من "انقلاب ثور" إلى حكم طالبان... أربعة عقود من المعاناة
تحولت أفغانستان خلال العقود الماضية إلى ساحة لصراعات دولية وإقليمية، دفع ثمنها الشعب، خاصة النساء والأطفال، عبر الاحتلال، الحروب، والقمع، ولا سبيل للخلاص إلا بنضال ووعي شعبي يضع المصلحة الوطنية وحقوق الإنسان فوق كل اعتبار.
					بهاران لهيب
أفغانستان ـ بعد انقلاب السابع من ثور "انقلاب أبريل" عام 1978، دخلت أفغانستان مرحلة من التدهور الحاد، حيث اضطر ملايين المواطنين إلى الهجرة، فيما قُتل أو أُصيب عدد كبير منهم. لجأت الحكومة آنذاك إلى قمع شامل لكل من عارضها، وامتلأت السجون بالمثقفين والمعلمين وأساتذة الجامعات وتلاميذ المدارس وموظفي الدولة.
أصرّ حزبا "خلقي" و"برشم"، اللذان حكما أفغانستان خلال أربعة عشر عاماً من الاحتلال السوفييتي، على البقاء في السلطة رغم رفض الشعب، فطلبا من الاتحاد السوفييتي إرسال قوات عسكرية لدعم نظامهما. وفي 27 كانون الأول/ديسمبر 1979، دخلت القوات السوفييتية شمال أفغانستان عبر نهر آمو.
واجهت هذه القوات مقاومة شرسة من القوى الوطنية والتقدمية الأفغانية في شمال كابول، حيث تصدى لها المقاومون بأسلحة بسيطة وبإمكانات محدودة، رغم تفوق الروس عسكرياً وتجهيزهم بأحدث المعدات. ومع ذلك، تمكنت المقاومة من إلحاق خسائر في صفوف القوات السوفييتية، في بداية مرحلة جديدة من النضال ضد الاحتلال.
ومنذ اليوم الأول لدخول القوات السوفييتية إلى أفغانستان، انطلقت شرارة المقاومة الشعبية ضدها وضد الحكومة العميلة التابعة لها، في مختلف الولايات، انتفض الأفغان والأفغانيات وبدأوا نضالهم، ورغم أن العديد من هذه الانتفاضات قُمعت بوحشية وتعرضت للفشل، إلا أنها أثبتت أن السيطرة على أفغانستان ليست بالأمر السهل.
استغلت الولايات المتحدة، بصفتها القوة العظمى المنافسة للاتحاد السوفييتي، هذه اللحظة لتوسيع نفوذها، فتعاونت مع باكستان وإيران والسعودية لتشكيل جماعات وأحزاب إسلامية في باكستان وإيران. ورغم شعاراتهم الدينية، انشغلت هذه الجماعات منذ تأسيسها وحتى اليوم بتحقيق مصالحها الخاصة وتكديس الثروات، أكثر من اهتمامها بقضية الشعب الأفغاني.
وفي الوقت الذي كانت فيه القوات السوفييتية والحكومة التابعة لها تمارس القتل بحق المثقفين، شهدت مدينة بيشاور الباكستانية موجة اغتيالات نفذتها جماعات مثل تلك التي يقودها قلب الدين حكمتيار وعبد الرب رسول سياف، بالتعاون مع جهاز الاستخبارات الباكستاني (ISI). وقد راح ضحية هذه العمليات المئات من المثقفين والنشطاء السياسيين، ومن بينهم مينا كيشوار، المسؤولة في "جمعية النساء الثوريات في أفغانستان" (RAWA)، التي اغتيلت في واحدة من أبرز جرائم تلك المرحلة.
وتشير روايات عديدة إلى وجود اتفاقيات سرّية بين حزبي "خلقي" و"برشم" وقلب الدين حكمتيار، تقضي بتصفية المثقفين الذين فرّوا من بطش النظام داخل الأراضي الباكستانية، على يد قوات موالية لحكمتيار.
وخلال أربعة عشر عاماً من الاحتلال السوفييتي وحكم الحكومات العميلة، انهار هذا النظام في 28 نيسان/أبريل 1992، لتتولى الأحزاب الجهادية المتعددة زمام السلطة، وخلال السنوات الخمس الأولى من حكمها، ارتكبت هذه الأحزاب انتهاكات جسيمة شملت القتل، الفساد، والاعتداءات على النساء والأطفال، حتى بدت ممارساتها أكثر فظاعة من سلوك النظام السابق.
لاحقاً، استغلت الولايات المتحدة وباكستان هذا الوضع، وقامتا بتشكيل حركة طالبان، وقدّمتاها بصورة مختلفة عن الجماعات الجهادية السابقة، سواء للشعب أو للمجتمع الدولي. وفي 27 أيلول/سبتمبر 1996، دخلت طالبان العاصمة كابول، وسيطرت عليها وسط أنقاض المدينة المدمّرة.
