إقليم شمال وشرق سوريا بين عبء المخيمات وإرث داعش ـ 2

بعد هزيمة داعش عسكرياً، تحولت المخيمات والسجون في إقليم شمال وشرق سوريا إلى بؤرة أزمة جديدة؛ حيث أدّى الفراغ القانوني، وامتناع الدول عن تحمّل المسؤولية، وتسييس ملف الأمن، إلى انسداد مسار العدالة الدولية، فيما تتحمل الإدارة الذاتية وحدها تكلفة ذلك.

شيلان سقزي

مركز الأخبار ـ رغم هزيمة داعش عسكرياً لم تنتهِ الأزمة في إقليم شمال وشرق سوريا، بل انتقلت إلى مرحلة أكثر تعقيداً داخل المخيمات والسجون التي تحتجز عناصر داعش وعائلاتهم، فقد تحولت هذه البنى، وعلى رأسها مخيم الهول ومخيم روج، إلى بؤر قانونية وإنسانية وسياسية تكشف عن عجز المجتمع الدولي في التعامل مع إرث داعش.

الجزء الأول من التقرير يوضح كيف أن إقليم شمال وشرق سوريا، رغم دورها المحوري في هزيمة داعش عسكرياً، لم تحظَ بالاعتراف والدعم، بل جرى تهميشها وتحميلها وحدها أعباء المسؤوليات العالمية، ومع استمرار هذا الواقع، برزت الأزمة الحقيقية ليس في ساحات القتال، وإنما في مرحلة ما بعد الحرب، داخل المخيمات والسجون التي تحولت إلى بؤر للتناقضات القانونية والأمنية والإنسانية.

في الجزء الثاني من التقرير، يتعمق في تحليل الأزمة البنيوية لمخيمات وسجون عناصر وعوائل داعش، حيث أدى فشل العدالة الدولية إلى أن يكون هناك مصدراً جديداً لعدم الاستقرار وانعدام الأمن في المنطقة والعالم.

 

مخيمات الهول وروج بؤر الأزمة القانونية والإنسانية في الشرق الأوسط

تحولت المخيمات والسجون التي تشرف عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا، وعلى رأسها مخيم الهول ومخيم روج، إلى جانب السجون، لأماكن رئيسية لاحتجاز عناصر داعش وعائلاتهم، غير أن التعمق في دراسة هذه البُنى يكشف عن مجموعة من التناقضات القانونية والإنسانية والسياسية، جعلتها جزءاً من الأزمة المستمرة في الشرق الأوسط.

حيث يُعد مخيم الهول الأكبر في المنطقة، إذ ارتفع عدد قاطنيه مطلع عام 2019 بعد سقوط آخر معاقل داعش من نحو 10 آلاف إلى أكثر من 60 ألف شخص، ووفق تقارير منظمة العفو الدولية لعام 2025، ما يزال حوالي 46,500 فرد من السوريين والعراقيين وجنسيات أخرى محتجزين في المخيمات ومراكز الاعتقال، وتشكل النساء والأطفال أكثر من 90% من هذا العدد. أما مخيم روج فيقطنه عائلات عناصر داعش، فيما تدير قوات سوريا الديمقراطية شبكة تضم 27 سجناً ومركز احتجاز فيها قرابة 50 ألفاً من عناصر داعش.

بحسب تقرير هيومن رايتس ووتش لعام 2025، المخيمات والسجون تحت إشراف "قسد" والإدارة الذاتية، إلا أن قدرتها التنفيذية تواجه تحديات كبيرة نتيجة ضعف الأمن ونقص الكوادر والموارد، كما أن محدودية التعاون مع قوات التحالف الدولي ووقف بعض الدول دعمها المالي للمنظمات غير الحكومية والمؤسسات الإنسانية انعكس بشكل مباشر على أوضاع هذه المخيمات.

وفي المقابل، ظل الإطار الدولي والمتعدد الأطراف الخاص بإعادة المعتقلين أو محاكمتهم عاجزاً عن أداء دوره، ما أدى إلى بقاء عدد كبير من عناصر داعش الأوروبيين رهن الاعتقال إلى أجل غير مسمى، من دون محاكمة أو أي أفق قانوني واضح.

