حولت السجن فضاء للنضال النسائي... شهادة معتقلة

أكدت هاجر يوسف خليل، التي قضت ثلاثين عاماً في السجون التركية بسبب نشاطها السياسي، على أن السجن كان فضاءً للمقاومة الفكرية والروحية، وأن ارتباطها بفكر القائد أوجلان شكّل محوراً وجودياً في نضالها.

سوركل شيخو

قامشلو ـ تحوّل السجينات السياسيات الكرديات السجن إلى فضاء للمقاومة الفكرية والنضالية، مؤكدات أن التعذيب والعزل لم يكسر إرادة النساء بل عمّق ارتباطهن بالنضال من أجل حرية الشعوب. وأن فكر القائد أوجلان شكّل منارة داخل الزنازين، ودافعاً لتحويل المعاناة إلى مشروع تحرري عالمي.

في مستهل حديثها، قدّمت هاجر يوسف خليل توصيفاً عميقاً لمعنى السجن بالنسبة للمرأة الكردية "السجن بالنسبة للنساء يحمل دلالات متعددة، فهو فضاء للمقاومة والثقافة، ويختزن معاني كثيرة. إذا لم نمنح وجودنا في السجن معنى يومياً، فإننا سنحوّل السجن إلى سجن آخر لأنفسنا".

 

تحوّلت المعاناة إلى مشروع تحرري

وأوضحت هاجر يوسف خليل أن النظام السلطوي يستخدم السجن كأداة لإبعاد الإنسان عن مبادئه، ودفعه للتراجع عن تطلعاته نحو الحرية "رغم أننا لا نستطيع المشاركة في النضال خارج السجن، فإن الاستسلام لم يكن خياراً، بل كان يولّد فينا أشكالاً جديدة من المقاومة".

وتحدثت عن تجربتها في المثول أمام المحاكم، مشيرةً إلى أن الذهاب إلى المحكمة بالنسبة لها، لم يكن مجرد إجراء قانوني، بل لحظة تحمل دلالات ومعانٍ ترتبط باليوم أو العام وبتجربتها الشخصية "عندما كنا نتحدث عما تعرضنا له من تعذيب جسدي، إهانات، عنصرية، وتهميش كنساء وككرد، كان يعاد ممارستها علينا مرة أخرى، وكنا نرد عليها بمواقفنا الصامدة".

وأكدت أن كل مرحلة زمنية، سواء كانت سنة أو شهراً، كانت تحمل معها تجارب جديدة ومعانٍ خاصة "منذ لحظة اعتقالي وحتى الإفراج عني، لم أتخلّى يوماً عن روح المقاومة التي جسّدتها ساكينة جانسيز، مظلوم دوغان، وفرهاد كورتاي، إلى جانب مقاومة الرابع عشر من تموز"، مضيفةً "لم نسمح لمخططات الاحتلال أن تهيمن علينا، بل سعينا إلى نشر الحياة التي بُنيت على نضال الشهداء والشهيدات، وجعلها امتداداً لمسيرتنا".

وتحدثت هاجر يوسف خليل عن واقع السجن بالنسبة للمرأة، مشددةً على أهمية إدراك الدافع وراء الاعتقال "من الضروري أن تطرح المرأة على نفسها هذا السؤال قبل كل شيء، لماذا دخلتِ السجن؟ إذا كنتِ تناضلين من أجل نساء كردستان، والشرق الأوسط، والعالم، فإن دخولك السجن هو نتيجة طبيعية لمسار نضالي عالمي".

وأضافت "عبر هذه التجربة، يبدأ الإنسان في اكتشاف ذاته، فيُصغّر من حجم السجن ويوسّع من أفقه الداخلي، إن الحركة التي أسسها القائد أوجلان تُعدّ حركة متجددة في التاريخ العالمي، ويجب أن نكون على قدر هذه المسؤولية. على الكرد، سواء في كردستان أو في أي مكان آخر، أن يكونوا جزءاً فاعلاً في هذه الحركة".

