الرموز الثقافية والخطاب الذكوري هكذا يُشرعن العنف في المجتمع

منذ إلغاء اتفاقية إسطنبول، ارتفعت جرائم قتل النساء بنسبة 162%، وترى عالمة الاجتماع سحر بايار أن الإصرار على الرموز الثقافية وعدم تطبيق القوانين من أبرز أسباب تفاقم العنف "لغة السلطة القائمة على التخوين تنعكس مباشرة على السياسات المتعلقة بالمرأة".

أرجين ديليك أونجِل

آمد ـ تخوض النساء في جميع أنحاء العالم صراعاً يومياً للخروج من دوامة العنف، وتُعدّ تركيا من بين الدول التي تحتل المراتب الأولى في حالات العنف ضد المرأة بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD).

لطالما كانت "اتفاقية إسطنبول" طوق نجاة للنساء في تركيا، إذ كانت من أوائل الدول الموقعة عليها، وصادّق البرلمان التركي عليها في 24 شباط/فبراير 2012، لتصبح أول دولة تُمررها عبر مؤسستها التشريعية.

لكن في 20 آذار/مارس 2021، صدر قرار رئاسي بالانسحاب من الاتفاقية، ودخل هذا القرار حيّز التنفيذ رسمياً في 1 تموز/يوليو 2021.

وعلى خلفية ردود الفعل الرافضة للانسحاب، سارع حزب العدالة والتنمية (AKP) إلى التأكيد على أن "القانون الداخلي كافٍ"، وأن هناك "تسامحاً تجاه العنف"، في محاولة لتهدئة الانتقادات.

 

ارتفاع جرائم قتل النساء منذ عام 2021

لكن القانون الداخلي لم يكن كافياً فمنذ عام 2021، ارتفعت جرائم قتل النساء بنسبة تقارب 162%، كما زادت الوفيات المشبوهة للنساء بنسبة 100%، وخلال هذه الفترة، طُرحت عدة حزم قضائية على جدول الأعمال، تضمنت نقاشات حول "عفو جزئي"، وجرى التداول في مسألة ربط النفقة بمدة زمنية معينة أو حتى إلغائها، كما طُرحت فكرة "الوساطة" في قضايا الطلاق، وهو ما يعني إعادة النساء إلى بيئات تتعرضن فيها للعنف.

 

تعديل في قانون العقوبات

أحد القرارات التي أثارت غضب منظمات نسائية كان التعديل في قانون العقوبات؛ إذ تم إدخال مادة تهدف إلى منع تخفيض العقوبة بسبب "حسن السلوك"، كما تم تصنيف الجرائم المرتكبة ضد النساء كـ "جرائم خاصة" و"ذات طبيعة مشددة"، ومع ذلك، لم يتم التطرق إلى إلغاء التخفيضات المرتبطة بما يُعرف بـ "الاستفزاز غير المشروع".

 

قرارات تمسّ جسد المرأة منذ 2015

بحلول عام 2015، بدأت السلطة في اتخاذ قرارات تمسّ بحق المرأة في تقرير مصير جسدها؛ حيث تم تحديد كيفية الولادة من قبل الدولة، وعلى الرغم من عدم وجود تشريع قانوني بهذا الخصوص، فقد تم حظر الولادة القيصرية فعلياً، كما عادت قضية الإجهاض إلى واجهة الجدل العام.

رغم ترديد النساء لسنوات شعار "ميزانية للمرأة لا للحرب"، فإن هذا النداء ظل دون استجابة فعلية. فقد شهدت مخصصات وزارة الأسرة والخدمات الاجتماعية تراجعاً ملحوظاً عاماً بعد عام؛ فبعد أن شكّلت 3.77% من الموازنة العامة في عام 2022، انخفضت إلى 3.35% في 2023، ثم إلى 2.8% في 2024، لتصل إلى أدنى مستوياتها بنسبة 2.5% في 2025.

 

عدم المساواة والتقاليد المترسخة يُشرّعان العنف ضد النساء

وترى الناشطة في مجال حقوق المرأة وعالمة الاجتماع سحر بايار أن تصاعد العنف ضد النساء بات أكثر وضوحاً بسبب مجموعة من العوامل، أبرزها تنامي العنف المجتمعي العام، مشيرةً إلى أن النساء، في ظل أرضية من التفاوت والتمييز، كنّ الأكثر تضرراً "كانت هناك بالفعل بنية مجتمعية غير متكافئة، وقد دفعت النساء ثمنها بشكل مباشر".