 

 

مأزق القانون الدولي في مواجهة إرث داعش

استناداً إلى القواعد الدولية في مجالات حقوق الإنسان واللجوء والقانون الإنساني، تُعد مسؤولية إعادة عناصر داعش ومحاكمتهم وحماية الناجين من أبرز الالتزامات القانونية الواضحة، غير أن الواقع السياسي والأمني جعل هذه الآليات في معظم الأحيان عاجزة عن تحقيق أهدافها.

ووفقاً لمبادئ اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) والاتفاقيات الإنسانية الدولية، ولا سيما المواد المشتركة والبروتوكولات الإضافية، فإن الأشخاص الذين لا يشاركون في النزاع أو توقفوا عن المشاركة يتمتعون بحق الحماية، ويشمل ذلك الأسرى السابقين والعائلات والنساء والأطفال، الذين يجب أن يُحتجزوا في ظروف آمنة تضمن احترام هويتهم وحقهم في الحياة.

وتتضمن هذه الحماية جملة من الحقوق الأساسية، مثل المعاملة الإنسانية، حظر التعذيب، الحق في التواصل مع الأسرة، الحصول على الغذاء والرعاية الصحية والعلاج، وضمان العودة الآمنة.

رغم أن بعض الدول قد تعيد الجنسية لمواطنيها المرتبطين بداعش، إلا أن كثيراً منها إما يرفض استعادة حق المواطنة، أو يفتقر إلى البنية القانونية والمدنية اللازمة لاستقبالهم، ونتيجة لذلك، يُحرم الأطفال والنساء العائدون من أبسط الحقوق الأساسية مثل الهوية الرسمية، التسجيل المدني، والتعليم، مما يضع آلاف الأشخاص في حالة "تعليق" تُفرغ حقوقهم الجوهرية وحقهم في المواطنة من مضمونها.

وعلى الصعيد القانوني، تؤكد الاتفاقيات الدولية، بما فيها اتفاقيات جنيف، اتفاقية اللاجئين لعام 1951، اتفاقية حقوق الطفل، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، على ضمان حقوق المدنيين والنساء والأطفال، بما في ذلك الحق في المحاكمة والعودة الآمنة، ومع ذلك، اختارت العديد من الدول والجهات الدولية، تحت شعار مكافحة الإرهاب الذي يسوق له على أنه "الأمن" تجاهل هذه الالتزامات، فاليوم، تمتنع دول عدة عن إعادة مواطنيها المنتمين إلى داعش بذريعة الأمن القومي أو مكافحة الإرهاب، ما يؤدي إلى تعطيل تنفيذ القوانين الدولية، هذا الواقع يعكس بوضوح تغليب "الأمن" على "الحقوق"، في اللحظة التي يكون فيها القانون الدولي أحوج ما يكون إلى التطبيق الفعّال.

كما أن العديد من الدول تمتنع ليس فقط عن إعادة مواطنيها المرتبطين بداعش، بل تلجأ أيضاً إلى إسقاط جنسيتهم عمداً، ما يترك الأطفال بلا أوراق ثبوتية ويجعلهم عالقين في أوضاع قانونية معقدة، ويؤكد خبراء القانون الدولي أن هؤلاء الأطفال يتمتعون، وفقاً لاتفاقيات اللاجئين واتفاقية حقوق الطفل، بحق الحماية واللجوء، غير أن غياب الإرادة السياسية واعتبارهم "مخاطر أمنية" أبقى الكثير منهم في المخيمات، وهو ما يشكل انتهاكاً واضحاً لمبادئ حقوق الإنسان وأسس اللجوء.

وعند عودة عائلات عناصر داعش، بما في ذلك النساء والأطفال، تحرم غالبية الدول هؤلاء من حق العودة والمحاكمة العادلة استناداً إلى "الارتباط العائلي"، وهو نهج يتعارض مع مبدأ حظر العقاب الجماعي في القانون الدولي، وبهذا، يُحتجز أشخاص لم يرتكبوا أي جرم لمجرد صلة القرابة، فيما يُترك العديد من المعتقلين، خصوصاً النساء والأطفال، رهن الاحتجاز من دون محاكمة أو إجراءات قضائية أو حق في الدفاع، هذه الممارسات تمثل انتهاكاً صارخاً لمبدأ المحاكمة العادلة، وحظر التعذيب، والمعاملة الإنسانية، وحقوق الإنسان الأساسية.

