كولناز كاراتاش أيقونة المقاومة النسوية الكردية

جسّدت كولناز كاراتاش نضال المرأة الكردية من أجل الحرية والكرامة، وصنعت بتضحيتها نموذجاً للمقاومة النسوية الرافضة للاستسلام والخيانة، ولا يزال إرثها حياً في نضال آلاف النساء اللواتي يسرن على دربها، حاملات راية الحرية في مواجهة الذكورية والأنظمة القمعية.

روكن جيركي

في شخصية الشهيدة كولناز كاراتاش الملقبة بـ "بيريتان" يستحضر العالم ذكرى جميع مناضلات حركة حرية المرأة الكردية، وينحني إجلالاً أمام تضحياتهن البطولية، حيث يُعرف شهر تشرين الأول/أكتوبر في تاريخ الحركة بأنه شهر الشهيدات، إذ ارتقت فيه العديد من المناضلات اللواتي قدّمن أرواحهن فداءً للحرية.

على امتداد جبال كردستان، في كل زاوية وكل طريق، أمام كل حجر وشجرة، سُفكت دماء مناضلات ومناضلين في سبيل قضية عادلة، من كولناز كاراتاش إلى منوّر سارانيان، وإلى غوربتلي ارسوز، ومن جولناز توركان إلى روناهي ألمان، ثم آرين ميركان وناكيهان أكارسال، سطّرت هؤلاء النساء صفحات مشرقة من النضال.

واليوم، نواصل المسيرة على خطاهن، حاملين إرثهن في حركة حرية المرأة، حيث يزداد نضالنا قوةً وصلابةً يوماً بعد يوم، وفاءً لتضحياتهن وبناءً لمستقبل أكثر عدالة وكرامة.

 

الحرية والكرامة في وجه الذهنية الذكورية السلطوية

وفي التاريخ هناك لحظات مفصلية تترك أثراً لا يُمحى، وتُعيد تشكيل الوعي، وكما يقول القائد أوجلان "التاريخ هو الحاضر، والحاضر هو التاريخ"، وعند تأمل مسيرة حركة حرية المرأة، يبرز عام 1992 كمنعطف حاسم في نضال النساء.

ففي الرابع من تشرين الأول/أكتوبر 1992، وبمشاركة الولايات المتحدة، والدولة التركية، وقوى فاشية وأحزاب كردية مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، انطلقت عملية عسكرية واسعة تهدف إلى القضاء على حركة التحرر الكردستانية ومقاتليها ومقاتلاتها.

بدأت هذه الحملة من ثلاثة محاور في إقليم كردستان هي خاكورك، زاغروس، وحفتانين، وشملت هجمات من الجانبين الجنوبي والشمالي ضد المقاتلين.

رغم ضراوة الهجوم، فشلت الخطة في تحقيق أهدافها، بفضل مقاومة المقاتلين الذين استلهموا قوتهم من فكر القائد أوجلان، وكان للمقاتلات دور قيادي بارز في هذه المعركة، حيث تولين مواقع القيادة في ساحات القتال، فقد قادت منوّر سارانيان المعارك في حفتانين، بينما كانت كولناز كاراتاش تقود العمليات في خاكورك بفريق قتالي في جبهة شديدة الخطورة.

تعرضت الجبهة التي كانت فيها لهجمات شرسة، وكان الهدف من الحصار المفروض على كولناز كاراتاش من قبل البيشمركة والدولة التركية هو إجبارها على الاستسلام، لكن ردها كان حاسماً، القتال حتى اللحظة الأخيرة، ورفض الخيانة والاستسلام، لتُجسد بذلك روح المقاومة والوفاء لقضية الحرية.

 

خط المقاومة انتصر على خط الخيانة

قبل استشهادها تولّت كولناز كاراتاش قيادة فريقها بكل مسؤولية، واضعةً سلامة رفاقها في مقدمة أولوياتها، حيث حرصت على تأمين مواقعهم قبل أن تتقدم بنفسها إلى الخطوط الأمامية، وبصفتها قائدة ميدانية، وقائدة نسائية، حملت إيماناً عميقاً بقضيتها، وواجهت الاحتلال بشجاعة دون أن تتراجع أو تتردد، حتى لحظة استشهادها.

تحوّل الاشتباك إلى ملحمة بطولية تُروى عن صمودها، وحتى عندما بدأت ذخيرتها بالنفاد، لم تتسلل إليها لحظة خوف أو تردد، بل واصلت القتال بإرادة صلبة ووعي ناضج، رافضةً الاستسلام أو الخيانة.

