'تخصيص يوم واحد عيداً للمرأة فيه "إهانة لها"... كل الأيام أعيادها'

لا يختلف اثنان عن أن الفنّ رسالة نبيلة... يجسد الحياة الحقيقية في أي مجتمع باختلاف الحقبة والزمن، وينقل الواقع بفرحه وآلامه بطريقة متميزة تلامس الوجدان وعمق الإنسان، وكأنه وثيقة تاريخية لثقافة أي مجتمع

زهور المشرقي
تونس ـ ، حيث تتجسد العادات والقيم والموروثات والأعراف من خلاله، لتتناقلها الأجيال.
يعزّز الفن الحامل للقضايا العادلة الإنسانية والعاطفية، الانتماء والولاء والمواطنة، وهو رسالة هادفة يؤديها الفنان ضمن التزاماته المتعددة.
الفنانة التونسية سلاف الذهيبي، مطربة شابة من سكان محافظة القيروان (وسط البلاد)، مزجت بين الكلاسيكي والحديث، كانت لوكالتنا وكالة أنباء المرأة حوار معها للتحدث عن الفن والأصالة وتمسّكها برسالته النبيلة، وبداياتها وطموحاتها ورسالتها، وصعوبة المجال. 
 
كيف بدأتم طريق الفن، وما الصعوبات التي واجهتكم في البداية؟
بدايةً، نرحّب بالوكالة التي أعطتني هذه الفرصة لأتحدث عن الوضع عموماً، وحريّ بي تقديم نفسي كفنانة... أنا أصيلة منطقة الذهيبات التي ترجع ترابياً إلى ولاية القيروان، ولدتُ ونشأتُ هناك حتى سنّ المراهقة، ثمّ انتقلت إلى العاصمة صحبة العائلة... توفيت أمي رحمها الله سنة 1996 مع نهاية القرن الماضي، ثمّ أختي سنة ألفين واثنين، ومن هناك لم أجد من يعوّضني صداقتهما سوى الفنّ... لم أكمل دراستي، ولم أحصل على الباكالوريا التي لا أزال أحاول الحصول عليها كلّ مرة.
حاولتُ وضع قدمي على طريق الفن ووجدتُ الأمر صعباً للغاية، لم أجده كما تخيّلته قبل الولوج إليه، لذلك بقيتُ أتحسّس الطريق دون الغوص في عوالم ربّما لا أستطيع التماهي معها... منذ قرابة عشر سنوات بدأتُ أضع بعض الأسس لمشواري الفني، حيث عملتُ مع عدّة فرق، منها المجموعات الموسيقية ذات التوجّه الالزامي، ثمّ حاولتُ تأسيس مجموعة مع أصدقاء فنانين وكان ذلك بصحبة الفنان عمر بوثور الذي اقترح عليّ اسم مجموعة "نوارس العشق"، وافقتُ على ذلك وعملنا لمدة أكثر من ثلاث سنوات تقريباً، لكنّ التجربة تعطلت حالياً، بسبب الأوضاع التي تعيشها البلاد، وهناك أسباب أخرى شخصية جعلتني أتوقف عن العمل.
كما أنّ لي بعض الأعمال الخاصة التي أريد تسجيلها لكنّ الأمر يبدو صعباً للغاية في غياب الأموال والدعم المادي.
 
منذ تقديمه للبرلمان في كانون الأول/ديسمبر 2017، ومشروع "قانون الفنّان والمهن الفنية" يُثير جدالاً في أوساط الناشطين الثقافيّين والفنيّين في تونس، كيف تعلقون على مشروع هذا القانون؟
اطّلاعي على مشروع هذا القانون ليس بالدقة المطلوبة، ولكن أعلّق مثلاً على مسألة بطاقة الاحتراف التي تشرف على امتحاناتها وزارة الثقافة ممثلة في هيئة متكونة من فنانين وموسيقيين وشعراء... السنة الماضية، أي العام الذي انتشر فيه وباء كورونا، أُضيف إلى الامتحان الأساسي لأجل الحصول على بطاقة الاحتراف، امتحان ثانٍ من أجل حصول الفنانين على بطاقة احتراف متميز، وهنا حصل جدل كبير بشأن هذه المسألة في الأوساط الفنية بين مؤيّد للمسألة وهم قليلون صراحة، وربما رأيهم في ذلك من أجل مزيد من الغربلة وتنظيف القطاع، وبين رافض للفكرة أساساً، لما رأوا فيه من إهانة لفنانين كبار يعيشون منذ العشرات من السنين من الفن ببطاقة احتراف قديمة، وهم الذين اكتسبوا خبرة كبرى في المجال وربّما لم يعد بوسعهم أو ليس لديهم القدرة على إعادة الامتحان، تماماً كمن حصل على رخصة السواقة وبعد فترة من الزمن يطلبون منه إعادة الامتحان من الأول للحصول على هذه الرخصة.
 