ومن الواضح أن السياسات الدولية لمكافحة الإرهاب كثيراً ما تُهمِّش المبادئ القانونية، وتجعل من "الأمن" أولوية تتفوق على الحقوق، وإن غياب محكمة دولية موحدة أو نظام ملزم لإعادة ومحاكمة الأفراد، خصوصاً حين تُسلب أو تُعلّق جنسياتهم، أدى عملياً إلى تعطيل الحقوق الصريحة التي يكفلها القانون الدولي.

هذا الواقع لا يقتصر على كونه تحدياً أمنياً، بل يكشف عن فجوة عميقة بين القانون والقوة، حيث تستطيع الدول تعليق الحقوق الأساسية بذريعة "الأمن"، فيتحول القانون الدولي إلى مجرد نص بلا فاعلية، واليوم، يواجه آلاف الأشخاص، نساءً ورجالاً وأطفالاً وحتى مواليد جدد، مصيراً معلقاً داخل المخيمات، بلا جنسية، بلا محاكمة، وبلا أمل في العودة أو إعادة التأهيل، فيما المؤسسات الدولية التي ترفع شعار العدالة تخلّت عن مسؤولياتها، وألقت عبء ما بعد داعش على كاهل نظام محلي ناشئ.

فهل يُستخدم "الأمن" إلا كأداة لحماية بنية السلطة وتكريس القمع؟ كثير من الخبراء القانونيين يؤكدون أن أطفال المنتمين إلى داعش يجب أن يُعاملوا كضحايا حرب، لا كجناة.

ووفقاً لاتفاقية اللاجئين لعام 1951 وبروتوكولها لعام 1967، إضافة إلى المواثيق الحقوقية الأخرى، تتحمل الدول مسؤولية الاعتراف بمواطنيها، محاكمتهم عند الحاجة، أو توفير ظروف عودتهم الآمنة، كما أن مبدأ "عدم الإعادة القسرية" يلزم الدول بالامتناع عن إعادة أي فرد إلى بلد قد يتعرض فيه لخطر جسيم.

ومع ذلك، فإن غياب آلية تنفيذية دولية مستقلة، سواء عبر محكمة دولية موحدة أو نظام ملزم لإعادة ومحاكمة الأفراد، خصوصاً في الحالات التي تُسلب فيها الجنسية أو تُعلّق، جعل الحقوق الصريحة التي ينص عليها القانون الدولي عملياً بلا أثر، هذا الواقع لا يمثل مجرد "تحدٍ أمني"، بل يكشف عن فجوة عميقة بين القانون والقوة، حيث تستطيع الدول تعليق الحقوق الأساسية بذريعة "الأمن"، فيتحول القانون الدولي إلى مجرد نصوص بلا فاعلية.

 

من أزمة إنسانية إلى قنبلة أمنية موقوتة

فيما يتعلق بعودة عوائل عناصر داعش من مخيمات إقليم شمال وشرق سوريا، تتنصل الدول الأوروبية والعربية بشكل منهجي من مسؤولياتها القانونية والإنسانية، هذا الامتناع لا يرتبط بغياب إطار قانوني، بل يقوم على حسابات سياسية وإعلامية وأمنية تتشكل في سياق البنى الوطنية والمنطق الانتخابي، فما يعد التزاماً في مجال حقوق الإنسان يُنظر إليه عملياً كخطر سياسي.

وفي كثير من الدول الأوروبية والعربية، يعتبر إعادة المواطنين المرتبطين بداعش تهديداً انتخابياً مباشراً، إذ يستغل التيار اليميني والقوميون المخاوف من الإرهاب لتصوير أي محاولة للإعادة على أنها "خيانة وطنية"، ونتيجة لهذا المناخ المشحون، تؤجل الحكومات عمليات العودة أو تلجأ إلى إسقاط الجنسية، خشية خسارة الأصوات في صناديق الاقتراع.

على سبيل المثال أستراليا، تأخرت ملفات إعادة أربعين طفلاً وامرأة لسنوات بسبب خشية الحكومة من "رد فعل الرأي العام"، حتى أنه في عام 2023 لم يسمح سوى لأربع عائلات بالعودة، بينما بقي الآخرون في المخيمات.

