التعليم في إقليم كردستان يعرض اللغة والهوية للخطر
بالتعليم تبنى المجتمعات، فالفرد داخل المجتمع يُنظم منذ الطفولة عبره، لكن في إقليم كردستان، فإن مقاطعة التعليم، تعطيله، فرض اللغة الأجنبية في المدارس الأهلية، يجعل منه وسيلة للتمويه الثقافي.

هيرو علي
مركز الأخبار ـ التعليم جهد شامل ومتعدد الأبعاد يهدف إلى تنمية وتفعيل الجوانب الجسدية والعقلية والاجتماعية والسلوكية للإنسان، من أجل ترسيخ الالتزام والمسؤولية لدى كل فرد.
كان التعليم يُمارس بشكل غير رسمي من خلال التواصل الشفهي والتقليد، ولكن مع نشوء الحضارات القديمة، أدى اختراع الكتابة إلى انتشار المعرفة وتحول التعليم من شكله الغير رسمي إلى الرسمي.
في البداية، كان التعليم الرسمي موجه إلى فئات محددة ومجموعات دينية معينة، ولكن بعد ظهور المطبعة في القرن الخامس عشر، والتي أثرت بشكل كبير على التعليم العام، انخفضت تكلفة إنتاج الكتب بشكل ملحوظ، بعدما كانت تُكتب يدوياً، مما أدى إلى انتشار الوثائق المكتوبة بشكل واسع، ومنها أشكال جديدة مثل الصحف والرسائل، كما أن توفر وسائل الإعلام المكتوبة ساهم في زيادة نسبة القراءة العامة بين السكان.
كان القرن الثامن عشر مرحلة مهمة في تاريخ البشرية، إذ شهد الثورة الصناعية الأولى عام 1786 والثورة الصناعية الثانية عام 1850، مما أدى إلى حدوث تحولات في مجال التربية الجماهيرية في عدد من الدول الأوروبية والأمريكية، حيث بدأت الدول الصناعية حول العالم تدعم توفير التعليم العام.
وفي القرن التاسع عشر، أنشأت مجموعة من المؤسسات العلمية المسيحية العديد من المدارس الخيرية للأطفال الفقراء الذين تتراوح أعمارهم بين 7 و11 سنة. وقد أصبحت هذه المدارس أساساً لتطوير النماذج الحديثة للتعليم الابتدائي، وشكلت مركزاً مهماً أتاح للحركات العالمية توفير التعليم الابتدائي المجاني والإلزامي حتى سن محددة للجميع.
أما في القرن العشرين وبداية القرن الحالي، فقد شهد نظام التعليم العالمي تغيراً كبيراً، بهدف تلبية متطلبات مجتمع أكثر تعقيداً وتقدماً من حيث التكنولوجيا والتعليم.
في بلاد ما بين النهرين بدأ التعليم من النقوش
ففي أرض بلاد الرافدين، بدأت التربية والتعليم والكتابة من النقوش على الجدران، حيث تُظهر النقوش المحفورة على الأحجار تاريخ وجود المدارس وتلقي الدروس في العصور القديمة، لاحقاً، توسع نظام التعليم والتدريب ليشمل الغرف الصفية، ومع تطور المراحل وتقدم المجتمعات، أصبحت المدارس أماكن مخصصة للتربية والتعليم والتدريب.
النظام العالمي في فهم التربية والتعليم يختلف من مكان إلى آخر، فمستوى تطور التعليم يعكس مستوى تقدم المجتمع، وقد سعت المجتمعات دائماً إلى بناء نفسها وإعادة تشكيلها من خلال تطوير مجال التعليم، باعتباره الأساس الذي تنهض عليه الأمم.
المدارس الأهلية وأسلمة التربية ونظام التعليم
المدارس الأهلية تُعدّ امتداداً لأسس تقدم الدول، ولذلك فإن لها أهمية في تطوير الجوانب الاقتصادية والثقافية والروحية والاجتماعية للشعوب.