 

الرموز الثقافية ولغة السلطة المُقصية

وأشارت سحر بايار إلى أن النساء يُنظر إليهن كمجرد عنصر ثانوي في البنية الثقافية والأنظمة الإقطاعية "تُعرَّف النساء ضمن الأسرة من خلال مفاهيم العُرف والشرف ويُحملن المسؤولية، هذه الذهنية المتجذرة في الإقطاع والبنية الثقافية، تخلق تربة خصبة لتطبيع العنف".

وتساءلت "يُقال إن الأزمة الاقتصادية تعمّق العنف، لكن هل من الطبيعي أن تؤدي الأزمة إلى زيادة العنف؟ إذ واجه الرجل صعوبة بسبب الأوضاع الاقتصادية، هل يصبح من حقه استهداف حياة المرأة؟ هل المرأة أداة لتفريغ غضب الرجل أو ضبط انفعالاته؟".

وأوضحت أن الاختلافات في المواقف السياسية تسهم بدورها في تصعيد العنف، مبينة أن لغة الدولة وأساليب التواصل بين الأحزاب السياسية تعتمد نبرة حادة وذكورية تتسلل إلى جميع البُنى المجتمعية "لغة السلطة المعادية والعدوانية تنعكس مباشرة على العلاقات بين الجنسين والسياسات الخاصة بالمرأة ومختلف جوانب الحياة الاجتماعية".

وأكدت أن البنى الثقافية مثل التقاليد، والمفاهيم الدينية المغلوطة، والعادات الاجتماعية، تُسهم بشكل كبير في تشكيل السلوك الجمعي، مما يؤدي إلى تبرير العنف ضد المرأة واعتباره سلوكاً مقبولاً أو مشروعاً في بعض الأوساط.

 

"إعلان عام الأسرة لا يحلّ المشكلات"

في تعليقها على إعلان رجب طيب أردوغان عام 2025 "عام الأسرة"، قالت سهير بايار "إعلان عام للأسرة لا يكفي لحل هذه المشكلات، علينا أولاً أن نكسر التسلسل الهرمي القائم داخل بنية الأسرة نفسها، في المجتمع التركي، هناك أرضية تُبقي المرأة في المرتبة الثانية داخل الأسرة، وتُستغل فيها جهودها".

وأضافت "حتى تعبير امرأة لا تعمل يُظهر ذلك بوضوح، فحين لا تعمل المرأة في قطاع رسمي، يُقال إنها لا تعمل، بينما في الحقيقة تقوم بأعمال منزلية، ترعى الأطفال، وتبذل جهداً هائلاً دون أي اعتراف رسمي أو مشاركة حقيقية في اتخاذ القرارات داخل الأسرة، فهي لا تعتبر فقط أنها ليست فاعلة، بل لا يُسمح لها حتى بإبداء الرأي".

 

لغة الإعلام

وأشارت سحر بايار كذلك إلى أن لغة الإعلام لها دور كبير في التعامل مع قضايا العنف والقتل ضد النساء. وذكرت أن تطور وسائل الإعلام الرقمية ساهم في كشف قصص العنف، كما أن تصاعد دور المنظمات النسائية كان له أثر في ذلك.

وأوضحت أنه "في قضية نارين كوران رأينا كيف أن لغة الإعلام تلعب دوراً خطيراً، غالباً ما يُسلّط الضوء على الضحية وتُنشر صورها في كل مكان، بينما ينبغي، في حال وجود جريمة، التركيز على الجاني وليس على الضحية، وفي بعض الأحيان تشرعن لغة الإعلام جرائم القتل، فهناك ثغرات قانونية، ومشكلات في التطبيق، وقرارات ارتجالية تصدر بسبب هذه الثغرات، الأمر الذي يدفع الفتيات والنساء إلى الخلف ويجعل موقفهن أضعف أمام القانون".