لقد أصبح خطاب "الإعادة مقابل إحياء الخطر" أداة سياسية فعّالة، إذ ساهمت وسائل الإعلام وحملات اليمين المتطرف وبعض السياسيين في ترسيخ صورة مفادها أن كل عائد، حتى الطفل، يمثل "قنبلة موقوتة"، هذا التصور يفتقر إلى الأساس القانوني والعلمي، إذ أثبتت التجارب في الدول الإسكندنافية أن برامج إعادة التأهيل قادرة على تقليص المخاطر.

أما الدول العربية مثل العراق والأردن وتونس والمغرب، فترفض استقبال العائلات لأسباب متعددة، منها الخوف من الانتقام الداخلي أو العجز القانوني عن المحاكمة وإعادة التأهيل، وفي بعض الحالات، يواجه العائدون بعد رجوعهم السجن لفترات طويلة من دون محاكمة أو التعرض للتعذيب، وعلى الرغم من أن العراق يضم أحد أكبر أعداد مواطنيه في مخيم الهول، فإنه لم يوفّر حتى الآن أي مسار قانوني آمن لعودة هذه العائلات.

هذه السياسات لا تنبع من مخاوف قانونية حقيقية، بل تعكس ما يمكن وصفه بـ "الأمننة الفوقية"، فمن خلال إعادة إنتاج صورة "المواطن الخطير" في الخطاب العام، تمنح الحكومات نفسها القدرة على تعزيز السيطرة، سنّ قوانين أكثر تشدداً، وتقوية الأجهزة الأمنية، بينما تقوم وسائل الإعلام عبر التغطيات المبالغ فيها بإضفاء الشرعية على هذه الدورة، وكما أشار أحد المحللين الأوروبيين في تقرير صادر عن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR) "الخوف من العودة هو في جوهره نتاج السياسة الداخلية أكثر منه تهديد خارجي".

ومخيمات الهول وروج والسجون لم تعد مجرد أماكن احتجاز، بل تتحول تدريجياً إلى قنابل موقوتة تهدد أمن ليس فقط لإقليم شمال وشرق سوريا، بل للمنطقة والعالم بأسره، فالمخاطر المتراكمة داخل هذه المخيمات تكشف أن استمرار الوضع المعلّق وغياب الحلول القانونية سيؤدي حتماً إلى إعادة إنتاج العنف.

يظل خطر الهروب والتمرد والمحاولات المنظمة لتحرير المعتقلين قائماً، حيث أكد قادة من قوات سوريا الديمقراطية مراراً تزايد محاولات داعش لاستهداف سجون الحسكة والهول، وقد أظهر الهجوم الكبير على سجن غويران في كانون الأول/يناير 2022 أن أي ثغرة أمنية بسيطة قد تتيح تحرير آلاف السجناء، كما أن وجود خلايا نائمة وتحويل الأموال من الخارج إلى داخل المخيمات يزيد الوضع خطورة وتعقيداً.

وتشير تقارير اليونيسف وهيومن رايتس ووتش لعام 2025 إلى وجود أكثر من ستة آلاف طفل أجنبي في مخيمات بإقليم شمال وشرق سوريا، محرومين من الجنسية، ومن التعليم المنظم، ومن أي فرصة للعودة، وفي هذه المخيمات، سُجلت أطفال تتراوح أعمارهم بين 12 و16 عاماً، ينشؤون في بيئة يسودها العنف وانعدام الأفق، يكبرون بلا وطن، بلا عدالة، ومعرّض للتحول إلى جيل يميل للعنف.

هذا الواقع لا يمثل فقط انتهاكاً صارخاً لحقوق الطفل، بل يكرّس أيضاً نشوء نوى اجتماعية دائمة من اليأس والعنف، بما يهدد مستقبل المنطقة ويضاعف المخاطر الإنسانية والأمنية.

 

 

بين السرديات الإعلامية وتشويه التجربة الديمقراطية

في ساحة معركة تُدار بالكلمات والعناوين بدلاً من الرصاص، يواجه إقليم شمال وشرق سوريا واحدة من أعقد الحملات الإعلامية والخطابية على المستويين الإقليمي والدولي، فالتجربة القائمة على الحكم الشعبي، والمشاركة المجتمعية، ودور النساء، خارج إطار الدول المركزية، تُعد تهديداً جوهرياً لكثير من القوى الرسمية، ليس من الناحية العسكرية، بل باعتبارها بديلاً سياسياً.

