"مدينة المرأة" نحو فضاءات حضرية ديمقراطية تنصف النساء
أكدت منسقة وحدة التعليم في مديرية سياسات المرأة أدا بازنجر، على أن مشروع "مدينة المرأة" هو امتداد لنضال بدأته الحركة النسائية الكردية، وأن استعادة ذاكرة النساء وضمان أمنهن وحقهن في المدينة هو شرط أساسي لتحقيق العدالة الاجتماعية.
أرجين ديليك أونجل
آمد ـ تُقيّد الفجوة بين الجنسين حياة النساء، فيما تظل البنية الذكورية للمدن والمرافق العامة موضع جدل دائم، فقد تشكّلت إدارات المدن بعقلية تهمّش النساء، من التمييز في مواقع القرار، إلى الميزانيات غير الحساسة للنوع الاجتماعي، مروراً بانعدام الأمان في الأماكن العامة، وصولاً إلى طمس ذاكرة النساء، هذه السياسات أسهمت في إقصاء المرأة عن الفضاء العام وحصرها في الأدوار المنزلية.
نتيجة للنضال المستمر، ظهرت في دول مختلفة وعلى امتداد فترات زمنية متعددة تجارب ملهمة، لم تقتصر على إعادة تشكيل الفضاءات المكانية فحسب، بل أسست أيضاً لفهم ديمقراطي جديد يرتكز على عمل النساء وذاكرتهن الجماعية، هذه التجارب لم تُحدث تغييراً في البنية المادية فقط، بل ساهمت في بناء نماذج تشاركية تزيد من قيمة المساواة والعدالة الاجتماعية.
من هذه التجارب العاصمة الكولومبية بوغوتا، حيث أعادت المدينة تخطيطها عبر مشروع "جزر الرعاية" لتخفيف عبء الرعاية عن النساء، حيث أُنشئت في كل جزيرة مرافق متكاملة تشمل حضانات، مغاسل، مراكز تعليمية، ومساحات للراحة.
وفي كيتو عاصمة الإكوادور، وبالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة، أُدرجت مكافحة التحرش ضمن التصميم الحضري، وتم تعزيز أمان النقل الليلي والأماكن العامة بإشراف النساء.
أما مدينة روزاريو الأرجنتينية فقد اعتمدت نموذج ميزانية تشاركية يراعي النوع الاجتماعي، حيث أُدرجت مطالب منتديات النساء ضمن ميزانية البلدية، مما أدى إلى تنفيذ مئات المشاريع الصغيرة.
وفي السويد وتحديداً في أوميو أُعيدت تسمية شوارع ومباني المدينة لتروي قصصاً تعبّر عن مساهمات النساء في العمل والحياة العامة، من خلال مشروع "المناظر الطبيعية المُراعية للنوع الاجتماعي".
بينما في مدينة كيرالا الهندية وعبر شبكات "كودومباشري"، شاركت أكثر من أربعة ملايين امرأة في الإدارة المحلية على مستوى الأحياء، مما ساهم في تحويل الاقتصاد والسياسة المحلية بقيادة النساء.
المدينة الذكورية بنية تُقصي النساء من الفضاء العام
وفي الوقت الذي تواصل فيه النساء حول العالم نضالهن من أجل تحقيق المساواة، يبرز سؤال جوهري حول مدى ارتباط إدارة المدن بحياة النساء في تركيا، وللوقوف على أبرز الأمثلة، يكفي تسليط الضوء على شمال كردستان، حيث تتعرض لتدخلات متكررة من قبل الدولة ذات العقلية الذكورية، في ظل استمرار هيمنة التمييز القائم على النوع الاجتماعي.
