"كذب أبيض" يسلط الضوء على سنوات الرصاص في المغرب

بأسلوب مختلف وبرؤية فنية جديدة قدمت المخرجة المغربية أسماء المدير فيلم يتناول الأحداث التي شهدتها مدينة الدار البيضاء.

رجاء خيرات

مراكش ـ ‫"كذب أبيض" فيلم وثائقي للمخرجة المغربية أسماء المدير يتناول قضية "انتفاضة سنة 1981" أو ما يسمى بـ "شهداء كوميرا" وهي الأحداث التي شهدتها مدينة الدار البيضاء المغربية في 20 حزيران/ يونيو 1981.

تشارك المخرجة المغربية أسماء المدير في المسابقة الرسمية للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش في دورته الـ 20 بفيلمها الطويل "كذب أبيض"، والذي تم عرضه أمس الثلاثاء 28 تشرين الثاني/نوفمبر، ويسلط الضوء على أحداث 1981 التي شهدتها مدينة الدار البيضاء، حيث تستحضر المخرجة تفاصيل الأحداث التي ذهب ضحيتها عدد من الجيران والأقارب برفقة أبطال فيلمها الذين هم أفراد عائلتها.  

وقالت المخرجة أثناء تقديم العرض إنها سبق وأن قدمت هذا الفيلم في أكثر من محفل دولي، لكن الأمر يعتبر مختلفاً لأنها تقدمه لأول مرة لجمهور مراكش وأكدت أنه "إذا اختفت الأجساد والصور، فإن الذاكرة لاتزال تحتفظ بالتفاصيل".  

بأسلوب مختلف وبرؤية فنية جديدة استطاعت المخرجة المغربية أن تشد جمهور المهرجان لفيلمها الذي كان يحمل عنوان "أم الأكاذيب" باللغة الإنجليزية ليتحول العنوان إلى "كذب أبيض" بالعربية في إشارة إلى جدتها التي كانت تتهم أمها بالكذب، وهي التي تُسير البيت برمته بقبضة من حديد، وتتدخل في كل صغيرة وكبيرة من شؤونهم.

وسط هذه التفاصيل اليومية التي تجمع أفراد أسرتها، تسلط كذلك الضوء على مرحلة مهمة من تاريخ المغرب السياسي، حيث تناولت الموضوع بشكل مختلف عما كان سائداً عند غيرها من المخرجين.   

ويضم هذا الفيلم عدداً من أفراد عائلتها، وهم بطلة الفيلم جدتها لأبيها وأمها ووالدها وبعض الجيران، ويعد نبشاً في الذاكرة الجماعية التي أعادت المخرجة من خلالها سرد الأحداث المؤلمة التي ذهب ضحيتها عدد من الجيران الذين فارقوا الحياة وبعضهم ظل مجهول المصير.   

واستعانت المخرجة في بناء القصة على لسان أفراد أسرتها الذين شاركوها الفيلم، باستثناء الجدة التي رفضت أن تتحدث عما حدث رغم أنها تتذكر جيداً تفاصيله، خوفاً من تبعات ذلك، كما أنها ظلت رافضة للصور أو الاحتفاظ بها، وهو ربما ما جعل المخرجة في ورطة حقيقية أمام غياب أرشيف يوثق تلك المرحلة خاصةً في مرحلة الطفولة، ما جعلها تلجأ إلى بناء الشخصيات بطريقة مختلفة اعتمدت فيها على المجسمات الصغيرة للشخوص (دمى) وكذلك للحي (تصاميم مجسدة).  

ولكي تجعل لهذا النسق معنى، دعت أفراد أسرتها للانخراط في صناعة الدمى، حيث الأم تخيط الألبسة والأفرشة، بينما الأب يهتم بالإنارة وصناعة الدمى، باستثناء الجدة التي ترفض دائماً رفضاً قاطعاً أن تشارك في هذه العملية، لاعتقادها أن المرحلة التي شهدت فيها الدار البيضاء تلك الأحداث لا زالت قائمة، وبأن الوضع السياسي في المغرب لازال كما كان، دون أن تدرك بأن المغرب انخرط بما يسمى الإنصاف والمصالحة وجبر الضرر لضحايا سنوات الرصاص.  

ويتطرق الفيلم في جزء منه للأب الذي كان يحلم بأن يصبح حارس مرمى، قبل أن يتبخر حلمه بسبب اندلاع تلك الأحداث التي عصفت بالملعب الوحيد الذي كان يخوض فيه مبارياته مع فريقه، ويتحول هذا الملعب إلى مقبرة جماعية لشهداء تلك الأحداث، وكذلك الشأن لعدد من الجيران الذين حرموا من الحياة.

وتدخل الحفيدة /المخرجة مع جدتها في حوار، حيث تسألها عن سبب رفضها للصور، باستثناء صورة الملك الراحل الحسن الثاني التي ظلت محتفظة بها، وكانت الصورة الوحيدة المعلقة بالبيت، لتقول الجدة أن "كل الصور حرام"، كما ترفض الخوض في الحديث عما وقع لأن "الجدران لها آذان".  

ومن داخل الفيلم تحاول المخرجة أن تقيم مصالحة بين أفراد عائلتها، خاصة والدتها وجدتها، فالأم عانت كثير من الحماة وتدخلها في كل صغيرة وكبيرة، بل إن الأم لا تمتلك حتى صور حفل زفافها لأن الجدة ترفض الصور، ويتبادلان بعض الاتهامات، التي تريد المخرجة منها أن تخلق هذه المصالحة بينهما، في محاكاة واضحة للمصالحة التي انخرط فيها المغرب بإنشائه لهيئة الإنصاف والمصالحة وطي هذه الصفحة المظلمة من تاريخه السياسي.

وتتوالى الأحداث والمخرجة تسأل وتستدرج والدها وجدتها وبعض الجيران للبوح بما وقع في ذلك اليوم المشؤوم، وهم منخرطون في صناعة الدمى والمجسمات والتصاميم، إلى نهاية الفيلم، حيث أصبح الحي الذي كانوا يقطنون فيه جاهزاً بكل تفاصيله وجزئياته البسيطة، لكن بألوان وأشكال جميلة، كأنما تريد أن تنسي المشاهدين فظاعة ما وقع، وتقول بأن المغرب أنهى حتى تداعيات تلك الفترة السوداء، والجميع يعيش اليوم مرحلة جديدة.

وينتهي الفيلم بأن تدعو المخرجة الجدة للمشاركة بصورة جماعية، وتنجح في إقناعها بذلك، كما يشرعون في طي التصاميم وجمع الدمى والأفرشة في علب كرتونية إعلاناً لنهاية الحكاية، فيما تخبرنا المخرجة أنه يصعب عليها أن تودع تلك الأجواء الحميمية التي قربتها من عائلتها وكشفت لها عن مرحلة مهمة من تاريخ البلد.