علامة ثورة بلغت ذروتها... انتفاضة جينا أميني

الانتفاضات في شرق كردستان وإيران، هي علامات لثورة بلغت ذروتها، وتجاوزت الآن كونها مجرد جدال حول إلغاء شرطة الأخلاق، وتغيير قانون الحجاب الإلزامي، ومنح بعض الحقوق الاجتماعية والسياسية، القضية الآن هي قضية حرية عالمية والنضال من أجل تحقيقها.

أكاديمية علم المرأة

إن شرارة الانتفاضة التي أشعلها مقتل جينا أميني في شرق كردستان وإيران، أكملت عاماً كاملاً، وتستمر مقاومة الشعب بلا هوادة ببنيتها الثقافية وتاريخها ضد الهيمنة، وقد ألهمت العديد من المقاومات. جينا أميني أو كما يلقبها الحكام بالفتاة الكردية من مدينة سقز في شرق كردستان، تعرضت للتعذيب على يد "شرطة الأخلاق" في العاصمة الإيرانية طهران في 14 أيلول/سبتمبر، حتى أن دخلت في غيبوبة وتوفيت في مشفى "كسرى" في 16 أيلول/سبتمبر 2022.

وعملت صحفيتين على كشف السياسة المعادية للنساء التي يتبعها نظام الملالي الإيراني والتي ربما ظلت طي الكتمان، الصحفية نيلوفر حميدي كانت أول صحفية تعلن خبر مقتل جينا أميني، والصحفية إلهة محمدي هي من أعلنت شعار "Jin jiyan azadî" على قبرها، وأصبح الشعار الرئيسي للانتفاضة الذي انطلق بقيادة النساء في شرق كردستان وانتشر في إيران ومن ثم في العالم أجمع، واكتسب أهمية كبيرة وأصبح الشعار الذي ترك بصمته على القرن بأكمله.

ويقول أحمد خاني في الملحمة الكردية الشهيرة مَمُ وزين "كل شجرة تنمو على جذورها"، الانتفاضة التي انطلقت على خلفية ممارسات الحكومة تجاه جمال جينا أميني وشعرها الذي أصرت على تغطيته بالحجاب بإحكام وإخفائه، إن ظهور شعار "Jin jiyan azadî" من هذه الانتفاضة، تحول لصرخة امرأة انبثقت من جذور نفس الجغرافية واتبعت مسارها من الفردية إلى العالمية، وبعد مرور عام على المقاومة، اليوم أصبحت جينا أميني رمز أبعد بكثير من كونها فرد وامرأة تعرضت للتعذيب حتى الموت، وأبعد من كونها امرأة عارضت قانون الحجاب الإلزامي، ومقاومة تحدت النظام الأبوي الحاكم.

 

من التراكمات النوعية (كيفية) إلى الانفجار الكمي

إن التراكمات النوعية في المجتمعات تجلب معها انفجارات وزيادة في الكمية، وكما يمكن للنوعية أن تتحول إلى كمية، فإن الكمية بإمكانها أن تتحول إلى نوعية وفقاً لحركتها وقوتها، فقبل جينا أميني، قتلت المئات أو حتى آلاف من النساء في التاريخ الحديث للحكومة الإيرانية بسبب عدم ارتدائهن الحجاب، جميعنا نتذكر كل من ريحانة جباري التي تم إعدامها لأنها قامت بقتل الرجل الذي اغتصبها، وشيرين علم هولي التي أعدمت بسبب دفاعها عن قوانين الحرية ضد قوانين النظام، وفريناز خسرواني التي ألقت بنفسها من نافذة فندق كانت قد احتجزت فيه لاغتصابها من قبل ضابط، وغيرهن الكثيرات، لا يمكن إدراج أسماء كل النساء اللواتي أقدمت إيران على قتلهن، ولكنهن جميعاً وبكل تأكيد تستحققن أن يتم تخليدهن باعتبارهن المعالم البارزة في العملية التي أدت إلى انطلاقة انتفاضة جينا أميني، في الحقيقة بإمكاننا أن نطلق على الانتفاضة المستمرة بلا هوادة منذ عام بأنها بداية لعملية تسير نحو حرية المجتمع بأكمله.