ومنذ دخول حركة طالبان إلى كابول، بدأت مرحلة جديدة من القمع والقيود الصارمة على النساء والمجتمع. فُرض الحجاب الإجباري، وحُرمت النساء من التعليم، وتقلّصت الحريات الاجتماعية بشكل كبير، حيث سارعت طالبان إلى ترسيخ هذه السياسات، بينما انسحبت بعض المجموعات التي كانت موالية لطالبان إلى مناطق بنجشير وشمال كابول، حيث شكّلت بقيادة أحمد شاه مسعود جبهة مقاومة جديدة.
مرة أخرى، كان الشعب الأفغاني، خاصة النساء والأطفال، الضحية الأولى لهذا الصراع، خلال السنوات الخمس من حكم طالبان، أُحرقت منازل وأراضٍ، وارتُكبت مجازر مروعة في ولايتي بلخ وباميان، كما تم تفجير تماثيل باميان التاريخية، وتحول ملعب كابول إلى ساحة للإعدامات الجماعية، في مشهد يعكس عمق المأساة التي عاشها المدنيون تحت حكم طالبان.
وبعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، تدخلت الولايات المتحدة وحلف الناتو في 7 تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه، مستخدمين قواعد ومسارات إقليمية، أبرزها باكستان، لإسقاط حكم طالبان. ومنذ الأيام الأولى، ظهرت تحذيرات واسعة من عودة طالبان وتصاعد الحرب الأهلية، وهي تحذيرات ثبتت صحتها لاحقاً، إذ تلقت طالبان دعماً عسكرياً وتسليحياً من بعض الدول المتورطة في الشأن الأفغاني، ما أدى إلى تصاعد الهجمات الانتحارية وأعمال العنف بدءاً من عام 2015.
وفي 15 آب/أغسطس 2021، استعادت طالبان السلطة مجدداً، وقبيل عودتها، حاول بعض الفاعلين الدوليين والإقليميين تقديم صورة معتدلة وديمقراطية عنها، لكن السنوات الأربع الماضية أثبتت عكس ذلك، حيث عاش الشعب الأفغاني، خاصة النساء، ظروفاً أكثر قسوة من أي وقت مضى.
وخلال الأشهر الأخيرة، شهدت أفغانستان موجة من الهجمات التي نُسبت إلى باكستان، شملت قصفاً وغارات في كابول، قندهار، بكتيكا وکنر، استهدفت شباناً كانوا يتجولون في الطرقات بحثاً عن لقمة عيش، ما أدى إلى مقتلهم أو إصابتهم.
ويعيش الشعب الأفغاني اليوم تحت وطأة الفقر والبطالة وقمع طالبان، بينما تضاف الغارات الباكستانية إلى معاناتهم. ويعبّر المواطنون بسخرية عن هذا الواقع المؤلم بقولهم "لماذا يغضب الأب من أبنائه؟" في إشارة إلى العلاقة المتناقضة بين باكستان وأفغانستان.
ويتساءل الشعب الأفغاني اليوم، كيف لحركة طالبان، التي نشأت وتدرّبت في أحضان باكستان، أن تدخل في صراع مباشر مع هذا البلد؟ وكيف تحوّل الحليف إلى خصم؟ في خضم هذا التوتر، يجد المواطنون أنفسهم مجدداً ضحايا لصراعات إقليمية لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
ويرى المراقبون أن الولايات المتحدة تسعى للحفاظ على مصالحها بأساليب متعددة، بينما تعتمد باكستان على استراتيجيات إقليمية لضمان نفوذها. في المقابل، تشير بعض التحليلات إلى أن طالبان باتت تميل إلى توثيق علاقاتها مع قوى مثل إيران وروسيا والصين، ما يعكس تحوّلاً في توازنات التحالفات الإقليمية.
في ظل هذا المشهد المعقّد، يسعى بقايا النظام السابق وبعض الجهاديين إلى استغلال الفوضى لاستعادة مواقعهم في السلطة والوصول إلى ما تبقى من مواردها، في محاولة لإعادة ترتيب المشهد السياسي وفقاً لمصالحها الخاصة.
وما يعيشه الشعب الأفغاني اليوم ليس إلا نتيجة عقود من النزاعات، حيث تحوّلت البلاد إلى ساحة لتصفية الحسابات الجيوسياسية بين القوى الإقليمية والدولية. فمن انقلاب "السابع من ثور" وتدخل الاتحاد السوفييتي، إلى ظهور الجماعات الجهادية، ثم حكم طالبان، وصولاً إلى التدخلات الأجنبية المتكررة، كان المواطنون الأبرياء، وخاصة النساء والأطفال، هم الضحايا الدائمون لهذا الصراع.
ما دامت المصالح الخارجية والتنافسات الداخلية تتقدم على المصلحة الوطنية وحقوق الإنسان، فإن حلم إعادة الإعمار الحقيقي، وتحقيق السلام المستدام، والعدالة للضحايا سيظل بعيد المنال. الطريق الوحيد للخلاص يكمن في نضال شجاع لا يهاب، تقوده نساء ورجال واعون، يفضحون جرائم القوى والدول المتورطة، ويضعون مصلحة الشعب فوق كل اعتبار.