"القبول النسائي البغدادي"... منظور آخر للجمال قديماً وحديثاً

لتعزيز الوعي بالموروث الثقافي وإحياء تقاليد بغداد الأصيلة نظمت جلسة لإحياء طقس "القبول النسائي البغدادي"، في أجواء تراثية تحتفي بالهوية البغدادية.

رجاء حميد رشيد

بغداد ـ نظمت أمس السبت 18 تشرين الأول/أكتوبر دار سوسة للثقافة جلسة لإحياء طقس "القبول النسائي البغدادي"، للحديث عن أزياء المرأة في الحضارة الرافدينية ومفهوم الأناقة والجمال لدى المرأة المعاصرة.

في أجواء تراثية تحتفي بالهوية البغدادية، استضافت دار سوسة للثقافة التي تديرها سارة الصراف، كلاً من الآثارية جُمان السمرائي، والدكتورة رواء سامي المتخصصة في الصحة النفسية، والصيدلانية فرقان فؤاد، للحديث عن أزياء المرأة في الحضارة الرافدينية ومفهوم الأناقة والجمال لدى المرأة المعاصرة، وذلك في مقر الدار ببغداد.

 

بيت الجد ينبض بالحياة

الكاتبة سارة الصراف صاحبة "القبول النسائي البغدادي" أوضحت أن "دار السوسة للثقافة يعود عمره إلى 85 عاماً، عشت في هذا البيت الجزء الأكبر من حياتي، لما يقارب 28 سنة، وعندما غادرته لمدة عشرين عاماً، لم أستطع أن أتخلى عنه روحياً، حتى وإن تركته جسدياً، لكن في النهاية، تحققت الأمنيات والأحلام، وتمكنت من العودة إليه مرة أخرى، لأجعله يتنفس من جديد، وأحيي هذا المكان عبر تحويله إلى متحف يعكس جزءاً بسيطاً من إرث وأرشيف الدكتور أحمد سوسة، الذي قدّم للعراق الكثير من عمره وجهده، وكان له الفضل في التنظير والتخطيط للمشاريع الروائية في العراق منذ خمسينيات القرن الماضي، وتُعدّ مؤلفاته اليوم من المراجع الأساسية للباحثين المهتمين بالكتابة عن بغداد وعن الريّ في العراق".

وترى سارة الصراف أن "هذا الدار وبحكم التحديات التي يواجهها المجتمع العراقي، لا يمكن أن يكون مجرد متحف فقط؛ بل يجب أن يتحول إلى مكان فاعل يسهم في إحداث تغيير إيجابي، لذلك، أصبح الدار مركزاً ثقافياً يُطرح فيه كل ما يهم المجتمع من قضايا، بهدف المساهمة في التغيير والتوعية، ومن هذا المنطلق، أصبح جزء من نشاطات المركز هو القبول النسائي البغدادي".

وقالت "حين فتحت عيني على الحياة، كان من المعتاد أن تعقد جدّاتنا قبولاً شهرياً، لكن القبول في ذلك الزمان كان بسيطاً، ولا يحمل ثقل الهموم التي يعانيها المجتمع العراقي اليوم، ونحن الآن في أمسّ الحاجة إلى دورنا جميعاً في التغيير والتنوير، فمعلومة واحدة قد تغيّر حياة شخص أو حياة آخرين من حوله، لذلك، ارتأينا أن يكون القبول النسائي الشهري، دائماً قائماً على فكرة يتم مناقشتها وتداولها بين الحاضرات".

 

أزياء المرأة في الحضارة الرافدينية

وبدورها استعرضت الآثارية جُمان السامرائي تطور الأزياء في حضارات وادي الرافدين، حيث أنها لم تكن مجرد وسيلة لستر الجسد، بل شكلت لغة رمزية تعكس المكانة الاجتماعية، والقيم الجمالية والدينية، وتكشف عن البنية الفكرية والاجتماعية للحضارات من سومر إلى الكلدانيين والآراميين "في الحضارة السومرية، كانت الأزياء بسيطة وأنيقة، الرجال ارتدوا (الكاونكس) المصنوع من الصوف والمزين بدلالات رمزية، بينما لبست النساء أثواباً مزخرفة وحُلياً من الذهب واللازورد، واستخدمت الألوان المستخلصة من النباتات والمعادن، مما يعكس تطور فنون الصباغة، وسلطت الضوء على الملكة شبعاد كرمز للرقي والأنوثة المقدسة".