وفي إقليم كردستان، إلى جانب المدارس الحكومية، توجد مدارس أهلية تُدرّس باللغة الفارسية، التركية، الإنجليزية، العربية، الألمانية، الكورية الجنوبية، الفرنسية، والإيطالية، ووفقاً لإحصائية وزارة التربية لعام 2019، تم افتتاح أكثر من 300 مدرسة أهلية، وتُدرّس فيها اللغات الأجنبية إلى جانب اللغة الكردية كلغة ثانوية.
الكثير من الآباء والأمهات، دون وعي بمخاطر هذا النوع من التعليم، يرسلون أطفالهم بفخر إلى المدارس الأهلية لتلقي التعليم بلغة أجنبية.
خلق التفاوت الطبقي
من المشكلات الأخرى التي تنشأ من خلال المدارس الأهلية هو إدخال التمييز الطبقي إلى مجتمع إقليم كردستان، هذا التمييز الطبقي أصبح أكثر وضوحاً مقارنةً بالعشرين سنة الماضية، حيث أدى ازدياد عدد المدارس الأهلية إلى تعميق هذا التفاوت، فقد تم افتتاح عدد كبير من المدارس ورياض الأطفال الأهلية في إقليم كردستان، حيث يُطلب مبلغ مالي شهري أو سنوي مقابل تعليمهم، أما العائلات ذات الدخل المحدود، فهي غير قادرة على إرسال أطفالها إلى المدارس الأهلية، وعلى الرغم من ذلك، فإن العديد من الأسر تعاني من الضيق النفسي كي يتمكنوا من إرسال أطفالهم إلى هذه المدارس.
لذلك، أصبح التعليم الأهلي في إقليم كردستان شكلاً من أشكال التمييز، حيث يرسل أصحاب رؤوس الأموال أطفالهم إلى هذه المدارس، لأن معظم الآباء والأمهات يقولون "لا نريد أن يكون طفلنا أقل من أطفال الآخرين"، فيرسلونهم إلى المدارس الأهلية.
في الوقت الذي تخضع فيه المدارس الأهلية في العالم لرقابة مجموعة من المعايير التي تهدف إلى تحسين جودة التعليم وتوفير بيئة مناسبة لاستمرارية الطلاب في التنافس للوصول إلى أعلى مستويات الخدمة التعليمية، فإن الوضع في إقليم كردستان يسير بعكس ذلك.
في إقليم كردستان، تم فتح المجال للتعليم الأهلي، كما هو الحال في العديد من الدول، من قبل الحكومة ووزارة التربية بطريقة غير مخططة، مما جعله يخدم فقط طبقة اجتماعية معينة، فالتعليم في هذه المدارس يتطلب دفع مبالغ مالية كبيرة، وهذا أدى إلى تعميق الفجوة الطبقية داخل المجتمع، وفي الوقت نفسه، أصبح التعليم الحكومي يعاني من الإهمال والضعف، كما أن التعليم أصبح يُعامل كسلعة تجارية في الإقليم، حيث تولي الحكومة والسلطات اهتماماً أكبر بالمدارس الأهلية على حساب المدارس الحكومية، ومع تزايد عدد الطلاب سنوياً، تستمر المدارس الأهلية في التوسع، رغم أن التعليم فيها ليس في متناول الجميع.
كما أن هذه المدارس تعطي اهتماماً أكبر للغات الأجنبية مقارنة باللغة الكردية، وفي بعض منها يتم تهميش اللغة الكردية تماماً، حتى أن أسماء المدارس واللافتات والكتابات على الجدران والصفوف نادراً ما تُكتب بالكردية، في حين أن اللغة تُعدّ من الركائز الأساسية لهوية أي شعب، وإذا استطاع الشعب الحفاظ على لغته ومنع اندثارها أو استبدالها بلغة أخرى، فإن ثقافته ستبقى حيّة.
