في اليوم العالمي لذوي الإعاقة... غزة تكشف جراحاً لا يراها العالم
يكشف المؤتمر الذي أقيم أمام مركز الأطراف الصناعية في غزة حجم المأساة التي يعيشها ذوو الإعاقة، ويبرز المعاناة المضاعفة للنساء اللواتي حُرمن من العلاج والحركة والخصوصية وسط انهيار المنظومة الصحية خلال حرب الإبادة.
نغم كراجة
غزة ـ بمناسبة اليوم العالمي لذوي الإعاقة، نظّمت شبكة "الأجسام الممثلة للإعاقة"، مساء أمس الأربعاء، مؤتمراً أمام مقر مركز الأطراف الصناعية في غزة، بمشاركة واسعة من ذوي البتر والإعاقات الناجمة عن الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة.
في ساحة ضيّقة تحوّلت إلى مساحة مفتوحة للأصوات، اجتمع عشرات من ذوي الإعاقة والبتر، رجالاً ونساءً، يحاولون أن يعلنوا أمام العالم بعضاً من حجم الألم الذي خلّفته حرب الإبادة الجماعية على أجسادهم وحياتهم اليومية، حمل المشاركون صوراً لأطرافهم المبتورة، ملفاتٍ طبية بُعثرت أوراقها، ورسائل لعلّها تصل إلى منابر دولية ما زالت، كما يقولون "تتجاهل نزيف الجسد الفلسطيني منذ أكثر من عامين".
"النساء الفئة الأكثر تضرراً داخل الإهمال الطبي"
تقول أماني الحداد، رئيسة قسم العلاج الطبيعي في مركز الأطراف الصناعية، إن هذا المؤتمر لم يكن مجرد فعالية رمزية، بل صرخة عاجلة وضرورية في وجه الصمت الدولي "نحن اليوم أمام واقع كارثي غير مسبوق، إذ نرصد ما يزيد على ستةٍ وعشرين ألف حالة بتر منذ بداية حرب الإبادة الإسرائيلية، هذا الرقم لا يعكس فقط حجم الهول، بل يختصر انهيار المنظومة الطبية تحت الحصار الخانق ونفاذ الأدوات الجراحية وغياب الرعاية المتخصصة".
وتشرح، في سياق موسّع، جانباً من معاناة النساء ذوات الإعاقة خلال الفترة الأخيرة، مؤكدةً أنهنّ الفئة الأكثر تضرراً داخل دائرة الإهمال الطبي "تواجه النساء ذوات الإعاقة مستويات مضاعفة من المعاناة، فإلى جانب صعوبة الحركة والتنقل في بيئة مدمّرة بالمطلق، تفقد النساء خصوصيتهنّ في مراكز الإيواء، وتُحرم المصابات من الرعاية الطبية الملائمة، ومن الفحوصات الضرورية أو جلسات العلاج الطبيعي، بسبب غياب الطواقم النسائية المختصة، تجد المرأة المُقعدة نفسها مضطرة لطلب المساعدة في أبسط تفاصيل يومها، في حين كان من المفترض أن تحفظ لها المنظومة الصحية لو كانت قائمة الحد الأدنى من الكرامة والخصوصية".
وأوضحت أن آلاف النساء ذوات الإعاقة لم يتمكنّ من الوصول إلى الأطراف الصناعية أو أجهزة المساعدة على الحركة بسبب استهداف مركز الأطراف الصناعية ونقص المواد الأولية، مشيرةً إلى أن "الأمهات اللواتي يعانين من إعاقة يجدن أنفسهن عاجزات عن رعاية أطفالهن، فيما تتضاعف الأزمة حين تُجبرهن ظروف النزوح على قطع مسافات طويلة دون أدوات مساعدة، ما يؤدي في الكثير من الحالات إلى تدهور البتر وازدياد التقرحات الجلدية".
"فقدتُ نصف حياتي في لحظة واحدة"
وعلى مقربة من منصة المؤتمر، وقفت شابة تدعى بلسم مصطفى، تبلغ من العمر سبعة عشر عاماً، مستندة إلى عكازها المعدني، أُصيبت خلال استهداف منزلها ما أدى إلى بتر قدمها اليمنى، وحوّل أحلامها الدراسية إلى مسار طويل من الصراع مع الألم، تقول بصوت خافت لكن ثابت "فقدتُ نصف حياتي في لحظة واحدة، كنت أستعد لتقديم امتحانات الثانوية العامة، أحفظ الدروس وأرتب مستقبلي، ثم وجدت نفسي عاجزة عن الحركة، وعن الذهاب إلى المدرسة مثل زميلاتي".