وأشارت إلى أن النضال من أجل الحرية لا يقتصر على خارج السجن، بل يستمر داخله بنفس الزخم "كنا نواصل المسيرة ذاتها داخل الزنازين كما في الخارج. السلطات التركية، بكل أساليبها، تسعى إلى دفع السجناء نحو الندم والتراجع. على سبيل المثال، يُقال لكِ "أنتِ امرأة، ماذا تفعلين هنا؟" "لماذا لا تزالين متمسكة بهذا النضال؟" "لقد قضيتِ حياتك كلها في السجن". هذه الأساليب، وحتى ما هو أكثر خفاءً منها، كانت تُمارس ضدنا باستمرار".

وأفادت أن المرأة في تركيا تُستخدم كوسيلة دعائية في مختلف المجالات، مشيرةً إلى أن هذا الواقع يستدعي مقاومة فكرية ونضالية "نناضل من أجل النساء التركيات اللواتي تحوّلن إلى أدوات دعائية، ونريد أن نُظهر لهن أن لهن حياة حقيقية، وأن الحياة المفروضة عليهن ليست خيارهن، بل هي نتاج للرأسمالية والاستعمار، من خلال ثورة كردستان، نسعى إلى إيصال رسالة مفادها أن لهن الحق في حياة مختلفة".

وتابعت "عندما نلتقي بهؤلاء النساء، تزداد قوتنا في النضال، وتتسع مسؤولياتنا. لذلك يجب على المرأة أن تمنح معنى لكل زاوية في السجن، حتى جدرانه، لأن غياب هذا المعنى يجعلنا نبتعد عن جوهر حياتنا"، موضحةً أن السلطات التركية سعت إلى تفتيت إرادة النساء داخل السجون "في البداية، كنا نُسجن كمجموعة، ثم تم فصلنا عن بعضنا البعض، وكل واحدة وُضعت في زنزانة منفردة، في محاولة لسلب إرادتنا. لكننا، من خلال منح المعنى لجدران السجن، استطعنا تحويل تلك المعاناة إلى قوة داخلية، نعيد بها بناء أنفسنا وننضج فكرياً، حيث أن القائد أوجلان ساعدنا على فهم أعمق لطريق الحياة الحرة، ولجوهر حرية المرأة".

 

"فكر القائد أوجلان منارة في ظلام الزنازين"

وحول سبب تمسكها بالمقاومة داخل السجن وعدم اختيار مسار آخر قالت "بعد نقل القائد أوجلان إلى الزنزانة الانفرادية وحرمانه لسنوات من حقوقه الأساسية، لم أعد أستطيع القول إنني أعيش معاناة داخل السجن. كنا نناقش فيما بيننا ونقول "لدينا هنا عدد من الزميلات، وإذا مرضت إحداهن، يمكن أن نقدم لها كأس ماء، لكن ماذا عن القائد أوجلان؟" هذا الإحساس كان يرافقنا ويمنحنا القوة، فلم يكن بإمكاننا أن نختار حياة خارج إطاره".

وأضافت "لقد أصبح القائد أوجلان بالنسبة لنا محوراً وجودياً، ومن خلاله تشكّلت لدينا قناعات راسخة. رغم سنوات النضال الطويلة، لم نستطع التخلي عن فكره، بل كنا نعيد اكتشافه باستمرار. هذا الارتباط العميق فتح أمامنا باباً واسعاً للتأمل والنقد الذاتي".

ولفتت إلى أنها ورفيقاتها بدأْنَ إضراباً عن الطعام بهدف إيصال صوت القائد عبد الله أوجلان، وأن اعتقاله ليس مجرد سياسة تركية داخلية، بل جزء من منظومة دولية "المخططات التي تُحاك ضده تتجاوز حدود تركيا، فهي تُدار من قبل قوى دولية، لكن تتولى تركيا تنفيذها، لذلك من الضروري أن نُعمّق فهمنا لهدف الحرية الجسدية للقائد أوجلان، وأن نطرح على أنفسنا أسئلة جوهرية، من نحن؟ من أين جئنا؟ إلى أين نتجه؟ وما هو هدفنا الحقيقي؟".

