من شنكال إلى يريفان... الإيزيديون هم حراس الذاكرة الوطنية لكردستان

جيندا مانا
أرمينيا ـ في صباح اليوم الأخير من فصل الصيف لهذا العام، وبعد قيادة استغرقت ساعة، بلغنا قرية أكناليش ذات الطابع الأرمني الكردي، الواقعة في مقاطعة أرمافير على بُعد ٣٥ كيلومتراً غرب العاصمة يريفان، كانت حركة المرور مزدحمة، وطوابير السيارات ممتدة، مما اضطرنا إلى التباطؤ، وعند وصولنا لم تكن مراسم التأبين الخاصة بقبة معبد مير ديفان قد بدأت بعد، لكن المكان كان يعج بجمع غفير من الناس، غالبيتهم من الكرد الإيزيديين الذين توافدوا لحضور المناسبة.
على مسافة تزيد عن ألف متر من بوابة المعبد الرئيسية، يتحوّل الطريق إلى فضاء نابض بالحياة، أشبه بسوق ثقافي رمزي، حيث يصطف الباعة حاملين معهم شذرات من الذاكرة الإيزيدية البصرية والطقسية، هنا قبل أن تطأ الأقدام عتبة الحرم المقدس، يغمر الزائر في بحر من الرموز والدلالات والذكريات التي تشكّل ملامح الهوية الإيزيدية، يفترش الباعة الأرض بسجاد تقليدي أو يقيمون خياماً صغيرة، يعرضون فيها سلعاً تحكي كل واحدة منها حكاية ممتدة من الألم والنجاة، ومن الإيمان العميق والجمال المتجذر في الروح.
تماثيل الطاووس، الطائر المقدس والرمز الرئيسي للديانة الإيزيدية، تأتي بأحجام ومواد متنوعة من الخشب المنحوت إلى المعدن المذهب والأزرق السماوي الذي يتلألأ تحت أشعة الشمس، تُعلق الشموس الذهبية إحدى أقدم الرموز الكونية لهذه الديانة، على أبواب وجدران الأجنحة كضوء ينبعث من أعماق التاريخ، إلى جانب الأعلام الإيزيدية ثلاثية الألوان، مزيج من الأحمر والأصفر والأبيض التي تُذكرنا مع كل نسمة هواء بذكرى مقاومة الإبادة الجماعية.
تُعرض زخارف يدوية الصنع بتصاميم الشمس والطاووس، مستوحاة من التقاليد الفنية الإيزيدية على أقمشة مخملية، وتُعرض تماثيل صغيرة من معبد لالش، يمكن للوافدين أخذها معهم كتذكارات من المزار إلى جانب منتجات ثقافية أخرى، مثل بطاقات بريدية تصور ضحايا سنجار وكتيبات عن تاريخ الإيزيديين، هذا السوق ليس مجرد مكان للتسوق بل مساحة لاكتشاف الهوية وحوار ثقافي حيوي، في هذا الممر تمتزج اللغات، وتتبادل الذكريات ويحمل كل غرض صوتاً ينادي من هوامش التاريخ.
يقف تمثال أندرانيك أوزانيان، القائد الأرمني كنصب تذكاري للمقاومة، فقامته لا تذكرنا بأمير الحرب فحسب بل تثير أيضاً جرحاً عميقاً لا يُنسى في الذاكرة الجماعية للشعب الأرمني، ففي أواخر القرن التاسع عشر حمل السلاح ضد الإمبراطورية العثمانية دفاعاً عن شعب كان ضحية لبرنامج ممنهج من الإبادة، وبجانب هذا التمثال يتشابك الصليب الرسولي الأرمني مع شمس الإيزيديين رمزاً للتعايش الديني والثقافي لشعبين ذاقا طعم الإبادة الجماعية والتشريد والقمع المرير هذا الرمز ليس تعبيراً فنياً فحسب، بل صرخة صامتة ضد الإمبراطورية التي أحرقت تحت ستار الدين وأجساد وأرواح الآلاف من النساء والأطفال الكرد والأرمن وحوّلت الحضارات إلى رماد، والآن أصبح هذا التمثال والصليب أكثر من مجرد نصب تذكاري تاريخي، إنها تذكير بالحاجة إلى العدالة ورمز للمعاناة المشتركة ورابطة عميقة بين الناس الذين حاول التاريخ إسكات أصواتهم، لكنهم ما زالوا يصرخون في قلب الحجر والنور.
