المرأة في مزوبوتاميا هوية حضارية تُقاوم الإبادة

إن دور المرأة الكردية التاريخي واضح في حماية الهوية والثقافة، وأن مقتل الشابة الكردية جينا أميني ما هو إلا امتداد لقمع ممنهج ضد النساء، وأن فلسفة "Jin Jiyan Azadî" أصبحت رمز للمقاومة ووسيلة لتحرير المجتمع من الذكورية والاضطهاد.

توار عادل

منذ العصور القديمة وحتى اليوم، كان الشعب الكردي حامياً وحاملاً للهوية الثقافية والحضارية لميزوبوتاميا، وخلال الخمسين سنة الماضية، وبعد انطلاق الحركة التحررية الكردية، أصبح ثقل القوة الكردية الحرة محط اهتمام العالم بشكل عام، والشرق الأوسط بشكل خاص.

ولقد شهد التاريخ وجود المرأة الكردية التي لعبت دوراً رئيسياً في مختلف الميادين، لأن الثقافة الزاغروسية كانت دائماً ممتدة وشاملة لثقافة الأم-المرأة، وهذا ما جعل النساء يتركن بصماتهن وآثارهن في نضال الشعب الكردي من أجل الحرية والديمقراطية.

في مراحل عديدة، كانت نساء مثل ليلى قاسم، حفصة خان نقيب، مستورة أردلان، ساكينة جانسيز، زكية ألكان، فيان صوران، بارين كوباني، وشيرين علم هولي رائدات ونماذج في نضال شعب كردستان من أجل الحرية، وقد قدّمن أجسادهن وأرواحهن في سبيل ذلك، وأصبحن رمزاً وهوية لوحدة كردستان وبناء مجتمع حر.

والحقيقة هي أن آلام الوطن كانت دائماً متجذرة في وجدان النساء، وهذا ما جعل حماية الثقافة الكردية واللغة والهوية القومية تقع على عاتقهن، ومن هذا المنطلق كنّ دائماً في طليعة النضال.

وفي الذكرى الثالثة لمقتل جينا أميني وانطلاق انتفاضة Jin Jiyan Azadî""، يجب أن يُتخذ موقف واضح تجاه الهوية الحقيقية للمرأة، لأن المجتمع والفرد اللذان يفتقران إلى الحقيقة، هو وجود بلا معنى أو هوية، وإذا كانت تلك الحقيقة الغائبة هي المرأة، فإن ذلك يخلق خللاً اجتماعياً نراه اليوم في المجتمع، حيث أن كل يوم تُقتل فيه امرأة، وتبقى حقيقة قتلها مجهولة، وتصبح عنواناً في وسائل الإعلام، وفي شخصية الأم-المرأة تتجسد كل العقوبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، التي تُفرض على المجتمع، وفي بعض الحالات تصبح واقعاً يعتبره الفرد أمراً طبيعياً للنجاة من ذلك الظلم.

القدرة على الفهم هي الحياة، بل إن القدرة على الحياة تكمن في سبيل الفهم، ومن هذا المنطلق، يجب تناول الحديث عن المرأة من زاوية المسار التاريخي؛ عن أمٍ كانت أول من أنجب، وأسست العشائر، ثم بنت أول مجتمع، أمٍ كانت أول من اكتشف زراعة القمح وأطلقت الثورة الزراعة، أمٍ كانت أول من اخترع، وأول من نطق الكلمة لطفلها، وكل البدايات كانت منها.

كيف يمكن اليوم أن تُقتل؟ كيف يمكن أن يُمحى جنسٌ (المرأة) هو مكمل لجنسٍ آخر (الرجل)، وبدونهما لا تستمر الحياة؟ كيف يمكن أن يُباد جسدياً أو معنوياً ويُعرّف كأنه غير موجود؟ إذاً، الإجابات لا تكون إلا بالعودة إلى الحقيقة، وهذه الحقيقة لا تُكتشف إلا من خلال البحث والدراسة التي تعيد تقييم علم المرأة، لأن أي بحث أو دراسة تغفل عن حقيقة المرأة لا يمكن أن تكون ناجحة، بل تبقى ناقصة ولا تقدم أي حل.

