاح والمدفعية، يتاجرون بأرواح الأبرياء ويدمرون المدن وينهبون الخيرات، يرتدي هؤلاء الطقم الرسمي ويختبئون خلف قناع الحضارة، لكن أفعالهم ووجوههم تحمل شراً وإرهاباً، يرتكبون أبشع الجرائم بحق الإنسانية تحت غطاء رسمي، في يومنا هذا، أصبحت الحاجة إلى السلام أكثر إلحاحاً من الماء أو المسكن أو الطعام.

العالم بأسره يكاد يفتقد إلى السلم والسلام، بعض الشعوب تعاني من الحروب والأزمات والفقر والهجرة، في حين يفتقد آخرون السلم الداخلي ويواجهون أشكال العنف الجسدي والنفسي واللفظي والتمييز، إذا تأملنا واقع العالم أجمع وكافة الدول، سنجد أن الحروب والأزمات تخترق جميع الأنظمة والشعوب، والقتل بات الأداة الأكثر انتشاراً.

تشرعن بعض القوى القتل باسم الدين، وتقتل الدولة باسم حماية أمنها، وتعتقل الآلاف بدون حق وتزج بهم في السجون بزعم أنهم يشكلون خطراً على وحدتها، وأصبحت القوانين من أقوى الأسلحة التي تحارب الشعوب وتدافع عن الظالمين.

لننظر نظرة سريعة إلى الواقع المعاش في البعض من البلدان التي تعاني من حروب دامية وأزمات إنسانية معقدة منها سوريا مهد الحضارات، نظراً لكونها مركزاً لأقدم التجمعات البشرية وتطور الزراعة، بلد الثقافات والأديان المتنوعة، والمتميزة بتنوعها السكاني، حولتها الحرب إلى آلة فتاكة تفتك بشعوبها وثقافاتها وخيراتها، عانت لسنوات طويلة من حكم بعثي قمعي، وزاد الوضع سوءاً بعد سيطرة جهاديي هيئة تحرير الشام على الحكم في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، من فصيل إرهابي إلى إدارة البلاد، ما أطلق مرحلة جديدة من الإرهاب المموه بزي رسمي، يرتكز على العداوة وسفك الدماء، ما حدث في السويداء والساحل السوري من انتهاكات واختطافات بحق الطائفة العلوية والدرزية، وما يحصل من هجمات على مناطق إقليم شمال وشرق سوريا، خير دليل على أن السلطة الحالية لا تمثل الشعب السوري ولا تخدم مصالحه، تصريحاتها في المؤتمرات الصحفية عن السلم والسلام ليست إلا دعاية إعلامية ومحاولة لحجب الحقيقة.

أما فلسطين، وتحديداً غزة، فهي العنوان الرئيسي والخبر العاجل للكثير من وكالات الأنباء والقنوات التلفزيونية، ومحور المؤتمرات الوطنية، والموضوع الأساسي في السياسة الدولية، لعقود طويلة تشغل قضية فلسطين الرأي العام، وتتصدر خطة السلام جدول الأعمال المعلنة عنها دائماً، ولكن الواقع يعكس حروباً دامية، حصاراً خانقاً، قتلاً متزايداً، وجوعاً يفتك الأجساد، ما هو شكل السلام المزين بالدماء والمطرز بالدمار؟ وكيف يمكن الحديث عن السلام بدون مبادرات فعلية؟ كم من القادة الدوليين نددوا بالحصار والقتل الممارس، واستنكروا الهجمات الإسرائيلية والإبادة الجماعية في غزة، ما أكثر أقوالهم وضعف جهودهم وقلة أفعالهم، الهجمات الإسرائيلية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 لا تتوقف، والدماء لا تزال تسيل، وسط وعود دولية ضعيفة الأثر.

وفي السودان، بلد الجوع والمرض والحروب، يعاني المدنيين في الكثير من المناطق مثل الفاشر ودارفور أوضاعاً إنسانية مأساوية، حيث يواجه السكان شبح المجاعة والمرض والقصف، من بقي في الداخل يواجه تحديات كبيرة، ومن يحاول الفرار يقع ضحية الخطف أو الاغتصاب أو القتل، مع استمرار النزاعات المسلحة تستمر معاناة المدنيين، وبين محادثات السلام ومحاولات تشكيل حكومة، تضيع آمال السودانيين بالسلام برصاصة طائشة أو يغلبهم الجوع ويلقون حتفهم نتيجة سوء التغذية.

كما يدق ناقوس الخطر بالمجاعة في اليمن أيضاً، تتصدر أخبار تفشي الوباء والأمراض وسائل الإعلام، وسط استمرار الحروب والأزمات الإدارية والاقتصادية، كما هو الحال في العديد من البلدان التي تشهد نزاعات وحروباً مستمرة.

أما الدول التي تعيش حالة أمنية مستقرة نسبياً، فهي تواجه أزمات قمعية وسياسية واقتصادية، مع ارتفاع معدلات البطالة والهجرة، بالإضافة إلى مشاكل اجتماعية مثل القضايا الجندرية واللامساواة المجتمعية، والكثير من القضايا العالقة الناتجة عن استنفاد الناظم القائم على "الدولة".

 

كيف يتحقق السلام؟

بات "السلام" القضية الأساسية في الكثير من البلدان، والمسألة الحياتية للشعوب، ولكن يبقى السؤال الأساسي من سيجلب السلام؟ وهل يمكن انتظار النظام الدولي والقادة الدوليون الذين ساهموا في إشعال الحروب والأزمات أن يدعموا عمليات السلام؟ أم أن الوحدة والنهوض الشعبي هما السبيل الوحيد لإحلال السلام؟.

أصبحت الحقيقة واضحة للشعوب، فقد أدركت أن النظام المبني على الدولة الواحدة المتطرفة وذات اللون الواحد، لا يجلب السلام، بل يتسبب في اندلاع الحروب وتعمقها، وأن وحدة الشعوب والنهوض في وجه الطغاة هما الطريق إلى النصر والخلاص، وضمان حياة حرة وكريمة.

فالسلام لا يتحقق إلا حين تُكسر منظومة الاستعمار والاستبداد، يتحقق حين تعاد صياغة العلاقة بين الشعوب والسلطة وحين يستبدل منطق القهر بمنطق العدالة، لا يمكن للسلام أن يولد من رحم الإقصاء ولا أن ينمو في ظل الاحتلال أو التمييز، لا يمكن انتظار النظام الدولي الذي ساهم في إشعال الحروب أن يكون حاملاً للسلام، بل إن النهوض الشعبي، وتشكيل جبهات مقاومة مدنية وسياسية، هو السبيل الحقيقي لإعادة تعريف السلام كحق لا كمنة، وكفعل لا كوعود.

يجب أن يحاسب من ارتكب الجرائم، ويعترف بضحايا القمع والاحتلال، وتستعاد الحقوق المسلوبة، العدالة ليست عائقاً أمام السلام، بل شرطاً له، لا يمكن بناء مستقبل مشترك دون مواجهة الماضي، وتفكيك بنيات الظلم. السلام لا يعني الصمت، بل يعني امتلاك مشروع تحرري يعيد الاعتبار للكرامة، ويضمن الحقوق، ويؤسس لعلاقات متكافئة بين الشعوب، إنه يتطلب خطاباً جديداً ورموزاً جديدة، وتحالفات تتجاوز الحدود المصطنعة، وتعيد بناء الجغرافيا السياسية على أساس التضامن والمقاومة.