بين الروايات الشعبية والحقائق الغائبة... قصة كهف "أم السرج"
يُعد كهف "أم السرج" في إقليم شمال شرق سوريا موقعاً طبيعياً وتاريخياً فريداً، يمتد إلى عمق 50 متراً ويحتوي على عين ماء مجهولة المصدر، ويتميز بتضاريسه الصعبة وغموضه الجيولوجي، ولم يُجرَ فيه أي بحث علمي رسمي.

سوركل شيخو
تل تمر ـ يضم إقليم شمال وشرق سوريا آلاف الجبال والتلال والكهوف والينابيع الشهيرة، التي كانت شاهدة على الثورة النيوليتية وعلى ثقافة العلماء.
تحمل جبال وكهوف وتلال إقليم شمال وشرق سوريا إرثاً غنياً من تاريخ السكان المحليين، وعاداتهم، وثقافاتهم العريقة، التي تأبى أن تُمحى في غياهب الزمن، فهذه المعالم الطبيعية لم تكن مأوى للإنسان المعاصر فحسب، بل سكنها البشر منذ العصور القديمة، ولا يزال الغموض يكتنف الحقبة الزمنية التي بدأت فيها الحياة هناك.
"أم السرج" الكهف الذي لم يُكتشف بعد
يقع كهف "أم السرج" على بُعد نحو 40 كيلومتراً جنوب غرب جبل كزوان، ويمتد عمقه إلى حوالي 50 متراً تحت سطح الأرض، ويضطر الزوار أو الراغبون في استكشافه إلى الدخول عبر فتحة ضيقة، ما يجعل الوصول إلى داخله تحدياً يتطلب الحذر والجرأة.
نظراً للظلام الدامس داخل الكهف، فإن الطريق المؤدي إليه غير ممهد ويُعد بالغ الصعوبة، مما يستوجب اتخاذ إجراءات احترازية لتفادي الحوادث مثل السقوط أو الانزلاق، لذلك يُضطر الزوار إلى استخدام مصدر إضاءة والدخول بحذر شديد وتأنٍ.
ينتهي كهف "أم السرج" بمصدر ماء نقي صالح للشرب رغم احتوائه على مادة كلسية، وحتى الآن لا يُعرف بدقة مصدر هذا الماء أو وجهته، كما لم تُجرَ أي دراسات علمية تؤكد هذه المعلومات، نظراً لغياب الأبحاث التاريخية حول الكهف حتى اليوم.
وتعيش في الكهف طيور فقط، دون وجود للأفاعي أو أنواع أخرى من الزواحف، مما جعله وجهة آمنة ومحببة لبعض العائلات، كما أصبح محطة جذب لعشاق الطبيعة ومكاناً للاستراحة يستخدمه الرعاة خلال تنقلاتهم.
وفقاً لأحد شهود العيان، وصلت في عام 2011 سيارة تحمل عبارة "ريف دمشق" وقامت بتفجير كهف "أم السرج"، وحتى اليوم لا تزال هوية الفاعلين وما تم إخراجه من الكهف مجهولين، موضحاً أنه توجه إلى الموقع بعد الانفجار، ليعثر على عظام جثة تتميز بساق وساعد طويلين وسميكين، مع وجود أسنان في الفك السفلي، بينما لم يُعثر على الرقبة، وقد أعاد الشاهد دفن تلك العظام، معتبراً أنها تعود لإنسان قديم عاش على هذه الأرض.
وتعرّض كهف "أم السرج" لعمليات تدمير متكررة نتيجة لتغيرات المناخ، والهزات الأرضية، وعمليات نهب الآثار، وقد أُهمل تماماً خلال فترة حكم النظام السوري السابق، ولم يحظَ بأي اهتمام حتى بعد تلك الفترة، إذ لم تزره أي بعثة بحثية أو تُجرَ فيه أعمال تنقيب، ويُعزى ذلك إلى تعذر دخول الفرق المتخصصة إلى المنطقة بسبب الحرب الدائرة في سوريا، وهو واقع لا يزال مستمراً حتى اليوم.
"أم السرج تاريخ غير مكتشف وآثار مهددة"
تحدثت عليا العيسى عن تجربتها داخل كهف "أم السرج"، حيث خاضتها برفقة زوجها وابنها البالغ من العمر تسع سنوات، موضحةً أنهم يواصلون النزول لمسافة تصل إلى 50 متراً تحت سطح الأرض، حتى يصلوا إلى قاعه الذي يحتوي على عين ماء طبيعية.