وتابعت "كلما تعمّقنا في هذا الإدراك، ازداد ارتباطنا بنساء كردستان، والشرق الأوسط، والعالم، وازداد إيماننا بأن هذا النضال يتجاوز الجغرافيا، ويعبّر عن قضية إنسانية شاملة".

واستذكرت محاولات السلطات التركية قطع التواصل بين المعتقلات، مشيرةً إلى أن هذا التواصل كان يشكّل مصدراً مهماً للقوة والتضامن "كانت السجينات السياسيات في سجون شمال كردستان وتركيا وخارجها يتبادلن الرسائل فيما بينهن، يكتبن لبعضهن كلمات الدعم ويُرسلن التحيات. كما كنا نتلقى رسائل من صديقاتنا في الشرق الأوسط وأوروبا، وكنا نرد عليها بكل اهتمام".

وأضافت "لكن في السنوات الأخيرة، تم القضاء على هذه الفرصة، وقطعت السلطات هذا النوع من التواصل بشكل ممنهج. وضعت العراقيل أمام هذا التبادل، لأنها تدرك أن هذه الرسائل تحمل قوة معنوية وتُعزز من روح المقاومة".

وعبّرت هاجر يوسف خليل عن تمسكها العميق بدعم القائد أوجلان، مشيرةً إلى أن هذا الالتزام تجلّى في خطوات عملية داخل السجن "أردنا أن نواصل طريقنا، فبدأنا بكتابة الرسائل له، لكن رسائلنا لم تكن تصل إليه. في كل يوم أحد، كانت تُلقى كلمات الدعم من أجل القائد أوجلان، كما أرسلنا رسالة إلى وزير العدل نؤكد فيها رفضنا لأي شروط أو قيود تُفرض عليه".

وأضافت "رغم محاولات السلطات التركية دفعنا إلى نسيان القائد أوجلان، كنا نُحييه يومياً في وعينا ووجداننا من خلال نشاطاتنا ومواقفنا. لقد جعلنا من وجوده معنا في السجن واقعاً نعيشه، لا مجرد فكرة، وأثبتنا أن العلاقة بيننا وبينه لا يمكن أن تُمحى أو تُنسى".

 

"السجن لا يُطفئ شعلة الثورة"

وأشارت هاجر يوسف خليل إلى اختلاف أساليب التعذيب التي تعرضت لها النساء عبر الفترات المختلفة، موضحةً أن كل مرحلة حملت معها نوعاً خاصاً من المعاناة "لكل حقبة صعوباتها، فبينما كان التعذيب الجسدي هو السائد في السابق، أصبح التعذيب النفسي اليوم أكثر انتشاراً وتأثيراً. بعد عام 2000، كانت زميلاتنا لا يزلن يواجهن الاعتداءات الجسدية بشكل مباشر. كثيرات منهن فقدن أرواحهن تحت التعذيب، وبعضهن أنهين حياتهن نتيجة ما تعرضن له".

وأوضحت أن كل يوم داخل السجن كان يحمل طابعاً خاصاً من المقاومة والارتباط العميق بالقائد أوجلان، مشيرةً إلى أن هذا الارتباط لم يكن مجرد شعور، بل تجسّد في مواقف وتضحيات ملموسة "أطلق خالد أوران حملة بعنوان "لن تستطيعوا حجب شمسنا"، ونفّذ عملية فدائية جسّدت أسمى معاني الوفاء، لا تزال تلك اللحظة حيّة في ذاكرتي، أشعر بها بكل تفاصيلها، كانت الزنازين تشتعل يومياً، والمعتقلين والمعتقلات الذين أرادوا التعبير عن مواقفهم كانوا يقدّمون أغلى ما يملكون، كل شيء من حولنا كان يتغيّر، وكأننا نعيد تشكيل الواقع بإرادتنا".

