فتيات غزة في الميدان... عطاء لا ينضب وسط معاناة العائدين إلى شمال القطاع

وسط رحلة شاقة للنازحين العائدين إلى شمال غزة، تبرز مبادرات إنسانية يقودها متطوعون لتخفيف معاناة العائدين ومدّ يد العون لهم رغم إمكانياتها المحدودة.

نغم كراجة

غزة ـ بادرت مجموعة من الفتيات في قطاع غزة على مساعدة النازحين العائدين إلى شمال القطاع من خلال تقديم يد العون لهم ومساندتهم بعد أن عانو الويلات وذاقوا مرارة النزوح والتشرد طوال عام ونصف من القهر والجوع والحرمان.

مع استمرار عودة النازحين من جنوب قطاع غزة إلى شماله عبر حاجز نتساريم وطريق صلاح الدين منذ السابع والعشرين من كانون الثاني/يناير الجاري، تتجلى صور التضحية والإنسانية في أبهى أشكالها حيث تكاتفت المؤسسات والجمعيات الإغاثية رغم إمكانياتها المحدودة في تقديم يد العون للنازحين الذين يخوضون رحلة شاقة يتخللها الانتظار لساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة، وقطع مسافات طويلة على الأقدام في ظل شح الطعام والمياه الصالحة للشرب.

وبين جموع العائدين، كان حضور الفتيات المتطوعات بارزاً حيث سخرن جهدهن وإرادتهن لمساندة آلاف العائلات التي عانت الويلات، وذاقت مرارة النزوح والتشرد طوال عام ونصف من القهر والجوع والحرمان. 

 

"إحنا السند" مبادرة تروي عطش العائدين 

 

 

سالي أبو شعبان، المتطوعة في مؤسسة إنقاذ المستقبل الشبابي حملت على عاتقها مع فريقها مسؤولية التخفيف من معاناة العائدين من خلال حملة "إحنا السند" التي عملت على توفير مياه الشرب ووجبات خفيفة لمنهكي الرحلة الطويلة، تتحدث قائلة إنها كانت تنظر إلى وجوه العائدين، فتقرأ فيها التعب الممزوج بالأمل، وتلمح عيون الأطفال الغائرة من الجوع والعطش، وقد خارت قواهم قبل أن يصلوا إلى ديارهم المدمرة.

وأوضحت أن "كل خطوة قطعناها في توزيع زجاجات المياه الصغيرة، وكل يد امتدت إلينا لتناول كسرة خبز أو علبة بسكويت، كانت تؤكد لنا أن وجودنا هنا ليس مجرد عمل تطوعي، بل هو واجب أخلاقي وإنساني يربطنا بأبناء شعبنا الذين صمدوا في وجه المحنة، رأيت أطفالاً يحملون على أكتافهم ما تبقى من منازلهم، ونساءً ترتجف أصواتهن من الإرهاق لكن عيونهن لم تفقد الأمل، في هذه اللحظات أدركت أن الإنسانية لا تحتاج إلى إمكانيات ضخمة إنما إلى قلوب صادقة وأيادٍ تمتد دون تردد".

ورغم أنها وقفت لساعات طويلة، تحت لهيب الشمس القاسية وسط تدافع النازحين، وعيونهم الممتلئة بالتعب إلا أنها لم تشعر بالإنهاك ووجدت في ابتسامة العائدين، في كلمات الشكر العفوية وقوداً يعزز عزيمتها، وتشيد بدور زميلاتها اللواتي لم تتوانين عن تقديم يد العون رغم شح الموارد، متكاتفات كخلية نحل، يرون في خدمة مجتمعهن شرفاً ومسؤولية لا يمكن التخلي عنها. 

 

دور الفتيات في الميدان

 

 

أما الناشطة المجتمعية آية شمالي، التي كانت إحدى الأيادي العاملة في المبادرات الإغاثية منذ اللحظة الأولى لإعلان العودة وصفت التجربة بأنها "مزيج من الألم والفرح من الحزن العميق على ما أصاب أهلنا، ومن الرجاء بأن المستقبل سيكون أقل قسوة" تتحدث باندفاع العارف بحجم المسؤولية، وتقول إن دورها لم يقتصر على تقديم المساعدة الميدانية فقط، بل سعت إلى وضع مقترحات وخطط تسهل على العائدين رحلة العودة إلى بيوتهم، ومن بينها توفير مواصلات عامة تنقلهم من الحاجز إلى مناطقهم بعد أن تقطعت بهم السبل وأرهقتهم المسافات الطويلة. 