يقول المتابع للمجال الفني في تونس إن قطاعكم هو أحد أكثر القطاعات هشاشةً، هل تتفقون مع هذا الرأي؟ 
هذا الكلام صحيح إلى حدّ كبير، فالاهتمام بالمجال الثقافي والأدبي في بلادنا بالرغم مما يبدوا في الظاهر من حركية ثقافية وفنيّة إلّا أنّ الدولة مقصّرة كثيراً في هذا المجال، فالفنّان والكاتب والمفكر مطالبٌ بازدواجيّة العمل، فيكون بذلك المنتج للعمل الفني ككلّ، ثمّ في مرحلة ثانية مطالب بإخراج هذا العمل للعموم، وهذا من شأنه أن يأخذ من وقته وجهده وحياته، ولو أنّ الشركات ورجال ونساء الأعمال توجّهوا إلى تشجيع العمل الثقافي وتبنّوا فنانين مبتدئين وكتّاباً لا يملكون المال لنشر إنتاجاتهم الأدبية، لكان الأمر أفضل بكثير. الكاتب يعيش خصاصةً كبيرة ويمضي اليوم يفكر بمشاغل الحياة ومشاكلها، من سداد فواتير الماء والكهرباء والإجارات أو أقساط القروض التي يُرغم على أخذها من أجل بناء منزل أو شراء سيارة أو حتى من أجل تسديد ديون متخلدة لأجل الزواج أو مرض أو غيره...
 
نحن اليوم نحتفل باليوم العالمي للمرأة، كيف تقيّمون حضور المرأة التونسية في الحياة السياسية والثقافية؟
هذه الأعياد وضعوها لغاية في أنفسهم... المرأة يجب أن تكون دائماً موجودة والحالُ أنّهم، أي السّاسة، استغلّوا المرأة أيّما استغلال من أجل تلميع صورهم في المحافل الدولية وخير دليل على كلامي هو اقتصار تكريم ثلة من النساء في كلّ ذكرى من هذه الأعياد، سواءً العالمية مثل اليوم العالمي للمرأة، أو عيد المرأة التونسية الذي يتزامن مع الثالث عشر من شهر آب/أغسطس من كل سنة، وهنا تُقرعُ الطبول وتزمجر المزامير من أجل الاحتفاء بهذا اليوم الذي ليس ككلّ يوم.
أنا أرفض مثل هذه الأنواع من التكريم والأعياد لأنّها تسيء إلى المرأة من حيث لا تدري، فهي من جهة تغمض أعيننا عن بقيّة الحقوق التي هي حقوق طبيعية تماماً مثلها مثل أي مواطن، ومن جهة أخرى هضم حقها في أن تُكرَّم كل يوم وكل ساعة وكل ثانية، فهي العنصر الأساسي في المجتمع، إذ هي نصف المجتمع وهي التي تلد وتربّي النصف الآخر، وبالتالي فلا مجال للمتاجرة بقضايا المرأة وتنظيم التظاهرات الخاصة بأعيادها، وهذه الأعياد لم تزد المرأة إلا مضاعفة الهوّة بينها وبين الرجل الذي يعتبرها سبباً في بعض المشاكل التي يعيشها من بطالة وعدم توفر مواطن الشغل الرجالية خصوصاً أن المرأة ولجت ميادين العمل الرجالية مثل الفلاحة والنجارة والتجارة والحدادة وغيرها، بل اقتحمت جميع الميادين الأخرى، وحريّ بالرجل أن يجعل المرأة شريكاً له في الحياة بصفة عامة ليعيش جميع الأطراف في كنف الحرية والأمان.
 