التعليم باللغة الأم يُعتبر في الأنظمة التربوية الحديثة من الأولويات، وكل دولة قومية تمتلك خطة استراتيجية لتطوير التعليم بلغتها القومية، ويجب أن تكون هذه اللغة حاضرة في جميع المجالات والمؤسسات.
لكن في إقليم كردستان، تُبذل جهود في المدارس الأهلية لطمس اللغة والثقافة الكردية، حيث لا يتعلم الطلاب حب الوطن ولا يُدرّسون الأناشيد الوطنية، كما أن أسلوب عمل هذه المدارس يركز فقط على المظهر، دون الاهتمام بنشر العلم والمعرفة، وغالبية الناس لا يعرفون الحقائق.
كما أن بعض المدارس الأهلية تحظى بدعم خاص، مما يجعل عملية افتتاحها سهلة، وحتى عند مخالفتها لتعليمات وزارة التربية، يتم التغاضي عنها.
الدولة التركية تمارس الهيمنة من خلال التعليم
في عام 1992، ومع تأسيس حكومة إقليم كردستان، تم إنشاء وزارة التربية والتعليم، وبدأ التعليم باللغة الكردية في الإقليم، إلى جانب التعليم الحكومي، وفي عام 1994، تم افتتاح أول مدرسة أهلية في إقليم كردستان باسم جامعة إشق (الضياء) في هولير، وفي السليمانية عام 1997 تم افتتاح أول مدرسة أهلية باسم كلية صلاح الدين، وكلاهما مرتبطان بجهات تركية، ولا يزالان مستمرين حتى الآن، حيث يدرّس فيهما الطلاب من مرحلة رياض الأطفال حتى الجامعة سنوياً.
إضافة إلى ذلك، توجد اليوم العديد من المدارس والمعاهد والجامعات التي قد تكون تابعة لدول أجنبية، وقد تم إنشاؤها في إقليم كردستان بهدف معين، وتُدرّس فيها باللغة الأجنبية وتُعتمد فيها التعليم الأجنبي.
عدم صرف الرواتب وإهمال التعليم والتربية
بشكل عام، تُعدّ نسبة الميزانية المخصصة لقطاع التربية والتعليم في أي دولة مؤشراً على مدى اهتمام تلك الحكومة بهذا القطاع، ففي الدول المتقدمة تُخصص نسبة بارزة من الدخل القومي لهذا المجال، على سبيل المثال، في الولايات المتحدة، تبلغ ميزانية وزارة التربية والتعليم ضعف ميزانية وزارة الدفاع، بينما في إقليم كردستان، فإن ميزانية التربية والبحث العلمي لا تتناسب مع الحاجة، وغالباً ما تكون مساوية لميزانية إحدى المؤسسات السياسية التابعة لأحد الأحزاب في الإقليم.
ومنذ عام 2016، وبسبب تأخر وعدم صرف الرواتب، بدأ المعلمون والمعلمات بمقاطعة المؤسسات التعليمية، وحتى الآن لم تُحل أزمة الرواتب، مما ألحق ضرراً بالغاً بعملية التعليم ونظام التربية، وأثر سلباً على مستقبل الطلاب، وقد أدركت السلطة هذا الأمر منذ البداية، إذ أن بقاءهم يتطلب وجود مجتمع متخلف وخالٍ من العلم والمعرفة، ولإنتاج مجتمع متخلف، يجب أولاً شلّ نظام التربية والتعليم.
إن تجاهل الحكومة لحل مشكلة المعلمين وصمتها حيال ذلك يُعدّ جزءاً من عملية شلّ نظام التربية والتعليم، وإنتاج مجتمع جاهل لا يعرف حقوقه وواجباته، وبدون تربية وتعليم جيد، لا يمكن بناء مجتمع أفضل.
وفي النهاية، وبعد 33 عاماً من الاستمرار، فإن نظام التربية والتعليم في إقليم كردستان، بدلاً من التقدم، يسير نحو التراجع، ووفقاً لجميع المؤشرات، فإن العملية التعليمية لهذا العام ستُشلّ وتنهار بسبب برود الحكومة وعدم اكتراثها.