في الذكرى الثامنة لتحرير الرقة... لم تلتئم جروح نساء فقدن أبنائهن
شكل تحرير مدينة الرقة من رجس داعش فرحة مضاعفة للنساء كونهن ذُقن الأمرين من انتهاكاته وجرائمه، إلا أن العديد منهن لاتزال فرحتهن مطعونة بخاصرتهن كون جراحهن لم تلتئم بفقدان أبنائهن.
يسرى الأحمد
الرقة ـ "نبأ التحرير بمثابة ولادة حياة جديدة رغم آلام الفقد"، بهذه الكلمات أكدت الأمهات اللواتي فقدن أبنائهن إبان سيطرة داعش على مدينة الرقة، أن فرحة التحرير والخلاص من داعش كانت "ناقصة" بعدم عودة المفقودين الذين اعتقلوا على يد داعش بذرائع واهية.
شهد أهالي مدينة الرقة إبان سيطرة داعش، أبشع الجرائم والانتهاكات من قتل ورجم النساء وحملات الاعتقال والتعذيب والنفي خاصة للشبان القُصّر، ففي الذكرى السنوية الثامنة لتحرير مدينة الرقة التي تصادف 17 تشرين الأول/أكتوبر، تجدد آلام الفقد لدى النساء اللواتي فقدن أبنائهن في تلك الفترة.
رصدت وكالتنا قصص عدة نساء شاهدات على التحرير وروين لحظات فقدان أبنائهن على يد داعش، تجلس كل منهن على عتبة منزلها لتنتظر مجيئ ابنها رغم مرور سنوات عديدة، إلا أنهن تملكن بصيص أمل بعودتهم.
"منعوني من البكاء والنوح على ابني"
وبنبرة ألم تروي فاطمة عبد الله الكداوي في العقد السادس من عمرها وأم لأربع بنات وولدين، حادثة اعتقال ابنها الكبير واصفةً إياها بالساعة المؤلمة "في الشهر الأول من عام 2016، في تمام الساعة العاشرة مساءاً كنا نائمين عندمت دخل علينا العشرات من داعش دون طرق أو أذن، وانتشروا في أرجاء البيت، كانت سيارات الحسبة تطوق الحي من جميع الاتجاهات، سألتهم ما الذي تريدوه منا ولماذا اقتحمتم المنزل بهذا الشكل؟، واتهمونا آنذاك بأننا نتاجر بالسجائر، فتشوا المنزل بأكمله حتى البراد بحجة البحث عن السجائر، وفي ذلك الوقت كان ابني في زيارة لدى بيت عمه الكبير وفي حين سماعه لأصوات غريبة في منزلنا أتى هو وابن عمه الذي يصغره بعامين، وهاجمهما داعش ووضعوا في رؤوسهما أكياس خيش وأدخلوهما في سيارة الحسبة".
يعد الملعب البلدي في مدينة الرقة بإقليم شمال وشرق سوريا خير شاهد على الجرائم والانتهاكات التي تعرض لها الأهالي في ظل سيطرة داعش ومخصص كسجن "كنت أتردد إليه بشكل دائم وفي كل مرة يخبرونني أنه لم يتم الحكم عليه وهو موقوف، وفي حال تم الحكم عليه سيخبرونني"، كما بينت فاطمة الكداوي.
وتحدثت عن نبأ مقتل ابنها والدموع تملأ عينيها "في الساعة الثانية ظهراً بينما كنت أنا وعائلتي نأكل الطعام، رن الهاتف ليخبرني أحد المرتزقة أن ابني قد قتل، فصرخت وقتل كيف ولماذا وبأي تهمة، لكنه أغلق السماعة وعاودت الاتصال بنفس الرقم وأخبرني ذات الكلام".
