شاهدٌ على حضارات عدة... "النبي هوري" بعد قرنين من بناءه مهددٌ بالتدمير
شهد "النَّبي هوري" على حضارات عدة مرت على مقاطعة عفرين في شمال وشرق سوريا، ويُعد هذا المَعْلم الأثري مصيفاً وموقعاً سياحياً هاماً، وعلى الرغم من أهميته التاريخية إلا أنه يتعرض للتدمير والتخريب على يد الاحتلال التَّركي ومرتزقته
فيدان عبد الله
الشهباء ـ .
تُعرف مقاطعة عفرين في شمال وشرق سوريا بحضاراتها العريقة، وتعتبر من أكثر المدن التي جابهت الغزوات والإمبراطوريات التي توالت على المنطقة، وتشتهر بالمناطق الأثرية التي تشهد على تاريخ عريق وثقافات عديدة وشعوب مختلفة.
النبي هوري موقعٌ أثريٌ يستحضر تاريخاً عريقاً
قلعة "النبي هوري" تقع قرب ملتقى نهري عفرين وصابون على مُنحدر تلة قائمة على الضَّفة اليُمنى لنهر الصابون، وتمتد القلعة بين التَّلة والنَّهر، وتبعدُ عن محافظة حلب 70 كم من الجهة الشَّمالية الغربية للمحافظة، كما تقع القلعة في الزاوية الشمالية الشرقية من مدينة عفرين على مسافة 45 كم.
يحيط بالمدينة سورٌ قديم كان يحميها في فترة من الزمن، وفي كلا واجهتي السور الشمالية والجنوبية يوجد بابٌ أثري، وتتربع في وسطها كنيسة فيها ثلاثة حصون، وأما القسم الغربي منها فيه عتبة ذات ستة أعمدة مُضلعة، بالإضافة لوجود انحناء نصف دائري في طرفها الشرقي.
ولا تزال بعض أعمدة الشارع الرئيسي منصوبة إلى يومنا الحالي، ويمكن مُشاهدة مسرح المدينة المؤلف من 24 صف من المقاعد، ويحيط بالمدرج رواق يسمح قسمه العلوي بمرور المتفرجين، ويوجد أسفل المدرج ممرٌ يُشرف على الأوركسترا، وفي الجهتين الشمالية الغربية والجنوبية الغربية توجد مقبرتان فيهما مدافن حُفرت في الصخر.
كما ويُعتبر المسرح الموجود في موقع "قلعة النبي هوري" التَّاريخية في عفرين ثاني أكبر مسرح في سوريا، بعد أفاميا شمال غرب مدينة حماة، ويبلغ قطره 115متر.
ويوجد جسرين كبيرين يعودان إلى العهد الروماني، الأول طوله 120 متراً أما الثاني يبلغ طوله 90 متراً، يمر عليهما الطريق الواصل إلى القلعة، ويتميزان بعظمتهما الفريدة من نوعها بين باقي الآثار، ويعود تاريخهما إلى القرن الأول الميلادي.
"النبي هوري" نحو الفناء
مع احتلال الدولة التركية ومرتزقتها لمقاطعة عفرين بتاريخ 18آذار/مارس 2018، تعرضت المواقع الأثرية ومن بينها النبي هوري، والمزارات للتدمير والتنقيب المنهجي، كما عمدت تركيا إلى سرقت آثارها وبيعها في تركيا وغيرها من الدول.
وجراء عمليات الإبادة الثقافية والتاريخية التي يمارسها الاحتلال التركي ومرتزقته، وبحسب منظمة حقوق الإنسان في عفرين فإن عمليات التدمير والتخريب شملت المدرج الأثري الواقع، وتم تجريفه وتدميره بشكل كامل، إضافة إلى سور القلعة والمسرح الروماني والكاتدرائية، والكنسية وكذلك البوابات والأبراج.
كما تعرض البناء الهرمي الذي يضم قبر النبي هوري للنبش والتخريب، وتم إنشاء بناء اسمنتي مؤلف من طابقين ضمن الموقع بجوار القبر، ودُمرت أجزاء من البيت الروماني المُكتشف ولوحة الفسيفساء الموجودة فيه، ودمر السور الغربي خلال عمليات دخول الآليات التركية الثقيلة للموقع.
وحوّل الاحتلال التركي قلعة النبي هوري إلى مسجد، والصور الأخيرة للموقع تُظهر مدى تشبيهه بالمعالم العثمانية؛ لاقتطاع الأراضي واستكمال سياسة التغيير الديمغرافي في المنطقة.