ففي عامي 2016 و2019، تم تعيين أوصياء على 159 بلدية كانت تحت إدارة أحزاب كردية، ما شكّل تجاهلاً صارخاً لإرادة الشعب الكردي، واستهدافاً مباشراً للمكتسبات التي حققتها النساء، وبعد الانتخابات المحلية لعام 2024، تكرر المشهد مع تعيين أوصياء على 10 بلديات تابعة لحزب "DEM"، وفي جميع هذه المراحل، كانت إنجازات النساء في مرمى تدخلات الأمناء.
بدأ الأوصياء أولى خطواتهم باستهداف المؤسسات المعنية بشؤون المرأة، حيث أُغلقت دور إيواء النساء، وتم إلغاء مديريات السياسات النسوية أو استبدال إدارتها برجال، كما طالت الإجراءات عدداً كبيراً من الموظفات، إذ تم فصلهن أو نقلهن، ولم تتوقف التدخلات عند هذا الحد، بل صودرت ملفات النساء اللواتي لجأن إلى مراكز الدعم بعد تعرضهن للعنف، مما عرض حياتهن للخطر.
إلى جانب ذلك، تم تغيير أسماء الحدائق والساحات العامة التي كانت تحمل أسماء نساء، في محاولة لطمس الرموز النسائية من الفضاء العام، كما جرى تحويل مباني مراكز النساء إلى مؤسسات تابعة لحزب العدالة والتنمية (AKP) دون مقابل، في خطوة تعكس تهميشاً ممنهجاً لدور المرأة ومكتسباتها.
وبعد الانتخابات المحلية لعام 2024، وضع حزب "DEM" على رأس أولوياته إزالة آثار الأوصياء واستعادة الحقوق التي سُلبت من النساء، لذلك انطلقت الإدارات المحلية في تنفيذ رؤية جديدة لمدن تراعي احتياجات النساء، من خلال ضمان مشاركتهن المتساوية في صنع القرار، وتنظيم الإنتاج التعاوني والاقتصاد المحلي بما يتناغم مع واقعهن اليومي.
كما يجري العمل على إعادة تصميم الفضاءات العامة ووسائل النقل بطريقة تراعي خصوصية النساء وتوفر لهن الأمان، إلى جانب إحياء ذاكرة النساء وجعلها جزءاً حيّاً من هوية المدينة، في خطوة تهدف إلى ترسيخ حضور المرأة في المجال العام وتعزيز مكانتها في الحياة السياسية والاجتماعية.
وستقوم الإدارات المحلية الديمقراطية في 8 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري بعقد اجتماع واسع لإطلاق مشروع "مدينة المرأة"، حيث أوضحت منسقة وحدة التعليم في مديرية سياسات المرأة باتحاد بلديات جنوب شرق الأناضول (GABB)، أدا بازنجر، أنه سيبدأ في المناطق التي تُدار من قبل بلديات حزب (DEM)، على أن يمتد لاحقاً ليشمل جميع البلديات في تركيا.
وأشارت إلى أن المرحلة الأولى ستنطلق من خمس مدن نموذجية هي آمد، ادرميت، جزيرة، نصيبين، ويوكسكوفا، بهدف بناء نموذج حضري يراعي احتياجات النساء ويعزز مشاركتهن في الحياة العامة.
وأضافت أن الاجتماع سيجمع كافة القوى الفاعلة في المدينة، من نقابات وغرف مهنية ومؤسسات أكاديمية، إلى جانب نساء لا سيما اللواتي يتحملن أعباء الرعاية، وذلك لمناقشة كيفية إدارة هذا المسار بشكل جماعي، وتحديد الاحتياجات والمشكلات والاقتراحات التي ستشكل أساس العمل في المرحلة المقبلة.
من التمثيل المتساوي إلى الرئاسة المشتركة مسار نضال المرأة
رداً على سؤال "ما الحاجة إلى هذا المشروع؟"، أوضحت أدا بازنجر أن هذه المبادرة ليست وليدة اللحظة، بل امتداد لمسار بدأته حركة المرأة الكردية منذ عام 1999، حين رفعت شعار التمثيل المتساوي في الإدارات المحلية.