إن مفهوم الحياة الذي قدمه القائد عبد الله أوجلان القائل "أنا طفل ثقافة الآلهة الأم"، للنساء اللواتي تنحدرن من نسل الآلهة الأم، في صيغة شعار "Jin jiyan azadî"، التي تغذيها جذور الجغرافيا وتجربة أكثر من ٤٠ عاماً من النضال، حددت اتجاه هذا التدفق مع تراكمه، هناك مثل يقول "البحث عن الكنز يكون في المكان الذي فقد فيه"، ويحدد القائد أوجلان الجغرافيا التي كانت مصدر الإلهام لصيغته السحرية للحياة على النحو التالي "إن الحياة الخلابة ولدت هنا، وتحققت في كردستان، لقد أضاعت سلطات الدولة والتسلسل الهرمي حياة على مدار آلاف السنين وتجسدت هذه المرة بالمرأة والحياة في نفس تلك الأماكن.

 

ثقافة المقاومة الجغرافية

وعلى مدار التاريخ في جغرافية إيران، لم تكن الانتفاضات الناشبة عن إصرار الشعب على حماية وجودهم وثقافة المرأة، والتفرد الذي يفرضه الحكام قليلة، وفي كل محطة من هذا التاريخ الذي يرتكز على ثقافة الآلهة المتجذرة في زاغروس ويحمل في خلفيته تقاليد زرادشت، نقابل حكاية مقاومة ونضال، كما وشهدت هذه الجغرافية حضارات يهيمن عليها الرجال بشكل عميق ولفترة طويلة من الزمن، ودوماً كانت هناك تدخلات مكثفة موجهة مباشرة نحو الوضع الاجتماعي للمرأة، وطريقة مشاركتها في الحياة.

 

من خرم بنت أكادي إلى جينا أميني

عند الحديث عن تقاليد المقاومة الآرية، من المستحيل عدم ذكر خرم بنت أكادي، كان مزدك وزوجته خرم بنت أكادي، صوت الشعب ضد الرهبان المستبدين والارستقراطيين والطبقة الغنية، الشركاء للإمبراطورية الساسانية، والمجتمع الذي كان يسعى مزدك وزوجته خرم بنت أكادي إلى تأسيسه هو مجتمع كومونالي اشتراكي قائم على المساواة، بينما اختار مزدك التسوية مع الحكومة وتحويلها لوسيلة من أجل المجتمع الذي أراد تأسيسه، وقتل في سبيلها في (499)، وبعد وفاته، اختارت زوجته خرم بنت أكادي القتال لمعرفتها بأن التسوية مع الحكومة ستجلب معها كارثة لهم.

إن قرار خرم بنت أكادي هذا يمنع تشكيل فجوة قيادية في الحركة وتفكك القوى، القوات التي انسحبت تحت الأرض واصلت نضالها بقيادة خرم بنت أكادي تحت اسم "الخرمين"، إن قيادة امرأة لحركة وحمل الحركة اسم امرأة تفتح الطريق أمام مشاركة ودعم نسائي مكثف، يتكون الكادر المؤسس في حركة خرم بنت أكادي بشكل رئيسي من النساء، حظرت المازديكية في البلاد، وبالنسبة للخرمية فلم تجذب انتباه الدولة بعد، ولهذا السبب تعتقد القوى المهيمنة أنهم قاموا بالقضاء على الحركة وتصفيتها، لكن الوضع ليس كما يظنونه أبداً، إن قضية المرأة المقترنة بالمشاكل الاجتماعية تؤدي إلى تطور فعلي واتساع في النضال، تحاول النساء بشتى الطرق المحافظة على ثقافة مجتمع قائم على المساواة، وبينما تقوم البعض منهن بتحضير أبنائهن وأبناء إخوتهن وأزواجهن ويرسلونهم للنضال، فإن هناك أخريات مثل خرم بنت أكادي تدخلن مباشرة إلى ساحة النضال كقائدة ومقاتلة ومنظمة، ومع هذه التطورات، أصبحت خرم بنت أكادي ناقلة فعالة لثقافة المرأة في العصر الحجري الحديث القائمة على المساواة والتشاركية، وأصبحت الناطقة الرسمية باسمها، وبينما هزت من خلال نضالاتها عرش الإمبراطورية الساسانية المهيمنة، فقد تركت إرثاً عظيماً من المقاومة للحقب التي تلتها.

