يبدعن من الطين تحفاً فنّية
في سجنان البلدة النائية في أرياف محافظة بنزرت التونسية نساء يقاومن الحر والبرد والفقر، ليحافظن على صناعة تراث المنطقة في صناعة الفخار
زهور المشرقي
تونس ـ .
سَجنان، تتميّز بجمالها وشواطئها الرملية وغاباتها الشاسعة، كذلك يتوفّر فيها الطين، وهو ما يسهّل على النساء اقتناءه لصناعة الفخار، وعرفت المدينة أيضاً باسم عاصمة الفخار، وتعمل النساء هناك كحافظات لتراث الأجداد.
النساء الكبيرات في السن أفنين أعمارهن في صناعة وإتقان الفخار وأوصلنه إلى العالمية بعد أن صنفته اليونسكو كتراث عالمي وكانت قد تقدمت به تونس إلى القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي في اليونسكو، وبعد مرور عشرين عاماً تم تسجيله رسمياً في 20 تشرين الثاني/نوفمبر 2018.
نساء سجنان يصنعن الأواني بحب وشغف، وكل آنية فخارية يطعمنها بعنايتهن ويسبغن عليها مهارتهن المكتسبة من تجارب السنين كما تطعم الأم جنينها، مؤمنات بمقولة "يوفى مال الجدّين وتبقى صنعة اليدين".
مقاومة مستمرة
تقاوم نساء عاصمة الفخار مصاعب الحياة لتطويع الطين لصناعة "كوانين" و"غناي" يزداد الإقبال عليها في مواسم معينة، وتعرف كساداً بقية أشهر السنة نظراً لعدم اهتمام الدولة بها.
التقت وكالتنا بعدة نسوة أتقن صناعة الفخار البربري كما يطلقن عليه، حيث تقاسمنا معهن يومهن في صناعة بعض الأواني.
"تعلمت الصنعة من والدتي ثم عشقتها"
تقول فضيلة السعيداني (50عاماً) وهي أم لثلاثة أبناء، أنها تعلمت صناعة الفخار منذ صغرها على يدي والدتها "كنت أساعد أمي في أوقات الفراغ عندما كانت تصنع الفخار، وهي حرفة توارثتها نساء سجنان منذ القدم، وتكاد تكون حكراً عليهن"، وتضيف "حين تضطرني الظروف أو المناسبات إلى عدم مزاولة عملي ولو ليوم واحد أشعر وكأن شيئاً ما ينقصني".
وفيما بعد حولت فضيلة السعيداني مهارتها في صنع الفخار إلى مصدر رزق لها ولعائلتها، وعن سؤالنا حول مراحل تصنيع أواني الطين، تقول "نأتي بالطين من الغار في الجبل بعد استئجار شاحنات لجلبه، ونضعه في الماء لمدة يومين، وما يتكسر منه نقوم بطحنه، والباقي نصنع به الكوانين، ثم نتركها تجف في مكان معتدل الحرارة، إذ أن فخار سجنان لا يحبذ الطقس شديد الحرارة ولا الرطوبة، ثم ندخلها إلى الفرن".
وتضيف "نأتي بنوع من التراب الأبيض من الجبل، لطلاء الأواني بعد صناعتها حتى لا تنكسر قبل وضعها في الفرن، العملية النهائية تتمثل في "الحمي"، أي حرق الأواني، باستعمال نار مشتعلة باستخدام الحطب الذي يتوفر في الغابات القريبة".
ووصفت مشاركتها في معارض محلية صغرى وكبرى ودولية وتحديداً في العاصمة الفرنسية باريس حيث تبادلت الخبرات مع مختصات في صناعة الفخار في فرنسا، بالرائعة والمفيدة.
مهنة ورثتها أباً عن جد
أما سارة بن أحمد (55 سنة)، أمّ لخمس بنات، تقول بأنها اكتسبت الصنعة من والدتها، حيث ولدت بين أواني الطين وكانت مورد رزق عائلتها قديماً وأسرتها الصغيرة اليوم، "إن مهنة النساء الوحيدة في هذه المنطقة هي صناعة الفخار وتزيينه".
وحول مجال إبداعها، تقول "نصنع الكوانين وهو إناء فخاري يوضع فيه الفحم الخشبي لصنع الشاي أو شواء اللحم، أما "الغنّاي" أو "الطاجين"، فهو آنية فخارية مستديره يبلغ قطرها نحو 40 سم، تستعمل في إعداد الخبز والشواء كطريقة تقليدية محبذة لدى كثير من الناس، إضافة إلى ابتكار أفكار جديدة تتماشى ومتطلبات السوق التونسية".
وعن التمسك بالطريقة القديمة، تقول سارة بن أحمد "نحن متمسكات بالطريقة التقليدية التي اكتسبناها من أجدادنا، ونرفض تغييرها أو استخدام آلات صناعية، لأسباب كثيرة أهمها أن الآنية تعيش أكثر وباعتبار أن عبق التاريخ ولمسة الإبداع يظلان مصاحبين لأي صناعة تقليدية".