وأضافت "استقبلت خبر مقتل ابني بصدمة وأنهرت أرضاً لم يسعني التحرك أو الوقوف على أقدامي، فكيف يكون حال الأم حين سماع خبر مقتل ابنها، لم أتقبل الفكرة أردت التأكد من صحة الكلام فذهبت بعجلة إلى الملعب البلدي للسؤال عنه، لكن انكروا صحة الاتصال والخبر، عدت أدراجي والشك يراودني، وفي طريقي إلى المنزل صادفني مقر المحكمة الذي كنت دائماً ما أتردد إليه بقصد التأكد من الحكم الصادر بحق ابني، وعندما سألتهم عن مصيره قالوا لي أنه صدر بحقه حكم القصاص، فقلت أريد جثته لأودعه وأدفنه، فصرخ علي "لماذا لا تلبسين الخمار"، لكني أجبته والحزن والغضب يملئ قلبي "لن أرتديه وأفعل ما تريد فعله لست خائفة"، متسائلةً "بأي حق أو ذنب قتلوا ابني؟".
ولفتت إلى أنه منعوها من إقامة بيت عزاء لابنها "لم نتمكن من استقبال أحد أو حتى أن نبكي عليه أنا وشقيقاته وأقاربه، فقد طوقوا الحي بالسيارات وداهموا منزلنا وهجموا علينا رجال ونساء بالأسلحة وقالوا "سنحرقكم إذا ما توقفتم عن البكاء"، وطردوا الموجودين وهددوهم بالقتل".
وحول ما قاساه الأهالي من انتهاكات على يد داعش، تقول "تعرض الأهالي على مدار أعوام إبان سيطرة داعش على المدينة لأبشع الانتهاكات، وكان للنساء النصيب الأكبر حيث كان يتم اعتقالهن ومعاقبتهن بالجلد والغرامة في حال لم يكن لباسهن شرعي وأسود بالكامل"، لافتةً إلى أنهم استخدموا الدين ليمارسوا أفظع الجرائم "كانوا يحرفوا الدين وآيات القرآن والأحاديث النبوية، ويفرضون ويحرمون من نفسهم أشياء لم تذكر في الإسلام".
وعن استقبالها لنبأ تحرير مدينة الرقة، بينت أنه "أثناء حملة تحرير الرقة اضطررنا للنزوح إلى القرى المجاورة للمدينة، فعندما سمعت بخبر التحرير سعادتي كانت لا توصف رغم أنها فرحة مطعونة بالخاصرة، فقد قدمنا العديد من الشهداء في سبيل التحرير ورغم الألم والأسى الذي ذقناه إلا أنني كنت أتمنى أن يكون ابني بجانبي لحظة الخلاص من داعش وجرائمه البشعة".
لم يهدأ قلبها بعد تحرير مدينة الرقة لتبدأ رحلة البحث عنه مجدداً "بعد أن تحررت المدينة، لم أتوانى للحظة في رحلة البحث عن ابني، بحثت عنه في كل مكان لم أترك سجن أو مكان اعتقال لم أقصده"، مضيفةً "لن أسامحهم أريد أخذ حق ابني وتحقيق العدالة لجميع الأشخاص الذين تعرضوا للانتهاكات آنذاك".
"لم أفقد الأمل بعودته كوني لم أرى جثمانه"
وذكرت سعدة حسن المرعي وهي في العقد السادس من عمرها وأم لأربعة شبان وخمس بنات، حادثة اعتقال أبنائها الاثنين عبد الله البالغ من العمر 22 وأحمد الذي يصغره بعامين، على يد داعش "قبل التحرير بعامين تقريباً قصدنا مزرعتنا التي تقع في الريف الشمالي للرقة، استقرينا هناك للعمل في أرض زراعية، ففي أحد الليالي بينما كنا جالسين أنا وعائلتي بجانب المدفئة، طوق داعش المزرعة بأكملها، وداهم المنزل واعتقل ابناي الاثنين ومعهما ابن عمهم، بتهمة التعامل مع النظام السوري".