تمثال يختزن في صمته قصة
سرت ببطء بين التماثيل واحداً تلو الآخر، كأنني أتنقل بين صفحات كتاب لم يُكتب بعد، كل تمثال يختزن في صمته قصة تنتظر من يصغي حكاية دفينة من مجدٍ وألم، من مقاومةٍ وخيانةٍ لم تجرؤ الكتب الرسمية على سردها، الحجارة هنا ليست مجرد مادة صلبة بل ذاكرة تنطق تنفث أسرارها لمن يتأملها بصدق، بعضها يجسّد امرأةً تحدّت النسيان وبعضها يلوّح بسيف قائدٍ لم يُنصفه التاريخ، وآخر يحمل ملامح طفلٍ غمره الحزن قبل أن يعرف الكلام، هذا الطريق ليس مجرد ممر بين أعمال فنية بل هو عبورٌ في أعماق كردستان، حيث ينطق الحجر بما سكت عنه الزمن، ويصرخ الواقع بنقوشٍ لا تُمحى.
عند وصولي إلى المدخل التالي، رأيت معبد "قبا مير ديواني" بلونه الأبيض الناصع، متربعاً وسط مساحة خضراء كأنه جوهرة ألماسية تتلألأ في قلب الطبيعة، يُعد هذا الصرح الديني أكبر معبد إيزيدي في العالم وقد افتُتح في أيلول/سبتمبر من عام 2019، متجاوزاً في ضخامته حتى قبة لالش الشهيرة في إقليم كردستان، يبلغ ارتفاع قبته الرئيسية 25 متراً، وتحيط بها سبع قباب أخرى، تتوزع حول السقف المركزي المقوس في تناغم معماري فريد، إلى جانب القبة تنتصب مدرسة الدراسات الدينية والمتحف، ليشكلا معاً مركزاً ثقافياً وروحياً متكاملاً، وقد خُصّص هذا المعبد للملاك ملك طاووس والملائكة السبعة في العقيدة الإيزيدية، حيث ترمز القباب الثمانية إلى الملائكة، وتُزيّن كل منها بشمس ذهبية تُضفي على المكان هالة من القداسة والرمزية العميقة.
مستوحى من معبد لالش باشور
على يمين المعبد الصغير، في مواجهة قبة مير ديفان الشامخة، ترقد مقبرة الإيزيديين في سكونٍ مهيب، لكن ذلك السكون لا يخلو من الحركة الخفية، أمشي بين القبور وأتأمل الصور الفوتوغرافية المنقوشة على الشواهد، طويلة كأنها امتدادٌ لزمنٍ لم ينتهِ، تنبض بالحياة رغم الموت وتهمس لي بحكايات لم تُروَ كاملة، كل صورة تحكي قصة ناقصة فتاة لم تُكمل أحلام طفولتها، امرأة أو رجل حمل عبء جيل مكبوت قبل أن يذبل عمره.
تمرّ الرياح بين الشواهد، وتُحدث همساً غريباً، كأنه صوت أولئك الذين بقيت صورهم شاهدة لا على موتهم فقط، بل على حضورهم الذي ينبثق من الأرض، في هذا المكان الموت لا يبدو نهاية بل تحولًا آخر شكل جديد من أشكال الحياة، يتأرجح بين الذاكرة والنسيان بين الحجر والحنين.
فجأة يطلق متحدثون المراسم أغنيةً مُبهجةً في الهواء، كاسرين وحدتي في قلب المقبرة الإيزيدية، فأذهب مع الآخرين إلى الرقص والغناء، أرى نساءً وأطفالاً يرتدون ملابس كردية بيضاء، رمزاً للنقاء والبعث، وعصابات رأس ملونة ترقص في الريح، وكأن كل خيطٍ منها صرخة من صميم التاريخ، هذه الألوان ليست مجرد زينة إنها قصة حزن على الماضي قصة نجاة مقاومة للموت والنسيان، أطفالٌ ربما اختبأت أمهاتهم في الجبال من داعش، يمشون الآن تحت أشعة الشمس بعيونٍ مليئة بالأمل وذكريات ثقيلة للمعاناة.
تجسّد النساء الإيزيديات في حضورهن الصامت والصارخ رسالةً لا لبس فيها "ما زلنا هنا" عصابات الرأس الزاهية التي تضعنها ليست مجرد زينة، بل إعلان حياة في وجه الموت، تحدٍّ صارخ لرتابة التراب والحجر، كأن كل لونٍ فيها هو صرخة على جدار الصمت، سطرٌ من بيانٍ نسويٍّ لا يقبل النسيان.
في هذه اللوحة الحيّة، لا تكتفي الحياة بالاستمرار بعد الإبادة، بل تنهض لتعلن أن المقاومة ليست فعلاً طارئاً، بل جوهر الوجود ذاته، هؤلاء النساء لا تحملن فقط ذاكرة الألم، بل تنسجن من خيوطها ثوباً من الكرامة، يرفرف في وجه الريح، ويقول للعالم نحن هنا وسنبقى.