وتضيف "كل عملنا يدوي وهذه ميزته، نجلب الطين من الجبل ونضعه في الماء لمدة يومين، ثم نتركه يجف في مكان معدل ومن ثم نستخدمه في تشكيل الأواني التي تتطلب وقتاً يدوم من يوم إلى ثلاثة أيام حتى تنضج، حيث أنها تحتوي مواد عضوية من الطين المحروق والأعشاب التي تحافظ على الصحة العامة".
وتؤكد أن تلك الأواني غير مضرّة بالصحة وتستخدم لطهي الطعام وتقديمه، إلى جانب القطع الفنية البديعة التي تعكس البيئة المحيطة بكل مفرداتها وكائناتها وزخارفها "هي منتج يدوي من الألف إلى الياء".
وتجمع النساء على أن ميزة فخار سجنان أنه طبيعي مائة بالمائة، سواء في مواده الأولية أو طريقة إعداده، ويتميّز برسومه البربرية وله رموز تحاكي حكايات النسوة بسجنان، وعن أسعاره تقول سارة بن أحمد "يبلغ سعر الآنية 2.5 دولار، لكن الحريف كثيراً يشكو من السعر، لكنه ليس على اطلاع أو لا يدرك أن تلك الأواني تمر بـ 16 مرحلة حتى تكون "عروسة متكاملة" في أبهى حلة وزينة سجنانية أصيلة".
ضعف في التسويق
وأشارت النسوة إلى أن حرفيات سجنان يجدن صعوبة كبيرة في عملية ترويج منتوجاتهنّ، حتى أنّ بعضهنّ يتسمّرن على جنبات الشوارع الرئيسية لساعات طويلة بحثاً عن الحرفيين الذين يرغبون في اقتناء منتوجات الفخّار الذي يثمّن في الذاكرة الشعبية التونسية، نظراً لقيمته الصحية عند استعماله سواءً في حفظ الغذاء أو استهلاكه، أفضل من الأواني المصنوعة من البلاستيك، التي تخلّف بعد طول استعمالها أمراضاً عديدة.
ونوهن إلى أنهن شاركن في معارض عديدة إلا أن ذلك يظل غير كافٍ لاعتبار قوة المنافسة في الأسعار علاوة على وجود مشاكل كثيرة في الترويج ومن بينها التنقل إلى العاصمة والمدن التونسية لعرض الإنتاج، وهو ما ساهم في تأزم عملية التسويق.
"الفخار رزقنا الوحيد"
فيما حليمة بن عبد الله، وهي في العقد السابع من عمرها، تعمل في هذا المجال منذ أكثر من 50 عاماً، فهي كما تقول تعلمت هذه الحرفة من أم زوجها، تقوم بصناعة "السبح" وهي عبارة عن ديكور منزلي.
تروي قصة تعب مهنتهن من جلب الطين إلى تركه في الماء يومين وصولاً إلى طحنه وتهيئته وتشكيله ثم وضعه في الفرن، "الفخار مورد رزقنا الوحيد، حيث يؤمّن لنا مصاريف تدريس أبنائنا وما نحتاجه في الحد الأدنى في معيشتا... لا عمل لنا غيره، وهو يعد فخر الأجداد".
وكما تقول حليمة بن عبد الله فإن ممارسة صناعة الفخار اليدوي بسجنان يعتبر تقليداً اجتماعياً، يكاد يكون معمّماً على جميع النساء، وإن اختلفت درجة الإتقان وكثافة النشاط.
"نحن من أوصل الفخار إلى العالمية"
فاطمة السعيداني بدورها اكتسبت صنعة الفخار من أم زوجها، وبات مصدر رزقها الأول والوحيد للعيش وتدريس أبنائها، وتوفير حاجياتها الحياتية، تؤكد أن هذه الصنعة في طريقها الى الاندثار، موجهة نداءً إلى السلطات المعنية للتدخل بدعم نساء سحنان والحفاظ على الصناعات التقليدية سواء في هذا المجال أو المجالات الأخرى.
وأعربت عن الاعتزاز بإبداع المرأة في سجنان الذي أوصل فخار هذه المنطقة إلى اليونسكو كتراث عالمي، وهو ما يمثل خطوة مهمة نحو إعادة الاعتبار للشأن الإبداعي الحرفي السجناني، وتثمين إسهاماته في عملية إثراء المشهد الثقافي الوطني، وإخراج فخّار سجنان من نطاق المحلية إلى العالمية، بفضل نسائه اللواتي عملن سنوات في صمت ومثابرة.
وتروي فاطمة السعيداني قصة عنائهن، مشيرة إلى أنهن ينهضن باكراً، ويتوجّهن إلى الجبال القريبة لجمع كميات من الطين، ثم يعدن إلى بيوتهنّ لإعداد الطين قبل تحويله إلى أواني للطبخ والزينة على غرار المزهريات والتماثيل المختلفة، عبر تمليس وتزويق الفخار.
وتُذكّر بغلاء المعيشة حيث أن صناعة الفخار لم تعد كافية لتوفير الضروريات لأبنائها وتوفير أساسيات الحياة من أكل ودواء وشرب.