وتابعت "في ذات الليلة، تم اعتقال ابني الأكبر الذي بقي في الرقة لحماية منزلنا من السرقة بتهمة استخدام الإنترنت من أجل التواصل مع الجهات المعادية، وبقي معتقل لمدة شهر لكن عائلتي لم تخبرني، فرفضت النزول إلى الرقة إلى حين عودة أبنائي، قصدت كافة الأماكن للبحث عنهم للاطمئنان عنهم".
"الغريق يتعلق بقشة" بهذه الكلمات عبرت عن حالها آنذاك وهي تبحث عنهم في كل مكان دون جدوى، لافتةً إلى أنه بعد مرور ثلاثة أشهر على اعتقالهم سمحوا لابنها الأكبر بالتحدث معها عبر مكالمة هاتفية "قال لي (أمي كيف حالكِ) بدأنا كلانا بالبكاء. طيلة فترة سجنهم كنا نسمع من الذين خرجوا وكانوا معهم في نفس الزنزانة أن وضعهم بخير، لكن بعد تحرر المدينة تقطعت بهم الأخبار، ولا يزال لدي بصيص أمل أنهم لازالوا أحياء".
واستذكرت سعدة المرعي لحظات تحرير الرقة "عند سماعنا عن انطلاق حملة تحرير المدينة، كنت على أمل أنه بعد التحرير سيكون لدي فرصة لأجد أبنائي في السجون لكن بحثت كثيراً دون جدوى، لم تغيب صورة أبنائي وضحكاتهم عن مخيلتي ولو للحظة".
"نبأ التحرير بمثابة ولادة حياة جديدة رغم ألم الفقدان"
وهكذا الحال مع رابعة الشواخ فقصتها لا تختلف عن قصة سابقاتها، بعد أن اعتقل ابنها الأكبر ذو الـ 17 عاماً على يد داعش "حوالي الساعة الثالثة ظهراً، داهم داعش منزلنا وطوقوه واعتقلوا ابني، ركضت ورائهم وأنا أصرخ أين تأخذون ابني، لكنهم لم يجيبوني بكلمة. كانت هناك حملة موسعة من الاعتقالات آنذاك، إذ أنهم اعتقلوا 8 أشخاص من نفس المنطقة. اتهموا ابني أنه جاسوس للنظام السوري وأنه يقوم بنشر شرائح جوية، لم يقترف ابني أي ذنب كان هادئاً جداً ولا يحب المشاكل، حيث يقضي أغلبية وقته في عمله ضمن الصناعة".
وأضافت "مضت ثلاثة أشهر وأنا أتردد على السجن لأراه وأطمئن عليه بالرغم من الخطر الذي كان يحدق بي حيث تم استهداف المنطقة عدة مرات، لكنني كنت أريد معرفة معلومة واحدة عنه، فكل مرة يخبروننا أن نأتي لاحقاً ويتذرعون بأنهم سيطلقون سراحه في الفترة المقبلة".
ولفتت رابعة الشواخ إلى أنه بعد مرور ما يقارب 6 أشهر تحدثت معه عبر مكالمة هاتفية حوالي خمسة دقائق فقط "أتذكر نبرة صوته عندما أخبرته متى ستخرج فقال "قريباً سأخرج"، كان خائفاً منهم ولا يستطيع التحدث بأريحية معي، وبعد عامين على سجنه أخبرونا أنه صدر بحقه حكم القصاص، لكن لم يقبلوا بتسليم جثته".
وعما شهدته إبان سيطرة داعش على المدينة، بينت أنه "لقد شهدنا كنساء اضطهاداً كبيراً وادعاءات عارية من الصحة وتعرضنا لانتهاكات ومورس بحقنا جرائم لا يمكن وصفها، وأصبحت أمر روتيني نعيشه وترافقنا طيلة وقتنا فأصبحنا ننام ونستيقظ على رعب، حتى الشبان لم يسلموا من هذه الانتهاكات وفرض عليهم أحكام عديدة فمن لا يذهب إلى المسجد وقت رفع الآذان يعاقب بالجلد أو السجن والغرامة، كما أن السارق يتم بتر يديه".