للأسف الشديد، نظراً لأن السجلات التاريخية تُركت لكتبة الحكام البطريركين، فليس هناك الكثير من المعلومات حول خرم بنت أكادي ويتم تجاهلها تقريباً، لقد كان لخرم بنت أكادي والحركة الخرمية تأثيراً على الثورات الشعبية التي تطورت بعد ذلك، بما في ذلك بابك والكارماتي وزنج، وتركت آثارها حتى القرن العاشر، واليوم بإمكاننا رؤية آثر خرم بنت أكادي في مطالب الانتفاضة من المساواة والحرية والعدالة التي بدأت بعد مقتل جينا أميني.

وإلى جانب تقديمنا لخرم بنت أكادي كمثال عن إرث مهم للمقاومة في الجغرافيا الإيرانية، نشهد أن المرأة هي من كانت في القيادة وأن المرأة كانت المقاومة بحد ذاتها، أثرت رياح الموجة النسوية، التي هبت في عامة العالم بعد 1850، على نضال المرأة في هذه الجغرافيا، ونشأت تقليداً للمقاومة يدمج بين هذه الريح والتقاليد. على الرغم من أن انتفاضة نساء تبريز، واحتجاجات التبغ عام 1890 وحركة الاحتجاجات على نقص الغذاء عام 1895 وحركة الدستور عام 1906، الثورة الإسلامية عام 1979 لم تكن حركات نسائية، إلا أنها كانت حركات اجتماعية شاركت فيها المرأة بشكل نشط وفعال، بل وتولت دور القيادة فيها من فترة لأخرى.

 

لا تقبل بكل من الدين والحداثة المفروضة من الخارج

تعتبر إيران الدولة الأكثر تنوعاً في الشرق الأوسط من حيث الهوية العرقية واللغة والمعتقد، وعلى الرغم من محاولات الدولة القومية على مدى القرنين الماضيين على التوحيد بالضغط والقمع، وتمكنت من تمزيق القميص المنسوج لها إلى أجزاء في كل محاولة.

إن السياسات تجاه المرأة في إيران في القرن العشرين، يمكننا أن نفسرها على أنها ضغط بين الحداثة القومية -الأحادية التي تفرضها الحكومة والاستبداد الأحادي الذي تفرضه الحكومة الدينية، ومن جهة أخرى بإمكاننا القول بأن نضال المرأة للمساواة والحرية مستمر بتأثيره المتواصل على العالمية وأصالته المحلية، ويمكن القول بأن هذه الصراعات والضغوطات ذات الاتجاهين لا تزال سارية حتى اليوم، خلال فترة الحكم الملكي للأب والابن، قدمت ثقافة الأسرة الملكية الحاكمة إلى المجتمع كنموذج، وعملت على عرض تقليد الحداثة المستوحاة من الغرب من خلال النساء.

"إن نسخة الشرق الأوسط من الحداثة الرأسمالية أصبحت منطقة مشكلة في العديد من المناطق الجغرافية المماثلة، إن وصفات الحلول المقدمة دون إدراك الطابع المحلي للمجتمع ليس لها أي حصيلة حيوية في المناطق الجغرافية القديمة مثل الشرق الأوسط وكردستان، والنهج الذي يتجاهل مشكلة حرية المرأة أو يعتبرها خالية من الحرية الاجتماعية لن تتخمر في هذه الجغرافيا، والحلول الغربية الحديثة أيضاً لم تتخمر".

 

44 عاماً من العصيان

النساء اللواتي نظرن لعام 1979 كثورة ضد الفرضيات الخارجية للحداثة، قدمن الدعم للخميني في نواح عديدة، ولكنهن واجهن واقع الرجعية الدينية بشكل مرير، والحقوق السياسية والاجتماعية المكتسبة من خلال النضال ودفع بدائل باهظة تمت إزالتها جميعاً، واحتجزت النساء داخل حدود منازلهن، وحُرمن من حقوقهن من السفر والقراءة، وأصدر قائمة طويلة تتضمن قرارات قمعية بحق المرأة في إيران مثل إلزامية الحجاب وإقالة القاضيات من مهنتهن وغيرها الكثير.

ومنذ العام الأول للنظام لم تتوقف انتفاضات المرأة أبداً، وفي عام 1980 خرجت النساء إلى الشوارع للثورة في الثامن من آذار/مارس، ولا تزال تستمر مقاومة المرأة في إيران وشرق كردستان منذ أكثر من 44 عاماً، وإن الانتفاضة التي أشعلها مقتل جينا أميني واستمرت لمدة عام، هي النسخة الكمية للقفزة النوعية النسائية المناهضة للنظام والمناصرة للحرية والتي امتدت اليوم إلى الشوارع.