 

جرائم جنسية ضد الأطفال

وبينت إن هناك ارتفاع في حالات العنف والجرائم الجنسية ضد الأطفال "نحن بحاجة إلى رفع الوعي بشأن الجرائم المرتكبة بحق الأطفال، يجب أن نعلّم الطفل أن جسده ملكٌ له وحده، ولا يحق لأحد لمسه. وينبغي أن تكون الأسرة على دراية بهذا الوعي أيضاً، فمنذ الطفولة نقوم بعناق الأطفال وتقبيلهم بالقوة، رغم أنهم لا يرغبون أحياناً في هذا النوع من اللمس. كما نتدخل نحن الكبار قائلين 'دع أخاك أو أختك يحبك'. بينما يجب أن نُعلّم الطفل أنه فريد، وأن من غير المسموح لأحد أن يلمس جسده".

 

الأسرة التي يُعتقد أنها بيئة آمنة قد تُلحق الضرر بالطفل

وفيما يخص الجرائم الجنسية ضد الأطفال، قالت سحر بايار "القوانين لم تتخذ موقفاً صارماً بما يكفي في هذا المجال، يجب أن تكون هناك عقوبات قانونية رادعة، في حالات الاعتداء داخل الأسرة، فغالباً ما يتعرض الطفل للتهديد لمنعه من البوح بما تعرّض له، أحياناً يأتي التهديد من الخارج، وأحياناً من أحد أفراد الأسرة، من المهم أن يكون هناك شخص يمكن للطفل الوثوق به ومشاركته كل ما يشعر به دون شروط أو خوف من الأحكام، لذلك يجب أن يعرف أنه مهما حدث، هناك من يقبله بلا قيد أو شرط، وأن لديه بالغاً يمكنه الحديث معه بكل حرية، والثقة هنا عنصر أساسي".

وأضافت "في حالات سفاح القربى داخل الأسرة، لا تتمكن الفتيات من إبلاغ أسرهن؛ قد تشارك الطفلة والدتها، لكن إن كان الجاني هو الأخ، يُغطى على الجريمة، فقد صادفنا العديد من هذه الحالات، في مثل هذه المواقف، تتدخل الأعراف المجتمعية، ويُقال للفتاة سيُلطخ اسمك، سيتضرر اسم العائلة، فيُفرض عليها الصمت، وهكذا تتعرض الطفلة للإيذاء مرتين، فالأسرة التي يُفترض أنها الحاضن الآمن تتحول إلى مصدر أذى".

 

"يجب تطوير سياسات للقضاء على مظاهر التهميش داخل الأسرة"

ولفتت سحر بايار إلى أن إعلان 2025 عاماً للأسرة لن يكون كافياً لحل المشكلات القائمة، مؤكدةً على ضرورة تطوير سياسات حقيقية تهدف إلى القضاء على المظاهر التمييزية داخل الأسرة "في البنى المحافظة ذات الطابع اليميني، تُعتبر الأسرة من الركائز الأساسية التي تقوم عليها الدولة، وتُنظر إليها كمؤسسة يجب حمايتها، إلا أن الأسرة، في ظل هذه النظرة الإيديولوجية التي تتبناها الدولة والهياكل المحافظة، تتحول إلى آلية يُستغل فيها جهد النساء وتُهمّش أدوارهن".

 

"نضال النساء يُحدث تغييراً فعلياً"

وشددت سحر بايار على أن نضال النساء ساهم فعلياً في إحداث تغيير "النساء تواصلن نضالهن في مواجهة هذه الإشكالات، وقد تطورت أبعاد هذا النضال، ففي الأوساط الإسلامية، نسمع كثيراً عما يُعرف بالنسوية الإسلامية، فالنساء المؤمنات في العالم بدأن تعارضن التسلط الذكوري الذي تم تأسيسه عبر أدوات دينية مؤدلجة".

وأكدت "تحاول النساء بناء وجهة نظر نسائية في كل المجالات، وبينما يعيدن تشكيل ذواتهن، فإنهن يُمهّدن أيضاً لبيئة أكثر أماناً يعيش فيها الأطفال، كما يجب تطوير أرضيات قانونية مناسبة وتفعيل القوانين القائمة، فتطبيق القوانين بالتوازي مع التغيير المجتمعي يمكن أن يفتح المجال لحلول واقعية ومستدامة".