وتقول الرئيسة المشتركة لمديرية الآثار في مقاطعة عفرين أسمهان أحمد حول ما يحدث للمدينة وأهلها من انتهاكات وتخريب "قبيل الاحتلال التركي كانت جميع معالم القلعة كما هي، لكن الاحتلال عمد إلى إنشاء مجموعات سكنية في المنطقة، بحجة أنه يحمي حدوده، لكن الحقيقة أنه يحتل المناطق المجاورة الواقعة في الأراضي السورية"، مضيفةً "يرتكب الاحتلال التركي أبشع الانتهاكات بحق السكان في مقاطعة عفرين، ويحاول محو تراث وحضارة العصور التي مرت على المنطقة".
وتؤكد أسمهان أحمد أن الاحتلال استخدم الأليات الثقيلة في تدمير الموقع الذي يعود تاريخه للفترة (312 ـ280) ق.م "حفر القلعة بالجرافات والآليات الثقيلة، وأخرج اللوحات الفسيفسائية ووضعها في السوق السوداء وغيرها الكثير من القطع الأُثرية، كما رمم المدفن الهرمي الروماني"، مضيفةً "قانونياً لا يجوز ترميم هذه الأماكن بشكلٍ عشوائي، فنحن لا نعرف ماهي المواد المستخدمة في الترميم".
مر على الموقع عدة حضارات، وله ثلاثة أسماء مدونة في الكتب التاريخية وهي قورش، نبي هوري، سيروس "النبي هوري منطقة قريبة من الحدود التركية، وبعيدة عن مركز مدينة عفرين مسافة 45 كم، ونتيجة الحروب التي دارت في المقاطعة تأثر الموقع الأثري".
ولفتت أن الاحتلال التركي حول القلعة إلى مسجد حمل الطابع العثماني بهدف توسيع فكره الاستيطاني للمنطقة "لتوسيع فكره الاستيطاني بنى الاحتلال مستوطنات ووحدات سكينة بجانب القلعة ورمم الجامع العثماني، الذي بني خلال سيطرة الدولة العثمانية على المنطقة، كما أصبحت هذه الأماكن نقاط عسكرية".
لم يكن الحال هكذا في ظل الإدارة الذاتية الديمقراطية في مقاطعة عفرين كما تقول أسمهان أحمد "كان بإمكان الجميع زيارة المواقع الأثرية، لكن ذلك بات ممنوعاً بعد الاحتلال، وأصبح من الصعب الحصول على وثائق وصور من داخل عفرين"، وتضيف "وثقنا الانتهاكات التي تُرتكب في عفرين عامة وفي النبي هوري خاصة، بثمانية تقارير وأرسلناها إلى المنظمات الحقوقية والجهات المعنية لتصل إلى الدول الأوروبية".
وحول إن كانت تلك التقارير قد غيرت من الواقع في عفرين تؤكد أسمهان أحمد أن مناشداتهم لم تلقى أذان صاغية "ناشدنا مراراً وتكراراً الجهات العالمية المعنية بإرسال وفود وبعثات من العلماء الأثريين إلى المنطقة، لمُشاهدة التغييرات والانتهاكات التي تُرتكب في قلعة النبي هوري، كونها حضارةٌ تُمثل الإنسانية وإرثٌ حضاريٌ يدل على تعايش المكونات التي عاشت فيه".
ورغم توقيع تركيا على الاتفاقيات التي تخص حماية الآثار مع منظمة اليونيسكو إلا أنها تخرق تلك القوانين والمعاهدات "تركيا ومرتزقتها تمارس انتهاكاتها أمام مرأى العالم".
وتنص اتفاقية لاهاي وبروتوكولاتها الموقع عليها في عام 1954 على حماية الممتلكات ذات الأهمية الكبيرة للتراث الثقافي لكل الشعوب خلال الحروب من أي طرف كان.
تسميات متعددة لتاريخ عريق
تُعرف المدينة اليوم بـ النبي هوري أو قلعة النبي هوري، وهي إحدى التسميات التي أطلقت عليها، كما أنها عرفت باللغة اليونانية باسم "سيروس" نسبة للملك الفارسي كورش أو قورش، كما أُطلق عليها اسم "أجيا بولس" أي مدينة القديسين كوزما ودميانوس، اللذين بنيت كنيسة حول قبريهما.
دخلت سيروس الدَّيانة المسيحية على يد "سمعان الغيور"، وبعد وفاة الأخير دفن في الكنيسة التي بناها، أما المؤرخون العرب سموها قورش أو كورش نسبة للملك الفارسي "كورش".