وأشارت إلى أن "الرحلة إلى الشمال لم تكن مجرد طريق تُقطع أيضاً اختبار لقدرة الإنسان على التحمل، رأيت رجالاً يترنحون من التعب، وأمهات تجررن أطفالهن بأقدام متقرحة لكن رغم ذلك، كانت قلوبهم تهتف بالفرح، فقد عادوا أخيراً، عادوا إلى بيوتهم وإن كانت ركاماً".

لم تتوقف جهود آية شمالي عند تقديم المساعدات المادية، بل ساعدت وشجعت على إنشاء نقاط طبية للدعم النفسي، حيث استقبلت النساء والأطفال الذين عانوا من صدمات النزوح والخوف، وأطلقت مع فريقها مبادرات ترفيهية على الطرقات؛ لنثر البهجة في قلوب أنهكتها الحرب وعن ذلك تقول "كنت أرى الأطفال يركضون نحو البالونات التي وزعناها، وكأنهم وجدوا فجأة نافذة للفرح بعد عام ونصف من العتمة، كنا نحاول ولو بأبسط الإمكانيات أن نمنحهم لحظة ينسون فيها الجوع والخوف، ويشعرون بأن هناك من يحتضنهم وسط هذه الفوضى".

 

العودة ودموع مختلطة بالمفاجأة

وبينما كانت آية شمالي تقدم خدماتها للنازحين، كانت تعيش لحظة شخصية مؤثرة، إذ كانت تترقب عودة أشقائها وأفراد عائلتها بعد غياب طال عاماً كاملاً، وتصف اللحظة وهي تسترجع تفاصيلها بصوت مرتجف "كنت أقف بين الجموع، أوزع المياه والخبز لكن عيني كانت تبحث في الوجوه، قلبي كان يخفق بشدة، ولم أصدق عندما لمحت أخي بين العائدين، ركضت نحوه وكنت أشعر أنني أركض نحو زمن انتُزع منا وعاد أخيراً، بكيت كما لم أبكِ من قبل، فهذه اللحظة كانت أقرب إلى المعجزة".

وبينما تغمرها مشاعر الفرح والرهبة، استمرت في أداء دورها غير قادرة على التوقف، فقد كان هناك آلاف العائدين الذين ينتظرون يداً تمتد لهم، وقلباً يسمع معاناتهم، لم تكن مجرد متطوعة في لحظة اللقاء، أيضاً كانت ابنة لهذا الوطن الذي يُعيد بناء نفسه وسط الرماد، وكانت جزءاً من قصة صمود تُكتب بأيدي النساء والفتيات اللواتي أثبتن أنهن لسن مجرد متفرجات على الألم، بل صانعات للحياة رغم القهر. 

 

الفتيات قلب النضال الإنساني في غزة

ما قدمته سالي أبو شعبان وآية شمالي، ومئات الفتيات المتطوعات، لم يكن مجرد عمل خيري بل كان صرخة في وجه القهر، وإعلاناً صريحاً بأن النساء هن عماد المجتمعات، وقادرات على حمل أعباء شعب بأكمله، لم يكن دورهن هامشياً أو مجرد لفتة عابرة، بل كان عملاً إنسانياً متكاملًا ينبض بالقوة والإصرار، ويثبت أن الفتاة الفلسطينية هي شاهد على المأساة، وركن أساسي في مواجهتها. 

تقول آية شمالي "نحن الفتيات لسنا على هامش المشهد، وصلبه نقود المبادرات، نحمل على أكتافنا هموم مجتمعنا، ونرسم ملامح الأمل وسط الدمار، لسنا مجرد متطوعات، نحن السند الحقيقي لهذا الشعب المكلوم".

بهذه الكلمات تختتم حديثها، بينما تقف وسط العائدين تواصل تقديم العون وتبتسم للأطفال وتمسح دموع الأمهات، وتؤكد أن دورها ودور زميلاتها لن ينتهي، فالمعركة لم تكن فقط معركة بقاء، بل معركة إنسانية تفرض نفسها في كل لحظة، لتعيد للناس بعضاً مما فقدوه في طريق النزوح الطويل.