ولكيلا يقع سلاحها في يد العدو، أتلفته بيديها لتمنعهم من استخدامه ضد رفاقها، بهذا الموقف جسّدت روح المقاومة، وحافظت على نضال الكريلا، رافعةً شعار "يحيا القائد أوجلان، الاستسلام خيانة"، قبل أن تلقي بنفسها من الجرف، وتنال الشهادة في 25 تشرين الأول/أكتوبر 1992، تاركةً خلفها إرثاً من البطولة والكرامة.

يحمل استشهاد كولناز كاراتاش بُعداً فلسفياً ومعرفياً عميقاً، فهو ليس مجرد موقف فردي بل امتداد لتقليد تاريخي متجذر في نضال الكرديات، اللواتي رفضن عبر العصور الخضوع للعدو، واختَرْن الموت بكرامة على الاستسلام.

كما فعلت الشهيدة بسّي التي قالت "لا" للاستسلام، وسلكت طريق الكرامة بإلقاء نفسها من الجرف، وكما فعلت رند خانا التي رفضت الخنوع وألقت بنفسها في الماء، تواصل كولناز كاراتاش هذا الإرث المقاوم، مؤكدة أن هذا النهج ليس لحظة عابرة، بل مسار نضالي مستمر حتى يومنا هذا، وسيبقى حياً ما دام هناك من يؤمن بالحرية ويرفض الخيانة.

 

تأسيس جيش المرأة جاء تكريماً لتضحيات المناضلات

كانت كولناز كاراتاش "بيريتان" تمثل خط حرية المرأة الذي تسير عليه اليوم آلاف النساء، رافعات رايتها ومواصلات دربها بثبات، رافضات الاستسلام لأعداء المرأة، ففي معارك عام 1992، برز خطان متناقضان الأول خط بيريتان الذي يجسد المقاومة والإيمان والتضحية؛ خط يُقاتل فيه حتى النهاية، أما الثاني خط الخضوع والخيانة، الذي يفتقر إلى الإيمان بالشعب والانتصار، ويختار التحالف مع العدو، خط العثمانيين.

عبر التاريخ، سار هذان الخطان جنباً إلى جنب في كردستان، فهناك من باع نفسه للعدو، وقبل التبعية، وخان شعبه من أجل مصالحه الشخصية والعائلية، فمارس القمع والظلم بحق أبناء جلدته، وفي المقابل وقف الكرد الشرفاء أصحاب الكرامة، مدافعين عن وطنية حقيقية، فكانوا دائماً مشاعل مضيئة في تاريخ كردستان.

من بين هؤلاء تبرز كولناز كاراتاش المولودة في ديرسم بشمال كردستان كنموذج حي، امرأة كردية ثورية، محبة لشعبها، مناضلة من أجل أرضها، بفلسفة القائد أوجلان أنارت ذاكرتها، وتعلّمت وارتقت بوعيها، بحثها عن الحرية نما يوماً بعد يوم، مدفوعاً بحلم لقاء القائد، وفي مواجهة الذكورية السلطوية جسّدت نموذج المرأة الحرة، صاحبة الموقف والمقياس الحقيقي للحركة.

وتكريماً لتضحياتها، أسّس القائد أوجلان جيش المرأة مؤكداً أن "المرأة التي تقاتل تصبح جميلة، والجميلة تصبح حرة، والتي تصبح حرة تكون محبوبة"، كما أصبحت كلناز كاراتاش رمزاً للمرأة الحرة والمحبوبة التي اختارت طريق الكرامة والمقاومة.

كحركة حرية المرأة امتد نضالنا من كردستان إلى الشرق الأوسط والعالم، وانتشر شعار "Jin Jiyan Azadî" ليصبح صوتاً جامعاً لكل النساء، ومن خلال نموذج الأمة الديمقراطية، وبإرادة نسوية تطمح للحرية، نخوض نضالاً شاملاً ضد الدولة القومية، والذكورية المعادية للمرأة، والنظام الأبوي، وضد منظومة الحداثة الرأسمالية التي تنكر وجود المرأة وتشرعن قتلها، كما نواجه النظام الذي يدمّر الطبيعة، ونقاومه بوعي.

وفي دعوة "السلام والمجتمع الديمقراطي"، وضع القائد أوجلان آماله في النساء كافة، فقد حدّد من خلالها المهمة الأسمى للمرأة، مؤكّداً على دورها المحوري في مسيرة التحرر والتحول المجتمعي.

ونعي تماماً مسؤولياتنا وواجباتنا، وندرك أن المرحلة الراهنة تضعنا في موقع القيادة، المرأة الكردية اليوم تواصل نضالها في الشوارع، والساحات، والمجالس، مستندةً إلى إرث المناضلة كولناز كاراتاش، ومسلّحة بوعي الذات والدفاع عنها، لتثبت حضورها في كل الميادين.