وتتابع حديثها الذي يشبه شهادات آلاف الجرحى من الفئة العمرية ذاتها قائلة "لم يعد الطريق إلى المدرسة ممكناً دون من يساعدني، ولم أعد أستطيع التنقل بحرّية لاستكمال دراستي، ومع ذلك، أقول لنفسي دائماً لن أسمح لإعاقتي أن تُسقط حلمي، سأواصل تعليمي مهما كان الطريق صعباً".
ورغم التحديات الطبية والنفسية التي تواجهها، فإن دعم عائلتها الضئيل في ظل النزوح والإمكانات شبه المعدومة يدفعها للاستمرار، خاصةً مع انعدام العيادات المتخصصة بالعلاج الطبيعي وانقطاع جلساتها التي كانت تعتمد عليها لمنع تدهور وضع البتر.
"أشعر بأنني سجينة داخل الجسد"
القصة أكثر تعقيداً عند فاطمة الحلولي، التي عانت من إعاقة في القدم اليسرى منذ طفولتها وكانت ترتدي طرفاً صناعياً قبل الحرب تقول "في السابع من تشرين الثاني 2023، تغيّر كل شيء حين اضطرت للنزوح القسري من منزلي خرجت في لحظة هلع دون أن أتمكن من ارتداء طرفي الصناعي، مكتفية بعكازي الخشبي الذي لم يصمد طويلاً أمام عنف الطريق وظروف القصف، خرجت وأنا أحمل روحي فقط، لم أجد الوقت ولا حتى القدرة على ارتداء الطرف، كنت أسمع القصف يقترب، فهربت كما أنا وبعد ساعات قليلة انهار كل شيء من حولي، ومنذ ذلك اليوم تدهورت حالتي الصحية بشكل كامل".
تعيش فاطمة الحلولي اليوم في خيمة مهترئة، وتعاني عجزاً شبه تام عن الحركة بعد أن فقدت إمكانية الوصول إلى طرفها الصناعي الذي بقي في منزلها المُدمَّر، كما لم تتمكن طوال عامين من الحصول على بديل بسبب الحصار واستهداف مراكز الأطراف "أشعر بأنني سجينة داخل الجسد، أعجز عن المشي خطوات قليلة، ولا أستطيع الوصول إلى المستشفى لأخذ علاجي، غزة اليوم بلا منظومة صحية، بلا دواء، بلا أطباء، بلا غرف علاج طبيعي، كل شيء انهار".
وتعكس قصة فاطمة الحلولي وبلسم مصطفى إلى جانب شهادات أخرى لم تُعلن خشية الوصم الواقع الأكثر قسوة للنساء ذوات الإعاقة خلال الحرب، إذ يقفن في منطقة أكثر هشاشة داخل بنية اجتماعية وصحية متهالكة، فمع انهيار المشافي وغياب الخدمات الصحية المتخصصة، تجد النساء أنفسهن بلا مأوى صحي، بلا أجهزة مساعدة على الحركة، بلا أمن شخصي، وبلا خصوصية في مراكز الإيواء المكتظّة.
"النساء في مراكز الإيواء بلا خصوصية"
من جانبها توضح أماني الحداد جانباً من هذه الإشكالية بقولها "داخل الخيام، لا تملك النساء ذوات الإعاقة مرافق صحية مهيّأة، ولا قدرة على الوصول إلى دورة المياه دون مساعدة، يفقدن المساحة الشخصية، ويعانين من الإحراج الدائم بسبب الازدحام وانعدام الخصوصية، بعض النساء أصبن بالتهابات مزمنة في مكان البتر بسبب عدم توفر مستلزمات التعقيم أو الضمادات أو حتى الماء النظيف".
ولفتت إلى أن من بين التحديات الأكثر خطورة الانقطاع الكامل لجلسات العلاج الطبيعي، التي تحتاجها النساء بشكل دوري لتجنب تصلب العضلات أو مضاعفات ما بعد البتر "العلاج الطبيعي ليس رفاهية، بل جزء أساسي من إعادة التأهيل، عدم توفره لأشهر متتالية يعني أن المريضة قد تفقد قدرتها على الحركة بشكل كامل، أو تتدهور حالتها إلى مستوى يصعب علاجُه لاحقاً".
في ختام المؤتمر، طالب المشاركون بفتح ممرات آمنة لإخلاء الجرحى، وتوفير أطراف صناعية عاجلة لآلاف المصابين، وضمان وصول النساء ذوات الإعاقة إلى بيئة علاجية آمنة تحفظ كرامتهن وخصوصيتهن، كما دعا القائمون إلى ضرورة تدخل المؤسسات الدولية لوقف ما وصفوه بـ"الإبادة المستمرة التي تستهدف الجسد الفلسطيني وتتركه ينزف بلا علاج".