وفي انتخابات ذلك العام، اتُخذ قرار بترشيح نساء في ثلاث مدن كنموذج تجريبي، وأسفر ذلك عن انتخاب موكاديس كوبلاي رئيسةً لبلدية دوغبايزيد، وجيهان سينكار في قزل تبه، وعائشة كاراداغ في ماردين، مما شكّل نقطة تحول في مسار المشاركة السياسية للنساء على المستوى المحلي.
وقالت إيدا بازنجر إن المشروع الذي يُعاد إطلاقه اليوم ليس جديداً، بل هو امتداد لمسار بدأته حركة المرأة الكردية منذ عام 1999، حين خاضت الانتخابات بثلاث مرشحات وفازت بهن في ثلاث مدن، كان الهدف منذ البداية توسيع هذا الطموح، ومع مرور الوقت، ازداد حضور النساء في مواقع التمثيل المحلي، إلى أن تم ترسيخ مبدأ التمثيل المتساوي فعلياً عام 2014 عبر نظام الرئاسة المشتركة، الذي أصبح جزءاً ثابتاً من أجندة حركة المرأة الكرديةً.
وأضافت "نسعى لتحويل المدن إلى فضاءات نسوية حرة، متساوية، ومشاركة، حيث تكون النساء في قلب الحياة السياسية والاجتماعية، هذا المشروع لم يتوقف، بل تعرقل بفعل تعيين الأوصياء الذين جمدوا أو علّقوا الكثير من المبادرات، ومع استعادة البلديات، بدأنا من جديد على أرض الواقع، ونعمل بسرعة لإحياء هذا الطموح وتحويله إلى ممارسة ملموسة".
ولفتت أدا بازنجر إلى المشكلات البنيوية التي تعاني منها المدن، مشيرةً إلى أهمية مناقشة هذه القضايا من خلال مفهوم "الحق في المدينة"، وتساءلت "ما هو حق النساء في المدينة؟"، موضحةً أن الحديث لا ينبغي أن يقتصر على الحقوق القائمة، بل يجب أن يشمل الحق في إحداث تغيير جذري في بنية المدينة نفسها.
وأكدت أن النساء بحاجة إلى تصور مدن مختلفة تُبنى على أسس المساواة والعدالة، إلا أن العقلية الذكورية السائدة لا تزال تحصر المرأة في موقع ثانوي، وتقصيها من المجال العام، وأن الحديث عن الحرية في فضاء تغلب عليه النزعة العسكرية، والتمييز الجنسي، والقومية المتطرفة، هو أمر غير واقعي، لأن هذه المدن صُممت بعقلية ذكورية لا تراعي احتياجات النساء.
كما بيّنت أن هذه الإشكالية ترتبط أيضاً بالبنية الاقتصادية، حيث تتحول المدينة إلى مساحة للربح، وتُحتكر من قبل رأس المال الذكوري، وعندما تصبح هذه المساحات خاضعة لسلطة الرجال، يغيب أي أفق للحرية أو العدالة الاجتماعية.
وفي سياق حديثها عن مطالب الحكومات المحلية، شددت أدا بازنجر على أهمية "إنشاء فضاءات ديمقراطية، بيئية، وتحريرية للنساء"، مؤكدةً أن هذا الهدف سيكون محور الاجتماع القادم "ما المقصود بالفضاء المجرد؟ وما هو الفضاء الملموس؟ في هذه المساحات تتجلى مظاهر القوة والعقلية الذكورية المهيمنة، علينا أن نطرح منظوراً جديداً لهذه الفضاءات الملموسة، ونبحث كيف يمكننا تطويرها وتعزيزها، هذه القضايا ستكون محور نقاشنا، ومن هنا، نعمل على بناء آلية جماعية لاتخاذ القرار".