أما في العصر الأكدي كما أوضحت تطورت المواد والزخارف، وبرزت الأقمشة المطرزة بخيوط معدنية، والأحزمة والأردية الطويلة كرموز للسلطة، مع استخدام الأوشحة المطرزة للنساء، وفي العصر البابلي استخدم الكتان الفاخر وخيوط الذهب، وكانت الألوان كاللون الأرجواني دلالة على الطبقات العليا، وبرزت الزينة والعطور كجزء من طقوس الجمال الديني، وظهرت المجوهرات المرصعة بالأحجار الكريمة.

وبينت أنه في العصر الآشوري، تعددت طبقات الأقمشة والزخارف، وارتدى الملوك أردية مزخرفة بشعارات دينية، بينما ارتدت الأميرات تيجاناً مرصعة وتسريحات مزينة، ما يعكس ترف القصور، أما في العصر الكلداني والآرامي، تأثرت الأزياء بالثقافات المجاورة، فظهرت الأكمام الواسعة، والعباءات المزخرفة، والنقوش الهندسية التي تعبر عن الانفتاح الثقافي.

وقالت إن "الحُلي عرفت أنها أكثر من مجرد زينة، فهي رموز للجمال والقداسة، ظهرت مبكرا في المقابر السومرية، وبلغت في العصور الأكدية والبابلية دقة عالية، مع نقوش دينية مثل نجمة عشتار، واستخدم الآشوريون الحُلي للتعبير عن الهيبة، وشاع في العصر الكلداني والآرامي استخدام الخواتم المنقوشة كوسائل تعريف"، لافتة إلى أن "الأزياء والزينة في حضارات العراق القديم شكّلت وحدة فنية تعبّر عن فلسفة الجمال والهوية، حيث تحوّل اللباس إلى لوحة رمزية تنبض بالقيم الروحية والاجتماعية".

 

قوالب مثالية وأزمة نفسية

فيما تحدثت الدكتورة في الصحة النفسية رواء سامي، عن أسباب تزايد ظاهرة ارتداء الملابس غير المقبولة أحياناً، والمبالغة في الزينة والتجميل، والتي بينت أنها تعود إلى "تأثير دخول ثقافات متعددة إلى مجتمعنا، بالإضافة إلى تأثير الإعلام ووسائل التواصل الافتراضي، التي ساهمت في خلق قوالب موحدة للجمال".

وأوضحت أن الأفراد بدأوا يقارنون أنفسهم بهذه القوالب المثالية، التي يصعب الوصول إليها في كثير من الأحيان، ما ولّد نوعاً من المقارنات وأدى إلى شعور بعدم الثقة بالنفس، وقد أدى ذلك إلى محاولة تقليد هذه الصور النمطية، دون وعي أو إدراك للفروق الفردية والثقافية.

مفهوم الجمال ليس وليد العصر الحديث كما أكدت بل هو متجذر في الحضارة العراقية منذ آلاف السنين، ويشكّل جزءاً أصيلاً من الشخصية العراقية، فالجمال لا يقتصر فقط على المظهر الخارجي، بل هو حالة نفسية متوارثة، تعبّر عن الانتماء، والثقة بالنفس، والاتزان النفسي.

 

حرية الملبس مسؤولية فردية

من جانبها، ترى الصيدلانية فرقان فؤاد أن "الملابس والأزياء تندرج ضمن نطاق الحريات الشخصية"، مشيرة إلى أن اللباس يعكس شخصية الفرد من خلال الموديل واللون، لذلك نجد اليوم بعض الشباب يتجهون نحو ارتداء أزياء متطرفة للتعبير عن أنفسهم، خاصة في مرحلة المراهقة، مثل البناطيل الممزقة".

وبينت أن المظهر الخارجي يُعد هوية بصرية يُعبر فيها الفرد عن شخصيته، وتنعكس من خلالها أناقته وذوقه، موضحة بأن الكثير من الشباب لا يرتدون ما يعبر عن ذواتهم حقاً، بل ينجرفون وراء ما يُعرف بـ"الترند"، ويقلدون الآخرين في أزيائهم.

اختتمت الجلسة الثقافية بأداء رائع لإغاني بغدادية تراثية بصوت الفنانة هلا بسام البياتي، رافقها عزف الفنانة ليان ضياء، مما أضفى جواً مفعماً بالحيوية والتفاعل بين الحاضرات.