ملأ الحشد، الذي أصبح الآن أكبر بكثير مما كان عليه قبل ساعات قليلة، المكان كموجة هائجة من الحياة والأمل، من جميع أنحاء الساحة رددت مكبرات الصوت أصوات الأغاني الكردية المبهجة، أغاني تفوح منها رائحة التحرير، ورائحة الجروح الملتئمة ورائحة الأرض المحررة.
نساء بملابس ملونة، ورجال بأوشحة وسراويل كردية، وأطفال بعيون تتألق بالحياة، يمسكون بأيدي بعضهم ويدوسون بأقدامهم بقوة على الأرض في رقصة كردية، وكأنهم يوقظون التراب وكأنهم يرقصون على جثة الرعب والاحتلال والإذلال، ومع كل خطوة يدفنون العدو ألف مرة، لم تنطلق صرخة النصر من الحنجرة بل من القلب، يغمرني الفخر وتلتوي مرارة غريبة في حلقي وتحترق عينيّ حزناً، أرفع بيدي الكاميرا لأسجل لحظات لا تُنسى لكن عينيّ لم تعد قادرة على الرؤية، فقد أسدلت دموع الفرح ستاراً من الحقيقة الصافية عليها، هذا ليس مجرد رقص بل مشهد حي لاستعادة الحياة، والوقوف، ومقاومة النسيان والموت، هنا الآن وفي قلب هذا الحشد يُعاد كتابة التاريخ.
بعد ساعات من الرقص المتواصل، انكسرت الدوائر التي كانت تهز الأرض بأقدامها الثابتة وأيديها المتشابكة ببطء، وتحرك الحشد نحو المسرح المركزي، ساد صمت مهيب على الأجواء صمت ليس صمتاً عادياً بل احترام وترقب، بدأت الخطب أولاً "بابا جاويش" الأب الروحي للإيزيديين بوجهٍ مُزينٍ بالوقار وخطابٍ ممزوجٍ بالحزن والأمل، يتحدث من قلب تاريخ الإيزيديين الجريح والمقاوم، يتحدث عن الألم الذي حملته الأجيال في الذاكرة الجماعية دون أن ننسى المآسي التي استهدفت ليس فقط جسد الإيزيديين بل أروحهم أيضاً، وعن ضرورة الحفاظ على تراث أُحيي اليوم في شكل هذا الاحتفال.
تحدث أيضاً عدد من أعضاء المجلس الروحاني اليزيدي، مع إشارات إلى كارثة شنكال إلى الخيانات والصمت العالمي، مع التركيز على إعادة الإعمار والبقاء وإعادة التجذير، يكملون دائرة المعنى كل كلمة من كلماتهم مثل مخلب ينتزع التاريخ من براثن النسيان، وبعد هذه اللحظات الثقيلة يرتفع صوت الآلات والغناء مرة أخرى، ولكن هذه المرة ليس فقط من أجل الفرح ولكن من أجل التمرد، لإثبات الوجود، من أجل المقاومة، يبدو الأمر كما لو أن سرة الكرد قد قطعت بالأغنية والموسيقى فهي ليست وسيلة للترفيه بل وسيلة للبقاء ولغة الهوية وصرخة الوجود، يمتزج صوت الدف بصوت خطوات الناس الثابتة وهذه المرة ليس مجرد رقص بل تعود الحياة نفسها إلى الميدان.
في هذا الحفل الرائع اجتمع الإيزيديون من جميع أنحاء العالم ومن بلدان مختلفة في أوروبا، ومن مدن وقرى في روسيا، ومن جبال القوقاز ومن سهول إقليم كردستان، ومن مقاومة روج آفا ومن شمال كردستان، كل منهم كان حاضراً في هذا الحفل بلهجته الخاصة وملابسه وذكرياته عن أرضه، ولكن بقلب وألم مشتركين، لم يكن هذا الحضور الواسع مجرد تجمع، بل كان نوعاً من إعادة خلق الهوية، وإحياءً للتضامن وتجسيداً حياً لأمةٍ جاءت من تاريخٍ متنوع ولكنه مجروح، لتصرخ بأنها لا تزال تُناضل ولا تزال وفيةً لذكراها.
بعد هجوم داعش الإرهابي على سنجار، الذي حُكم فيه على آلاف النساء والأطفال الإيزيديين بالعبودية الجنسية والموت أمام أعين العالم، لم يفقد الإيزيديون أحباءهم فحسب، بل فقدوا جزءاً من نسيجهم الثقافي والديني والتاريخي، كان بناء هذه المعابد في أرمينيا حيث لجأ جزء كبير من المجتمع الإيزيدي بعد هجرات تاريخية، محاولةً لإحياء الروح الجماعية، وإعادة بناء الذاكرة الدينية وترسيخ مكانة هذه الأمة التي غالباً ما كانت منفية في قلب منطقة جغرافية كانت في آنٍ واحد ملاذاً ومنفى.