ولكن كما هو الحال مع كل عملية ثورية، فعندما ننظر إلى مدة العام الواحد، فإن هذه الثورة لها مخاطرها ومزاياها، بإمكاننا اليوم رؤية الوجود العميق للمجتمعات الآرية وثقافة الآلهة الأم وانعكاسها في العديد من المعتقدات حتى يومنا الراهن، لم يشهد في التاريخ على أن إصرار الإلهة الأم والثقافة التي تحملها باتت دون نتائج، وهذا غير ممكن بالنسبة لليوم أيضاً.

وبالنسبة لجانب المخاطر والمضاعفات، إن حصر مشكلة حرية المرأة في الجغرافيا بالثورة الإسلامية يخلق بعض الصعوبات في الفهم الكامل للعملية الثورية الجارية، حتى وإن كان محلياً، فأن محور الموضوع الذي ظهر خلال عملية الانتفاضات التي تصاعدت وانخفضت كشعلة لمدة عام، هو الموقف الأكثر ليبرالية لفترة ما قبل 79 إن نداء "الموت للمستعمرين سواء إن كان الشاه أو الهادي" الذي برز كشعار في الاحتجاجات يظهر لنا الأفكار ومطالب الشعب الرائدة في الاحتجاجات، وتقول النساء "المشكلة ليست مشكلة نظام، بل مشكلة أنظمة".

وهناك موضوع آخر وهو أن قوى الحداثة الرأسمالية تستخدم انتفاضة المرأة كحجة في نزاعات الهيمنة، هناك عملية تقديم بعض الشخصيات التي نشأت في بلاد المهجر باعتبارهم متحدثين باسم الانتفاضة، ويجسدون أصحاب الثورة الحقيقيين الذين قدموا بدائل باهظة، شهدنا في هذا العام التشويش على النساء اللواتي أصبحن موضوعاً بدفاعهن عن حريتهن في الشوارع على حساب أرواحهن، وإطلاق أصحاب الهيمنة نشطاء المشروع الذين قام بتدريبهم على التحدث بالاتجاه والأسلوب الذي يريده، وبغض النظر عن الأيديولوجيا التي تقف وراء شعار "Jin jiyan azadî"، فإن هذه المجموعات حاولت ولا تزال تحاول تشويه الثورة واقتلاعها من جذورها.

 

محاولات الفئات المهمشة لإرباك الثورة

ومن أجل القيام بأخذ احتياطاتها الخاصة في الانتفاضة والاحتجاجات الثورية المستمرة التي بدأت في شرق كردستان وإيران، عادت الليبرالية إلى وضع حججها المختلفة موضع التنفيذ مرة أخرى، كما حدث من قبل في الثورات السابقة، ومن أحد هذه الأمور هو تقديم مطالب المرأة بالحرية كمشكلة حرية أساسية عن طريق إضافة مطالب فرعية أخرى، ومثال آخر على ذلك هو الدعاية التي تخبر بأن "النظام قد تراجع خطوة إلى الخلف" وعرض بعض التحسينات في النظام كما لو كانت مطالب النساء هذه فقط، لقد تجاوز النضال خلال فترة الانتفاضة، والآن ليس مجرد مناقشات حول إلغاء شرطة الأخلاق، وتعديل قانون الحجاب الإلزامي، ومنح بعض الحقوق الاجتماعية والسياسية للمرأة، إن المشكلة هي مشكلة الحرية من المحلية إلى العالمية والنضال في سبيل تحقيقها.

قال القائد عبد الله أوجلان "يكون للحرية معنى إذا كانت وسيلة تجلب معها حريات جديدة، هذه هي الحرية البناءة"، كما ويقول أيضاً "إذا لم تكن حريتكم وسيلة تجلب معها حريات أخرى، فهذه تكون حرية استعباد"، لقد تركت أيديولوجية الحداثة الرأسمالية ومخادعات الليبرالية للحقوق والحريات الفردية بصماتها على كافة مجالات الحياة في هذا العصر، وقامت بخنق العديد من العمليات الثورية، بما في ذلك ما يسمى "الربيع العربي"، إن العملية في شرق كردستان وإيران، هي الآن في مكانة تبني الحرية الاجتماعية وتشير إلى ثورة بلغت ذروتها.