وسائل إعلام المستقلة إلى جانب طيف واسع من الإعلام الحكومي العربي والإيراني، لا تعرض المنطقة كمشروع ديمقراطي ذاتي الإدارة، بل تصوّرها كـ "شبه دولة إرهابية" أو "كيان قمعي"، وتتمحور السرديات حول التركيز على مخيم الهول و"سوء معاملة نساء وأطفال عناصر داعش، اتهام قوات سوريا الديمقراطية بـ "الانفصالية والتعاون مع إسرائيل"، تقديم إقليم شمال وشرق سوريا كعامل لتقسيم سوريا أو تهديد للعالم العربي والإسلام.

هذا التوظيف الإعلامي غير الأخلاقي يهدف إلى تشويه الصورة، ففي الوقت الذي تمتنع فيه الدول الأوروبية والعربية عن إعادة مواطنيها المنتمين إلى داعش، تُلقي وسائل إعلامها كامل المسؤولية عن أوضاع المخيمات على الإدارة الذاتية و"قسد" هذه "الانتقائية الأخلاقية" تظهر في عناوين عدد من وسائل الإعلام مثل "أطفال داعش في جحيم الكرد"، وهو لا يمحو فقط المسؤولية السياسية للدول، بل يضعف أيضاً الشرعية القانونية والأخلاقية للمنطقة.

واليوم، بات إقليم شمال وشرق سوريا يُقدَّم في الإعلام الإيراني والتركي والعربي كتهديد أمني رئيسي بدلاً من داعش. فآلة الدعاية التركية تستخدم مصطلحات مثل "التهديد الإرهابي على الحدود الجنوبية" لتبرير التدخل العسكري، بينما تُصوّرها وسائل الإعلام الإيرانية كذراع "لأمريكا وإسرائيل"، رغم أن هذه القوات كانت في الخطوط الأمامية للقضاء على داعش.

يمكن القول إن أحد أبرز محاور هذه السردية يتمثل في محاولة تهميش دور المرأة في ثورة روج آفا، فالمقاتلات في وحدات حماية المرأة، والإداريات في الحركات النسائية لا يُنظر إليهن بجدية في الإعلام الإقليمي ذي الطابع الإسلاموي، بل يُقدَّم حضورهن العسكري والسياسي على أنه مجرد "استخدام دعائي" أو "خداع إعلامي غربي" هذا الطرح لا يقتصر على كونه جنسانيّاً، بل هو أيضاً محاولة لإنكار الفعل السياسي للنساء بوصفهن فاعلاً تاريخياً.

وعليه، فإن جوهر السرديات التي تُبنى حول الأزمة وانعدام الأمن لا يتعلق فقط بمخيم الهول أو روج، بل يدور حول شرعية تجربة سياسية ناشئة، فالهجوم الإعلامي على إقليم شمال وشرق سوريا يشكّل جزءاً من مشروع إعادة إنتاج السلطة المركزية في المنطقة ومنع أي تحول سياسي قاعدي، هذه السردية لا تهدف إلى نقل المعلومات فحسب، بل تسعى إلى إسكات صوت يتحدث عن الحرية والمساواة والإدارة الذاتية.

 

تناقضات المحاكمات وغياب الشرعية الدولية

لا تزال مخيمات إقليم شمال وشرق سوريا تحتضن آلاف العوائل لعناصر داعش، وهو ما يضع المجتمع الدولي أمام تناقض عميق، فمن، وأين، وكيف يجب محاكمة هؤلاء؟ هذا السؤال يتجاوز البعد القانوني ليكشف عن مأزق سياسي، ويؤكد أن العدالة الدولية انهزمت أمام الحسابات الجيوسياسية.

لقد مثّلت محاكمة عناصر داعش في العراق أو في المناطق الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية خياراً سريعاً وأقل تكلفة بالنسبة لكثير من الدول، لكنه مليء بالتناقضات، فغياب معايير المحاكمة العادلة، مثل ضعف الوصول إلى محامٍ، وممارسة التعذيب، وانتزاع الاعترافات بالقوة، والمحاكمات الجماعية، وأحكام الإعدام في العراق، كلها تتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان التي ترفعها تلك الدول نفسها، وفي النهاية، فإن قبولها الضمني بهذه الأنظمة القضائية غير الرسمية أو الواقعة تحت الاحتلال يعني عملياً التخلي عن مواطنيها وإقصاءهم من دائرة العدالة.