ما مفهوم التمرد على العادات حينما تختار المرأة أن تصبح مغنية أو مطربة في مجتمعاتها المحافظة؟
في الحقيقة يمكن أن أقول لك بأنّني ضدّ التمرّد على العادات والتقاليد، وفي الوقت ذاته أنا مع التمرّد على بعض العادات التي تعيقُ الإنسان في تقدّمه وتطوّره والمضيّ نحو أهدافه، ولكن في المقابل هناك عادات وتقاليد هي بصمة الشعوب ومن خلالها يمكن التعرّف على الشعوب من خلال ممارستها في الحياة اليومية وبالتالي اكتشاف كمّ هائل من العادات والتقاليد التي تعطي قيمة للإنسان 
أنا أغني مثلاً الأغاني القديمة من موروثنا التونسي والمغاربي وحتى العربي، وفي اختياري للأغاني أكون مرتبطة أيضاً بلباس وإكسسوارات وديكور معيّن وغير ذلك... كلّ هذا يصبّ في إطار الاحتفاء بالموروث واحترام العادات والتقاليد.
ودعيني أقل لكِ إنّني أحتفظ بـ "خِلال" أمي، وهو من الفضّة الخالصة، وأستعمل فردة واحدة في الغالب لأنّني ألبس فستاناً بسيطاً ثمّ أضيف إليه قطعة من القماش أجهزها بنفسي من قماش "الملياء" و"الحُولي" و"الحايك" و"الفولارة" وغير ذلك، وأقوم بشدّها بواسطة فردة "الخِلال" لتعطي رونقاً جميلاً وبسيطاً وسهلاً في الوقت ذاته... هكذا استطعتُ طيلة الفترة الماضية التغلب على مصاريف الملابس في أثناء الحفلات والأمسيات التي أحييها. 
نأتي الآن إلى مسألة الغناء... فأن تختار امرأة أتتْ من بيئة محافظة، سواءً ريفيّة أو حضريّة، أن تصبح مغنيّة، أو فنّانة ليس بالأمر الهيّن، فقد لا تقبل العائلة أن تصبح ابنتها رسامة مثلاً، أو عازفة، أو ممثلة، وقد يكون هذا ناتجاً عن رواسب اجتماعية أو أفكار بدائيّة بالية، وبالتالي قد تحرم من أن تحقق ذاتها في المجال الذي تحبه وتختاره لنفسها، وقد تلاحظون التناقض في المجتمع وفي الناس، إذ يُقبلون على مشاهدة برامج فنية وأفلام ومسلسلات من أجل التسلية والترفيه يلعب أدوارها شخصيات لا ينتمون إليهم ومع ذلك يستمتعون بما يقدمون أيّما متعة.
شخصيّاً عايشتُ مثل هذه المشاكل ولكنّ وضعيّتي الاجتماعية أتاحت لي الفرصة للولوج في هذا المجال... لقد فقدتُ والدتي، وهي المرأة الوحيدة التي يمكن أن أستمع إليها وأنفذ كلامها لأنّها كانت تمثّل بالنسبة إليّ كوناً فسيحاً، أمّا ما عدا ذلك فقد أصبحتُ راشدة وأستطيع اتخاذ قراراتي بنفسي بدون الرجوع إلى أياً كان.
 
بالنسبة لكم... أي رسالة تريدون إيصالها إلى جمهوركم من خلال الفن؟
ليتني فعلاً أستطيع تقديم الرّسالة التي حلمت بها ولازلتُ، ليت الظروف كانت معي وخدمتني لأتمكن من الوصول إلى حلمي وهو الوقوف على مسارح عالمية وإيصال صوتي وصوت أهل بلدتي، والدفاع عنهم ممّا يعانون من فقر وهشاشة عيش وتهميشٍ من قبل السلطات والحكومات المتعاقبة.
فالفنّ من أروع الرسائل التي يمكن أن تساعد في إبلاغ صوت الفنان وبالتالي إيصال صوت بلاده وشعبه إلى العالم من خلال الأغاني التي تحمل بين طياتها معاني وقيماً كثيرة وصوراً تعكس واقع الحياة في بلاده... أحاولُ من خلال اختياري لكلمات وقصائد لأصدقائي الشعراء والشاعرات تقديمها بالطريقة التي أراها مناسبة، كما أنّني أحاول أن أتقدّم في طريق فنيّة ذات رسالة إنسانيّة مفيدة للإنسان سواء على المستوى الفني أو على المستوى الفكري.
الفنّ يسهّل مرور الرسالة وقد يكون أسرع من الأدب بكثير في إيصالها، وأكبر دليل على ذلك وصول الأغاني وخصوصاً من فن "الراب" إلى ملايين المشاهدات على منصة اليوتيوب... لاحظي لو أنّ كلّ الأغاني والموسيقى والفنون يقع إنتاجها بعناية فائقة من كلمة ولحن وتوزيع وتسجيل وتصوير وترويج والقيمة التي يمكن أن تعطيها هذه الأغاني إلى البلد المنتج وبالتالي التعريف بحضارة البلد ومنتوجاته وثقافته، كان من الممكن أن يكسب الكثير على الصعيد السياحي مثلاً أو حتى الاقتصادي وغير ذلك.