سور الرقة الأثري مرآة تعكس حضارة المدينة العريقة
لسور الرقة قيمة أثرية ومعمارية لا تقدر بثمن، فهي نموذج متميز قاوم كل عاتيات الزمن، وبقي محافظاً على شكله رغم كل ما تعرض له، ويعتبر أرث ثقافي هام، يروي صفحة مهمة من تاريخ الإنسان على مدى العصور.
يسرى الأحمد
الرقة ـ تركت الحضارات القديمة خلفها العديدة من المواقع الأثرية التي بقيت شاهدة على تلك العصور، ولا تكاد تخلو بقعة جغرافية في مقاطعة الرقة بإقليم شمال وشرق سوريا من آثار قديمة باقية كشاهدة عيان على من سكنها وبناها.
تشتهر مقاطعة الرقة بالعديد من المواقع الأثرية كقصر البنات والمتحف الأثري والسور الذي يتميز بشكله الهندسي وجماله المعماري الملفت ويعتبر مرآة تعكس تاريخ وحضارة المدينة.
يقع سور الرقة الأثري شرقي مركز المدينة، الذي بني في عصر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور في القرن الثامن الميلادي سنة 155هجري و772 ميلادي مع بداية بناء مدينة الرقة، يبلغ طوله نحو خمسة كيلومترات، يوجد بجانبه باب بغداد الأثري الذي بني مع السور، وقصر البنات الذي أقام فيه الخليفة العباسي هارون الرشيد لسنوات.
ويقع على تقاطع طرق القوافل الهامة عند التقاء نهري الفرات والبليخ، ويعد من أهم وأقدم المعالم التاريخية، ولا يزال يحافظ على شكله وتاريخه، ويصل قطر السور المحيط بالمدينة إلى 1300متر، ويبلغ طوله قرابة 5 كم ومع مرور الزمن وبفعل العوامل الطبيعية والبشرية أصبح طوله 3 ونصف كم مربع، ويحصر داخله مساحة تصل لـ 1.47 كم مربع، وجاء شكله الهندسي على شكل حدوة حصان، حيث يلف المدينة من الجهات الشرقية والشمالية وصولاً إلى الجهة الغربية، ويبلغ ارتفاعه الأساسي ما بين 18 ـ12ـ 9 أمتار، حسب طبوغرافيا الأرض، وعرضه 6 أمتار، ويبلغ عرضه في الأعلى 5.90 متر، وفي الأسفل 5.95 متراً.
وتأسس السور على قاعدة حجرية مبينة من اللبن النيئ ولُبس بطبقة آجر من كل جهة، ويتكأ على السور مجموعة من الأبراج يبلغ عددها 83 برجاً مستديراً موزعة بانتظام على كامل السور تفصل بينهما مسافة تتراوح بين 26.6 ـ 28 م، شكلها نصف دائري تختلف مقاساتها، وقطر الواحد منها يبلغ 15ـ 16 متراً وعمقها 5.32 متراً.
ويضم السور ثلاثة مداخل وهي بوابة الجنان التي تقع في الجهة الجنوبية الغربية للمدينة، وسميت بذلك نسبة لوقوعها أمام نهر الفرات، وقد أزيلت البوابة في أواخر القرن التاسع عشر، وبوابة باب بغداد الواقعة في الزاوية الجنوبية الشرقية للمدينة وهي متناظرة لها وتعتبر تسمية حديثة "لباب السيبال" التي شيدت من مادة الآجر المشوي ضمن السور الخارجي للمدنية.
أما بوابة الرها الواقعة في أقصى الشمال تختلف عن البوابتين "الجنان" و"باب بغداد" من حيث مادة البناء فهي مبينة من الصخر وتتألف من طابقين وقد أزيلت في فترة سيطرة داعش، وبني السور من مادة اللبن ولُبس السور من الداخل والخارج بمادة الطين المحروق، كما أن للسور أهمية عسكرية ودفاعية كبيرة، حيث كان يستخدم كقاعدة وحصن عسكري للحماية من الهجمات الخارجية من الدول البيزنطية.
ويقسم السور إلى قسمين القسم السفلي يضم ممر كبير مسقوف بقبوة وفتحتين مغلقتين، أما القسم العلوي يصل ارتفاعه إلى 4.4 متر، وهذا القسم مزخرف بمقرصنات ثلاثية الفصوص وإطارات لها دعائم كثيفة وأقواس مقلوبة وجميعها ترتكز على أعمدة متضمنة في الجدران، ولم يبقى من المقرنصات الإحدى عشر سوى ثمانية في حالة فنية مميزة ولا تزال محافظة على شكلها المعماري الفريد.
وكان السبب وراء بناء هذا السور من هذه المواد السالفة الذكر، هو أن مدينة الرقة شبه صحراوية، لذلك فإن مادتي اللبن المجفف والآجر المحروق بالإمكان تصنيعها بسهولة ويسر، وتعتبر هذه المواد الإنشائية، مواد بيئية وملائمة للحرارة والبرودة أكثر من غيرها.
ومن حيث الشكل الجمالي تميز السور بأنه من أجمل المنشآت المعمارية الدائرية الشكل والمتناسقة، وهو نوع فريد من الطراز المعماري المتبقي من العمارة العربية الإسلامية، تزينه مجموعة من الأبراج النصف دائرية، ويعتبر بشهادة علماء الآثار النموذج الأمثل لطراز العمارة العباسية.
وفي عام 1986 تم ترشيح سور الرقة الأثري لنيل جائزة "ميلينا ميركوري" من قبل اللجنة الوطنية "لليونسكو" لاعتبار الرقة المدينة الوحيدة التي حافظت على مثل هذا السور الدائري الشكل في العالم، وقد نالت جائزة منظمة المدن العربية للحفاظ على الآثار والترا في العالم.
وتم تنقيب السور في زمن هارون الرشيد وكان آخر تنقيب له في عام 1998 من قبل حكومة دمشق، وتعرض السور للعديد من التصدعات بسبب أعمال الحفريات والهزات الأرضية وعوامل الطبيعة والحروب التي شهدتها المنطقة وفي هذا الصدد كان هنالك مساعي حثيثة من قبل لجنة الآثار في الإدارة الذاتية الديمقراطية لمقاطعة الرقة بهدف المحافظة عليه من الاندثار، وكان أبرزها حملة التنقيب التي أطلقتها هيئة الآثار والثقافة لترميم الأجزاء التي تضررت وتدمرت إبان سيطرة مرتزقة داعش الذي استخدمه كحصن أثناء حملة تحرير الرقة، إضافةً إلى تدمير أجزاء منه وتخريبها ووضع الألغام ضمن السور مما أدى إلى تدمير بنيته التحتية وتدمير بعض أجزائه.