ويشير باحثون إلى أن النبي هوري كان مزدهراً في الفترة الهورية أي في القرن الثَّاني قبل الميلاد، وسُمي بـ "خورو، وهوريا وهوري"، ولم يُثبت إلى اليوم سبب التسمية، فيما إذا كان يرجع إلى أحد الآلهة أو الملوك الذين عاشوا في تلك الفترة، أما التسمية اللاحقة فكانت نسبة إلى الهوريين الذين حكموا المنطقة لفترة من الزمن.
وفيما تقول بعض المصادر التاريخية أن هوري هو نسبة إلى أوريا أبن حنان، أحد قادة النبي داوود، ومع مرور الزمن تحول إلى هوري، وكلمة "نبي" تُنسب إلى النبي داوود.
وقد تم اكتشاف الموقع خلال عمليات تنقيب استمرت ما بين عامي (1964 ـ 1980)، قامت بها بعثة أثرية من جامعة ستراسبورغ الفرنسية عام 1952.
وأجرت تنقيباتها في الموقع حيث ركزت على الجسور المؤدية إلى المدينة، وشبكة الطرق الداخلية، إضافة إلى الأسوار والمسرح والمدافن.
أحقاب تاريخية مر بها النبي هوري
خلال الحضارة الهلنستية (323 ـ 165) ق.م، لم يتم الاهتمام بالمدينة كثيراً إلا من قبل الأسقف تيودورث الذي شغل أسقفيتها في القرن الخامس الميلادي، والمؤرخ الأول بروكوبيوس الذي اقتصر عمله على ذكر أعمال الإمبراطور جستنيان في المدينة وذكرت في كتب المؤرخ بوليبيوس بمناسبة ثورة عسكرية 221 ق.م.
وشهدت المدينة في العهد الرَّوماني الذي بدأ في مراحل ما قبل الميلاد حتى نهاية القرن الرَّابع الميلادي، ازدهاراً ملحوظاً خاصة في الفترة المسماة السلام الروماني، وأصبحت مفتاح لمنطقة الرافدين، وصلة الوصل بين أنطاكية وتسويجما (نزب) في تركيا وصكت فيها العملة، إلا أن المركز الإداري لمقاطعة سيروستيكا تحول إلى منبج بعد إنشاء الطريق الروماني بين بيروا ومدينة منبج، وحينئذ أصبحت سيروس تابعة لها.
وفي القرن الثَّامن الميلادي كانت قورش أو النبي هوري واحدة من بين العواصم السَّبع في عهد الخليفة الأموي هارون الرَّشيد، وإحدى المراكز الحصينة، وفي عام 905 استولى البيزنطيون على مدينة قورش.
وعندما نُظمت البطريركية في أنطاكية عام 1100 أصبح للنبي هوري أسقف وسموه "كوريسيه"، لكن المسلمين قاموا باستردادها في عهد نور الدين زنكي 1150، أما الدمار الذي حل بها فقد يكون عائداً للزلال الذي ضرب المنطقة عام 1140، فيما تقول بعض الروايات أن نور الدين زنكي قام بهدمها لكيلا يعود البيزنطيين إليها مرة أخرى.
أهمية سياحية
تؤدي طرقٌ رئيسية وعديدة إلى موقع النبي هوري من جهتي عفرين وإعزاز، ولعبت المدينة دوراً مُهماً في تفعيل وتنشيط الحركة السياحية داخلياً وخارجياً في العصر الحديث، بالإضافة لإبراز أهمية الموقع ثقافياً وسياحياً.
وأقيم أول مهرجان للشعر الكردي عام 1993 في موقع النبي هوري الأثري، حضره نخبة من الشعراء والأدباء الكرد من مختلف مناطق روج آفا، منهم "سيداي تيرج وصالح حيدو، عمر لاله وكذلك حيدر عمر وعبد المجيد شيخو وروخاش زيفار وحامد بدرخان بالإضافة لديرسم ممو ومروان بركات".
وكانت القلعة مكاناً لاصطياف الأهالي للترويح عن أنفسهم والاستمتاع بالطبيعة الخلابة، ومقصداً للسياح من دول عدة للتعرف على آثارها العريقة القدم، ومع اندلاع ثورة روج آفا في عام 2012 وبإعلان من الإدارة الذاتية الديمقراطية عملت مديرية الآثار في مقاطعة عفرين بشكل حثيث لحماية المواقع والأماكن الأثرية من الدمار، وسعت لتوثيقها بمعلومات تاريخية، للحفاظ على تاريخها من الزوال.