وأضافت "نواجه تحديات متعددة في الحياة الحضرية للنساء، تشمل التنقل، السكن، والوصول إلى خدمات دعم ضحايا العنف، وكلها تتطلب حلولًا شاملة وعادلة".
رؤية نسوية لبنية حضرية عادلة
واستعرضت أدا بازنجر نتائج بحث ميداني أُجري حول التحديات التي تواجهها النساء في البيئات الحضرية، مشيرةً إلى أنه تم إجراء مقابلات مع نحو 3500 امرأة في ثلاثة أحياء رئيسية بمدينة آمد (ديار بكر).
وأوضحت أن أبرز المشكلات التي ظهرت تتعلق بالسكن، حيث يعاني العديد من النساء والأطفال من أمراض مثل الربو نتيجة العيش في منازل رطبة ومظلمة، مما يبرز كيف يمكن أن تؤدي أزمة السكن إلى أزمات صحية واجتماعية أخرى.
وأضافت "إذا كنا نطمح إلى تحقيق تنمية حقيقية، فلا بد من معالجة هذه القضايا الجوهرية"، لافتةً إلى أن النقل يُعد من التحديات الكبرى أيضاً، إذ لا تشعر النساء بالأمان أثناء تنقلهن في الشوارع، خاصة في المناطق المعزولة أو غير المضاءة جيداً "هذه مجرد أمثلة على المشكلات التي سنناقشها ونعمل على وضع حلول عملية لها".
وهناك توجهاً سياسياً يسعى إلى محو تاريخ المرأة من المدن على حد قول أدا بازنجر، معتبرةً أن هذا النهج ليس جديداً، بل امتداد لسياسات عالمية تاريخية هدفت إلى طمس ذاكرة المرأة، وتجاهل دورها، وسرقة إنجازاتها، ونسب إنتاجها إلى الرجال، مؤكدةً أن هذه الممارسات تعكس نمطاً ممنهجاً من الإقصاء، يستدعي مواجهة واعية لإعادة الاعتبار لمكانة المرأة في الفضاءات الحضرية والتاريخية.
وشددت على أن الحفاظ على الذاكرة الجماعية يُعدّ جزءاً أساسياً من صون ثقافة المجتمع وبنيته الاجتماعية. وأن طقوس النساء في حديقة هيفسل، مثل جمع الأعشاب في مواسم محددة، كانت تعبيراً حياً عن هذه الذاكرة، غير أن اندثار هذه الطقوس بفعل التحضر يُهدد بنسيانها تدريجياً.
كما أشارت إلى أن هدم الجدار خلال فترة حظر التجول شكّل ضربة قاسية لذاكرة سكان المنطقة، لما يحمله من رمزية تاريخية واجتماعية، مشددةً على أهمية إنشاء فضاءات تحفظ هذه الذاكرة أو تنفيذ مبادرات تُعيد إحيائها، لما لها من دور في تعزيز الروابط المجتمعية، وتوطيد علاقات الجوار، وتمكين السكان من التمسك بماضيهم المشترك.
وأشارت أدا بازنجر إلى أن تعيين الأمناء في البلديات خلال أعوام 2016 و2019 و2024 ألحق ضرراً بالغاً بالبنية الاجتماعية، مؤكدةً أن مشروع "مدينة المرأة" يسعى أيضاً إلى معالجة هذا الأثر السلبي.
وفي ختام حديثها، أوضحت أدا بازنجر أن إغلاق مراكز دعم المرأة وتعيين الأمناء أدى إلى ارتفاع معدلات العنف ضد النساء، وهو ما تؤكده البيانات والدراسات الإحصائية المتوفرة "إن تفكيك هذه الآليات يُظهر حجم التردد والخوف الذي تواجهه المرأة في سعيها نحو التحرر والتمكين، وفي ممارسة حقها في التعبير والمشاركة المجتمعية، وأن إدراك هذه الحقيقة يُعدّ خطوة أساسية في مسار نضالنا".