"أثناء النزول داخل الكهف نصادف صخوراً تتدفق منها المياه، مما يجعل الأرض زلقة، وقد يتعرض الأشخاص غير المنتبهين للانزلاق على هذه الصخور أثناء التقدم في المسير"، بحسب كلامها.
وأشارت عليا العيسى التي لاحظت وجود صخور سوداء، إلى أنها تبدو كصخور بركانية "يُحتمل أن تكون هذه الصخور السوداء ناتجة عن نشاط بركاني قديم، فهناك العديد من الجدران والتكوينات التي تدل على ذلك".
وأضافت "من المعروف أن الجبال عادةً ما تكون فوق سطح الأرض، لكن ما نراه هنا داخل هذا الكهف يوحي بوجود جبل آخر مخفي في أعماق الأرض"، مؤكدةً أنه بعد وصولها إلى عين الماء لا يزال مصدرها مجهولاً وغير ظاهر للعيان، فيما يتدفق الماء منها نحو الخارج، تأتي المياه من جهة الجنوب وتتجه شمالاً، ويبدو أن طريقة تشكّل العين تشبه تكوّن الجداول الجوفية الطبيعية.
وبحسب رواية شعبية متوارثة حتى يومنا هذا، يُقال إن راعياً قديماً أخفى قطعاً من الذهب داخل جرّة، أنزلها في عين ماء تقع داخل أحد الكهوف، وبعد مرور الزمن تم العثور على تلك الجرّة من قبل رجل قرب ينابيع مدينة رأس العين/سري كانيه المحتلة، ومن هنا يعتقد السكان المحليون أن هذه العين مرتبطة جغرافياً بينابيع سري كانيه.
"كهف أم السرج ليس مجرد مغارة"
أما عن تاريخ تشكّل الكهف، قالت عليا العيسى إنه حتى الآن لم تُجرَ أي بعثة علمية لاستكشافه، مؤكدةً أن الكهف شديد القدم، يعود إلى زمن الأجداد، وقد طرأت عليه تغيرات بفعل التغيرات المناخية، ما أدى إلى انخفاض كمية المياه فيه بشكل ملحوظ "لو كانت هناك سفن تحت الأرض توقفت في عمق العين، لكان بالإمكان تحديد مصدرها بدقة ومعرفة إلى أي مدى تقع تحت سطح الأرض".
وبحسب كلامها فإن موقع الكهف المنعزل يمنحه طابعاً فريداً، ما يجعله وجهة سياحية محتملة خلال فصل الصيف، ونظراً لعدم وجود سكان حوله ولبعده عن القرى، فإن الزراعة في محيطه غير ممكنة، ومع ذلك يمكن الاستفادة من مياه العين الموجودة فيه كمورد طبيعي يُستخدم لأغراض الزراعة.
وأكدت أن مسؤولية حماية المواقع الأثرية ومراقبتها تقع على عاتق هيئة الآثار "نهاية هذا الكهف والعين الموجودة فيه لا تزال مجهولة"، ولهذا السبب ترى أنه من الضروري الحفاظ على هذا الموقع الطبيعي حتى يتمكن المختصون من استكشافه وكشف أسراره، لذلك من الضروري تنظيم محيط الكهف وتحديد مسار واضح وآمن للزوار، مع منع إلقاء النفايات داخله للحفاظ على بيئته الطبيعية، يمكن أن يتحول هذا الموقع إلى وجهة سياحية عامة، خاصة أنه يضم العديد من المعالم التاريخية التي لم تُكتشف بعد.
وبيّنت أن هذا الكهف بحاجة إلى دراسة علمية من قبل المختصين، نظراً لتكوينه المعقد الذي تأثر بعوامل متعددة مثل التغيرات المناخية، وانزلاقات الصخور، والتحولات الجيولوجية، حيث أن الكهف يمتد إلى نقطة يصبح فيها تدفق المياه واضحاً، لكن مع انخفاض منسوب المياه، تبدأ الفراغات بالظهور وتصبح الصخور عرضة للانزلاق.
يُعد كهف "أم السرج" من المواقع الغامضة التي لم يُكشف تاريخها بعد، ولا تزال هويته الحقيقية طي الكتمان بين سكان المنطقة، وحتى الآن، لم تُجرَ أي دراسة أثرية رسمية من قبل الجهات المختصة، ما أدى إلى إهمال هذا الموقع وتراجع الاهتمام به، هذا الفراغ في المتابعة فتح المجال أمام عمليات تنقيب غير قانونية نفذها مهربو الآثار، مما يشكل تهديداً لتراث المنطقة وأسرارها المدفونة.