بين جيل الثمانينات وجيل Z في المغرب... تأملات شخصية حول الحراك والسلمية

مقال بقلم الصحفية المغربية حنان حارت
عندما أنظر إلى صور الشابات والشبان الذين خرجوا إلى شوارع الرباط والدار البيضاء وطنجة وتطوان وغيرها من المدن المغربية هذا الأسبوع تحت اسم "جيل Z 212" أستعيد شيئا من ذاكرتي كصحفية تنتمي إلى جيل الثمانينات. كنا نحن أيضا نحمل هم التعليم والعمل والكرامة، لكن أدواتنا للتعبير كانت محدودة، وفضاءات النقاش أضيق بكثير مما نراه اليوم.
كانت المسيرات تقودها النقابات أو الأحزاب، والبيانات تكتب على أوراق، أما اليوم، فبضغطة زر على إنستغرام أو تليغرام، أو على منصات مثل Discord، يستطيع جيل كامل أن يحدد موعد الوقفات، يرسم خرائط التظاهر، وينسق الشعارات في دقائق معدودة.
هذا التحول الرقمي ليس مجرد وسيلة، بل هو روح الحراك نفسه؛ جيل Z لم ينتظر بيانات الأحزاب ولا تأطير النقابات، بل صنع لنفسه فضاء للتعبئة والنقاش. بالنسبة لنا، أبناء الثمانينات، تبدو هذه السرعة والجرأة مختلفة، لكنها في الجوهر تعكس نفس التطلعات التي حملناها: العدالة الاجتماعية، تكافؤ الفرص، وحق الجميع في تعليم وصحة جيدين.
ما شد انتباهي هذه الأيام لم يكن فقط الشعارات التي رفعت من قبيل "الشعب يريد إسقاط الفساد" أو "الصحة والتعليم للجميع"، بل أيضاً المشاهد الإنسانية الصغيرة التي تلخص عمق هذه اللحظة. أب يقتاد إلى سيارة الشرطة وهو يحمل رضيعة بين ذراعيه. شباب يبتسمون داخل عربة الأمن ويلتقطون صورة جماعية كما لو كانت ذكرى جميلة. وطفل صغير رفض أمر الشرطي بالانصراف، وأجاب بحزم طفولي "لن أذهب". لحظات تختصر كل شيء: الأجيال التي تتوارث المعارك، والإصرار على البقاء في الشارع رغم الخوف.
في مشهد آخر، ظهرت امرأة مغربية وهي تحاول التدخل بشجاعة عندما شاهدت أحد الشباب يعتقل من قبل الأمن. قالت بصوت ثابت "لماذا يتم اعتقاله وهو يدافع عني كمواطنة؟"، لتجسد بذلك روح المواطنة والمسؤولية المدنية لدى بعض النساء، ورغبتها في حماية حقوق الآخرين والتأكيد على حق الجميع في التعبير عن مطالبهم المشروعة. هذا الموقف يعكس بوضوح أن الاحتجاجات ليست مجرد تحرك شبابي، بل فضاء تتقاطع فيه الطاقات المدنية المختلفة، مع حضور نسائي بارز يرفض الصمت أمام أي تجاوز للحقوق والحريات.
ورغم تأكيد المنظمين على سلمية الوقفات، قوبل الحراك باعتقالات واسعة، من بينها اعتقال شابات ناشطات في المجتمع المدني. كصحفية، لا يمكنني أن أغفل هذا البعد النسائي: النساء الشابات في القرى والأحياء الهامشية هن الأكثر تضرراً من ضعف الخدمات العمومية، وهن أيضاً في مقدمة الصفوف عندما يتعلق الأمر بالمطالبة بالكرامة والعدالة، فالهشاشة مضاعفة بالنسبة لهن، غياب مستوصفات قريبة، صعوبة متابعة الدراسة بعد الإعدادي، وانسداد أبواب سوق العمل. لذلك، ليس مفاجئا أن نرى الحضور النسائي واضحاً في احتجاجات "جيل Z 212" .
لكن ما يؤسفني أن الاحتجاجات، التي بدأت في أجواء سلمية، سرعان ما أحاط بها التوتر، وهو ما فتح الباب أمام بعض الشباب للانزلاق نحو التخريب والاعتداء على الممتلكات. بالنسبة لي، بدت هذه المشاهد غريبة عن الجوهر الحقيقي للمطالب، بل ومؤلمة لأنها تضعف الرسالة وتشوه صورة الحراك أمام الرأي العام. فالوطن الذي نطمح إليه جميعاً لا يمكن أن يبنى على الفوضى، بل على التعبير السلمي المسؤول الذي يحافظ على قوة الرسالة ويصون عدالتها.
جيل Z لا يطلب المستحيل. مطالبه بسيطة في ظاهرها، عميقة في جوهرها، مدرسة عمومية عادلة، مستشفى يفتح أبوابه للجميع، وفرصة عمل تحفظ الكرامة. ما يواجهه هؤلاء الشباب هو إحباط مزمن من وعود الإصلاح التي تتكرر منذ سنوات دون أثر ملموس في حياتهم اليومية. لذلك، فإن التحدي أمام الحكومة اليوم ليس فقط في كيفية الاستجابة لهذه المطالب، بل في فهم رسالة هذا الجيل الذي يصر على التعبير عن نفسه، حتى ولو كانت كلفة ذلك الاعتقال أو الملاحقة.
من موقعي كأبنة لجيل الثمانينات، أرى أن الحوار بين الأجيال صار ضرورياً أكثر من أي وقت مضى، فجيلنا عاش انتقالاً سياسياً واجتماعياً طويلاً، واعتبر أن التغيير يحتاج إلى صبر ونفس طويل. أما جيل Z فيريد انتقالاً أسرع وأكثر وضوحاً، ولا يرى معنى في الانتظار لسنوات أخرى. وإذا لم نفتح قنوات حقيقية للاستماع لهم، فإن الهوة قد تتسع، ومعها يتضاعف الشعور بالتهميش.
ستة أيام من الحراك كانت كافية لتظهر ملامح هذا التحول، احتجاجات تبدأ من فضاء رقمي وتنتقل بسرعة إلى الشارع، مشاركة واسعة للشباب والشابات، حضور نسوي لافت، ثم لحظات من التوتر أفضت إلى المنع والاعتقال وأعمال تخريبية هامشية؛ هي صورة تختصر التوتر القائم بين جيل يريد التعبير الحر عن مطالبه المشروعة، وسلطات ما تزال ترى في التظاهر تهديداً محتملاً لـ"النظام العام".
جيل Z يكتب فصلاً جديداً من تاريخ الاحتجاجات في المغرب، بلغة رقمية، بصوت نسائي حاضر، وبإصرار على أن يكون المستقبل أكثر عدلاً، علينا نحن، الجيل الذي سبقهم، أن نصغي بعقل وقلب مفتوحين، لأن معركتهم في النهاية ليست سوى امتداد لمعركتنا.
كصحفية وامرأة، أود أن أوجه رسالة مباشرة للشباب من جيل Z أنتم لستم وحدكم. صوتكم مسموع، وشجاعتكم في الفضاء الرقمي وفي الوقفات السلمية تفتح الطريق لتغيير أعمق، وتذكروا دائماً أن لا مكان للعنف أو التحريض، لأن الوطن وطنناً جميعاً، ولا يمكن أن نصونه إلا بروح السلمية والإصرار المسؤول على التغيير.