ورغم أن المحكمة الجنائية الدولية (ICC) تملك صلاحية النظر في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، إلا أن عقبات بنيوية حالت دون ذلك، فسوريا والعراق ليستا عضوين في المحكمة، ولا يمكن إحالة القضايا إليها إلا عبر مجلس الأمن، وهو ما أُجهض مراراً باستخدام حق النقض من روسيا والصين، كما أن محدودية الموارد، وصعوبة بناء الملفات، وعدم القدرة على الوصول إلى المتهمين، تشكّل عوائق إضافية، خاصة مع رفض بعض الدول مثل بريطانيا وأستراليا الاعتراف باختصاص المحكمة.

أما المحاكم الخاصة الإقليمية فقد حققت نجاحات جزئية، كما أظهرت تجارب "المحكمة الخاصة بسيراليون" و"المحكمة الخاصة بلبنان" أن الآليات المختلطة المدعومة من الأمم المتحدة يمكن أن تسد الفراغات المحلية، وقد طُرحت فكرة إنشاء محكمة دولية خاصة لمحاكمة داعش، لكن غياب الإجماع السياسي بين الدول، وخوف الحكومات الأوروبية من عودة مواطنيها، وضعف الملاحقة القضائية، ورفض العراق قبول محكمة خارج سيطرته، كلها عوامل حالت دون تحقيق ذلك.

وفي المقابل، تبدو الآليات المختلطة، أي المحاكم المحلية ـ الدولية، خياراً عملياً لأنها تجمع بين الارتباط بمكان وقوع الجريمة والرقابة الدولية، غير أن المشكلة في سوريا تكمن في أن الإدارة الذاتية لا تحظى باعتراف المؤسسات الدولية، مما يجعل أي محكمة تُنشأ هناك تفتقر إلى الشرعية الدولية، وتصبح قراراتها غير قابلة للتنفيذ أو الاعتراف، كما يُحرم المتهمون والضحايا من الوصول المتكافئ إلى العدالة.

 

 

العدالة الدولية في مأزق

تجارب مثل غوانتانامو، البوسنة، رواندا، أو حتى المحاكمات التي أعقبت تنظيم القاعدة، أظهرت أن تحقيق محاكمة عادلة في قضايا الإرهاب أمر بالغ التعقيد. فخشية كشف المعلومات الأمنية تحدّ من الشفافية، والتشريعات الاستثنائية وقوانين مكافحة الإرهاب تتجاوز الكثير من مبادئ العدالة، كما تتداخل أحياناً هوية الضحية والمتهم والشاهد، والنتيجة أن أي مسار قضائي يظل محمّلاً بتبعات سياسية.

وفي غياب إرادة دولية حقيقية، تتحول العدالة إلى أداة للإقصاء والإذلال أو لتصدير الأزمات، وما يُسمى اليوم بـ "مكافحة الإرهاب" غالباً ما يُستخدم كغطاء لتبرئة الدول الغربية من مسؤولياتها، وتجاهل حقوق الإنسان، وإعادة إنتاج عدم الاستقرار في الشرق الأوسط.

ومع تراكم هذه الأزمات، من الفراغ القانوني ورفض الدول تحمّل المسؤولية، إلى التسييس الأمني وحروب السرديات، لم تعد المخيمات بإقليم شمال وشرق سوريا مجرد قضية إنسانية أو أمنية، بل أصبحت انعكاساً لفشل النظام العالمي في التعامل مع تداعيات الإرهاب، غير أن هذا الوضع لا يُختزل في قرارات الدول وحدها؛ بل يُعاد إنتاجه في سياق الروايات الإعلامية، وضغوط الجغرافيا السياسية، ومعادلات القوة الإقليمية.

ويأتي القسم الثالث من التقرير ليتناول هذه الطبقة الخفية من دور الفاعلين الإقليميين والدوليين، المصالح السياسية الكامنة وراء استمرار الأزمة، والسؤال الجوهري حول من يستفيد من إبقاء العدالة معلّقة.