تُعرَّف المرأة كأمة بحد ذاتها، وبالتالي فإن الهجمات الإمبريالية على أي مجتمع، قبل أن تستهدف الأمة ذاتها بلغتها وثقافتها، تُوجَّه نحو المرأة، وعلى أساس بنية المرأة المجتمعية، يُقوَّض المجتمع بأكمله، فعندما يُستبعد وجود المرأة وكيانها، تتعطل دورة التربية من الأم إلى الطفل، ويُترك أفراد المجتمع بلا هوية، ويصبح سهل السيطرة عليهم، هذا الوضع بالنسبة للشعب الكردي، خاصة المرأة، أكثر قسوة.

ومقتل جينا أميني في 16 أيلول/سبتمبر 2022، تحت ذريعة عدم الالتزام بقانون الحجاب وقوانين النظام الإسلامي في إيران، يُعد في جوهره قمعاً عميقاً من النظام ضد الشعب الكردي، ويُظهر حقيقة لا يمكن إنكارها وهي أن النظام الإسلامي يعادي جوهر المرأة.

فـ "شرطة الأخلاق" في جوهرها هي شرطة لقمع المرأة، لأن المرأة نفسها تُعتبر الأساس، فهي، سواء كانت فارسية أو أذرية أو كردية أو بلوشية أو من أي شعب آخر في ذلك البلد، ما دامت تخرج من خلف جدران المنزل الأربعة، فإن النظام يعتبر ذلك تهديداً لسلطته.

ولهذا، إذا نظرت إلى المجتمعات الإيرانية، رغم أنها تنتمي إلى حضارة ميزوبوتاميا القديمة، والنساء في تلك الأرض هن تجسيد حقيقي للقداسة، إلا أن دورهن في مفاصل المجتمع الإيراني محدود، ويتركز أكثر في مجال حماية الثقافة واللغة، أما عندما يخرجن من حدود البلاد ويظهرن على الساحة العالمية، فإن العديد من النساء الرائدات يبرزن، حتى يصلن إلى مستوى أن يصبحن أعضاء في الطواقم الفضائية.

وبالتالي يمكن القول إن مقتل جينا أميني هو امتداد لتاريخ يقدر بـ 13 ألف سنة من قمع المرأة، حيث كانت في كل عصر تُوصَف بأسماء مثل مالكة التنين، ساحرة، عاهرة، ناقصة عقل، مثيرة للفتنة، وامرأة تُعارض الدين وتُعرَّف على أنها منحرفة ومنبوذة.

ومنذ زمن بعيد، تم إقصاء المرأة، وفي الإسلام السياسي، خصوصاً في إيران، تم العمل على تعطيل دورها، وسياسة النظام بُنيت على أساس عدم الاعتراف بامرأة ذات إرادة.

في مواجهة كل هذا التهميش للمرأة في أرضٍ ما، حيث إن النساء الكرديات تتجذرن في ثقافة زاغروس، فإنهن يحملن قوة المقاومة والصمود في أعماقهن. فهل هناك حقبة لم تكن فيها النساء الكرديات في طليعة الدفاع عن الهوية والبقاء في وجه الظلم؟

مرة أخرى، تحولت مقتل جينا أميني إلى صرخة مقاومة من أعماق النساء، ومنذ اللحظات الأولى، خاصة بعد أيام قليلة من كون شلير رسول إحدى ضحايا الاعتداء الجنسي، بادرت النساء إلى المقاومة، وعلى أساس "إذا بقيت طبيعة المرأة في الظلام، فإن الطبيعة الاجتماعية للمجتمع تبقى في الاضطراب"، بدأت المجتمعات كلها بالبحث عن حقيقتها، لأن بدون المرأة لا توجد حياة، ولا توجد حياة بدون حرية.

وقد تبنّت شعوب أخرى في المنطقة، بقيادة النساء الكرديات، فلسفة Jin Jiyan Azadî""، وحتى اليوم، فإن فلسفة هذا الشعار تلوّن الحياة الاجتماعية بالقوة والإيمان والوعي، وتظهر بوضوح في المجتمع، حيث تبرز النساء كصاحبات هوية وتاريخ ولغة وثقافة.