وتابعت "لكن من أكثر اللحظات التي تركت أثراً عميقاً فينا كانت عملية روتيندا وكردة. تأثرنا بشدة بأصوات صرخاتهما، حيث استشهدت كردة، وأصيبت روتيندا بجروح بالغة، حملناها بجراحها إلى داخل الزنزانة، واعتنينا بها، وبعد نقلها إلى المستشفى، فارقت الحياة هناك. كانت تلك التجربة من أقسى وأشد اللحظات التي مررنا بها، لكنها عمّقت فينا معنى التضحية والصمود".

 

"من كردستان مستقلة إلى أمة ديمقراطية"

وسلّطت هاجر يوسف خليل الضوء على التحول العميق في الفكر السياسي الذي قاده القائد أوجلان منذ انطلاق الكفاح المسلح "بعد طرح مطلب كردستان مستقلة، بدأنا نحلم بما هو أبعد من حدود الدولة القومية. تطلعاتنا باتت تتجه نحو بناء مجتمع ديمقراطي يقوم على مبدأ الكونفدرالية الديمقراطية في الشرق الأوسط، حيث تعيش الشعوب المختلفة بحرية ومساواة. لم يكن من السهل استيعاب فكرة دولة ديمقراطية وكردستان حرة، لأن الدولة التي تُقيّد شعوبها وتمنع عنها الحرية، تفقد معناها الحقيقي، فالعرب، والترك، والفرس أنفسهم يعيشون في ظل أنظمة تقمعهم داخل دولهم".

وتابعت "الانتقال من نموذج الدولة القومية إلى مفهوم الأمة الديمقراطية والكونفدرالية الديمقراطية في الشرق الأوسط وكردستان، منحنا رؤية أكثر عمقاً واتساعاً للعالم، نضالنا لم يعد محصوراً في القضية الكردية، بل أصبح نضالاً إنسانياً عالمياً في وجه القمع والاستبداد. فالبشرية اليوم تواجه تحديات وجودية، وقيمها الاجتماعية والأخلاقية تتعرض للتدمير. ومن خلال بناء كردستان حرة، وإقليم شمال وشرق وسوريا ديمقراطي، وشمال كردستان ديمقراطي، وإقليم كردستان ديمقراطي، وشرق كردستان ديمقراطي، يمكننا أن نُحيي الأرواح التي لا تزال تؤمن بإمكانية تحقيق هذا الحلم".

وفي حديثها عن التحول الذي بدأ في 27 شباط/فبراير الماضي، أشادت هاجر يوسف خليل بالدعوة التي أطلقها القائد أوجلان، والتي تقوم على ترسيخ السلام وبناء مجتمع ديمقراطي "في ذلك اليوم، انطلقت مرحلة جديدة. من وجهة نظري، ما كان يطلبه القائد أوجلان منا في السابق لم نكن نملك القدرة على تنفيذه، أما اليوم فقد بدأ بتجسيده عملياً، تجاوز الحاجات الأساسية كالخبز والماء، والسعي نحو وحدة الشعوب، لم يعد خياراً بل ضرورة، وهو جوهر مشروعنا السياسي والاجتماعي".

وقالت في ختام حديثها "إذا تمكّنا من تحويل تركيا، العراق، وسوريا إلى دول ديمقراطية، فإن شعوبها ستتمكن من تنظيم نفسها وفق مفهوم الأمة الديمقراطية. قد يبدو الطريق طويلاً، لكنه قابل للتحقق، فالرأسمالية التي دمّرت البنية المجتمعية والثقافية والأخلاقية، يعيد القائد أوجلان صياغتها من جديد، ويحوّلها إلى مشروع يخدم الإنسانية جمعاء، ويمنح الشعوب فرصة حقيقية للعيش بحرية وكرامة".