وعن الموقف الذي شهدته ووصفته بأنه منظر تقشعر له الأبدان، تقول "في أحد الأيام وفي طريقي إلى الطبيب، وحين مروري بجانب الدوار الواقع وسط المدينة الذي كان يستخدمه داعش للقصاص وتعليق الرؤوس والأيادي عليه والتمثيل بالجثث، شدني تجمع كبير للأهالي جانب الدوار اقتربت نحوهم لأرى ماذا يحدث، كان هناك تنفيذ حكم القصاص على ثمانية شبان لا يتجاوز أعمارهم الـ 20 عاماً، رأيتهم حين قاموا بقصاص رؤوسهم وتعليقها على الدوار ليتركوها لبضعة أيام. عشنا في كابوس وقضينا أياماً مليئة بالرعب لم نشعر براحة وسلام قط، من شدة خوفي وأسفي على ما يحصل في الخارج لم أكن أخرج من منزلي".
واعتبرت لحظة تحرير مدينة الرقة بمثابة ولادة جديدة للأهالي وخاصة النساء، ولاتزال عالقة في مخيلة كل فرد أراد الحرية والخلاص من داعش "كنا ننتظر حملة التحرير بفارغ الصبر، فقد غابت أوجه الحياة عن المدينة بالكامل، كنا مجرد أجساد بلا روح، فبعد التحرير شعرنا بنهاية الحقبة السوداء التي خيمت على المدينة لأعوام، ونقطة الخلاص من ظلم وانتهاكات داعش فكانت من أجمل اللحظات رغم أن فرحتنا لم تكتمل لأن أبنائنا لم يعودوا، لكن تغير حالنا وواقعنا مئة درجة عما قبل".
وعبرت عن تعلقها الشديد بفقيدها "علاقتي معه تختلف عن بقية أشقائه فهو مقرب جداً لي. حتى الآن أذكر ملابسه التي كان يرتديها لحظة اعتقاله، أعيش على وهم دخوله من باب المنزل لأستقبله واحتضنه".
"ابيضت عيناي من الحزن لكنني لم أفقد أمل عودته"
وكان لـ عبطة مصطفى حمود التي ابيضت عيناها من شدة بكائها على ابنها المفقود ذو الـ 16 عاماً، قصة حزينة ومكللة بالضرير، تقول "كان ابني يعمل في مهنة نجارة الخشب لدى ابن عمه، وفي ليلة اعتقاله كان نائماً في منزل عمه بعد أن داهمته داعش في الفجر، وبعد سماعي باعتقاله كنت أتردد إلى مركز المعتقلين وأطلب منهم رؤية ابني لكن دون أي جدوى فهم لا يحملون بقلبهم أي رحمة".
وتتمنى عبطة حمود أن ترى فقيدها ولو لمرة واحدة "تجمعني به عاطفة قوية حيث كنت متعلقة به جداً كونه الأصغر بين أشقائه، بعد فقدانه أصابتني حالة من الجنون، وابيضت عيناي من الحزن والأسى الذي أصابني، لكن لا يزال لدي أمل بعودته لأنني لم أرى جثمانه ولا حتى صورة له". وبعد اعتقال ابنها كانوا يترددون إلى منزلها بشكل مستمر كما ذكرت "حاولوا الاستيلاء على منزلنا وأردوا أن يخرجوننا منه، لكي يجعلوه مقر لهم، لكني لم أرضخ لأوامرهم".
وعن فرحتهم بتحرير مدينة الرقة أكدت أنه "رغم ما تعرضنا له من خسائر بشرية ومادية بعد تدمير آلاف المنازل وفقدان عشرات الشبان على يد داعش، لكن فرحنا جداً بتحريرنا من قبضتهم"، مطالبة بمحاكمة داعش المتواجدين في السجون وتحقيق العدالة.
أطلقت قوات سوريا الديمقراطية حملة "غضب الفرات" في عام 2016 لتحرير مدينة الرقة، وتحررت المدينة في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2017، وأعلن عن التحرير في 20 من الشهر ذاته.