بعد سنتين من الركود بسبب الجائحة... الحياة تعود لساحة جامع الفنا بمراكش

صنفت ساحة جامع الفنا في مدينة مراكش بالمغرب كتراث شفوي للإنسانية من قبل منظمة اليونسكو سنة 2001 وجاء ذلك أساساً بفضل الفرجة التي تقدمها الساحة لزوارها.

رجاء خيرات

مراكش ـ تعد ساحة جامع الفنا القلب النابض لمدينة مراكش المغربية، بعد سنتين من الركود بسبب الجائحة تستعيد الساحة المصنفة عالمياً كتراث شفهي لا مادي للإنسانية عافيتها وتعود لها الحياة من جديد.

يعود تاريخ ساحة جامع الفنا لفترة تأسيس مدينة مراكش نفسها على يد الدولة المرابطية قبل عشرة قرون، حيث تعد واحدة من المعالم التاريخية المهمة للمدينة، وتقع وسط المدينة العتيقة، ولا يمكن لزوار مراكش أن يفوتوا فرصة زيارتها والاستمتاع بطقوس الفرجة في أرجائها، خاصةً مروضو الأفاعي والقردة ونقاشات الحناء والحكواتيون والفرق الموسيقية الشعبية. في جنباتها اصطف بائعو العصائر وأصحاب المأكولات ومحلات البازار.

 

سنتان من الركود

عاشت ساحة جامع الفنا محنة حقيقية بسبب ظروف الجائحة، حيث تعد السياحة الرئة التي تضخ الهواء فيها، وهو ما جعل الحياة شبه متوقفة خلال السنتين الأخيرتين. فأغلب المحلات التجارية مغلقة ومروضو الأفاعي والقردة والحكواتيون والفرق الموسيقية الشعبية اختفوا فجأة، وشلت الحركة داخلها، حتى أضحت مكاناً مهجوراً بعد أن كانت تعج بالسياح الأجانب والمغاربة في حركة دؤوبة لا تنتهي ليل نهار.  

عن هذه المحنة التي عاشتها ساحة جامع الفنا تقول مريم أمال رئيسة جمعية حرفيي الحلقة للفرجة والتراث وجميع الفنون "عشنا محنة قاسية جداً بسبب الجائحة. العديد من الحكواتيين ورواد الفرجة بساحة جامع الفنا أصبحوا عاطلين عن العمل ولم يتمكنوا من توفير لقمة العيش".  

بالإضافة لكونها رئيسة جمعية حرفيي الحلقة فإن مريم أمال رئيسة فرقة "الغيوان" التي تؤدي أغاني الفرقة الشعبية المغربية "ناس الغيوان" بساحة جامع الفنا في الفترة المسائية بعد أن تغرب الشمس الحارقة ويرخي الليل ستاره فاسحاً المجال للبحث عن الفرجة والترفيه. وتعمل هذه الفرقة على إحياء التراث الغنائي، وقد ازدهرت في فترة السبعينيات من القرن الماضي وذاع صيتها سواء داخل المغرب أو خارجه، وهي الحلقة التي تستقطب العديد من الزوار.

بعد انتهاء العروض ينتظر رواد الحلقة أن يقدم لهم الزوار بعض الدراهم التي يعتمدون عليها في كسب عيشهم، كما تبين مريم أمال بحسرة أن "أغلبنا لم يجد ما يطعم به أبناءه، باستثناء التفاتة بعض الأشخاص المعروفين بولعهم وحبهم لساحة جامع الفنا الذين خصصوا لرواد الفرجة مساعدات غذائية، بالإضافة إلى التعويض البسيط الذي منحته الجهات المسؤولة وأغلبنا لم تطله، فإن الغالبية العظمى عاشت فترة قاسية بسبب توقف الفرجة بساحة جامع الفنا".  

وانتقدت مريم أمال بشدة تقلص مساحة الفرجة بالساحة لفائدة البائعين المتجولين وبائعي العصائر وأصحاب المأكولات ونقاشات الحناء، بعد أن عادت الحياة من جديد للساحة، حيث أصبح الطابع التجاري هو الغالب، علماً أن تصنيف ساحة جامع الفنا كتراث شفوي للإنسانية من قبل منظمة اليونسكو سنة 2001 جاء أساساً بفضل الفرجة التي تقدمها الساحة لزوارها.

وأضافت أن مقدمي "الحلقة" في الساحة هم القلب النابض فيها وبفضل العروض التي يقدمونها بشكل يومي في الساحة يتم جلب السياح الأجانب والمغاربة على حد سواء، إلا أنهم على الرغم من ذلك يعانون في صمت ولا من أحد يلتفت إليهم، علماً أن بعضهم لديه "بطاقة فنان"، لكنهم لا يستفيدون من أية امتيازات في غياب تعويضات المعاش والتغطية الصحية. 

 

مصدر للإلهام

شكلت ساحة جامع الفنا مصدر إلهام للعديد من الكتاب والفنانين الذين اتخذوا من مشاهدها موضوعات لكتاباتهم ولوحاتهم الفنية، بل إن منهم من استقر بجوارها بالمدينة العتيقة، مثل الكاتب الإسباني خوان غويتيسولو الذي استقر به المقام بها منذ السبعينات من القرن الماضي وخصها بكتابات متعددة في أشهر الصحف والمجلات العالمية. وحتى خلال فترة الجائحة فإن بعض الفنانين الفوتوغرافيين فكروا في تصوير ساحة جامع الفنا، مثل الفنان الفوتوغرافي نور الدين التلغساني الذي سبق و أن نظم معرضاً لصور التقطها لساحة جامع الفنا أيام الجائحة، وهو المعرض الذي احتضنته مؤسسة دار بلارج لرعاية الثقافة و التراث في شهر نوفمبر من السنة الماضية (2021)، و تعود فكرة تنظيم هذا المعرض لأولى أيام فترة الحجر الصحي، عندما كانت شوارع وأزقة مراكش مقفرة ومهجورة، بسبب فرض حالة الطوارئ الصحية، وهو الأمر الذي تفتقت عنه ملكات الإلهام والإبداع لدى الفنان نور الدين التلسغاني لإنتاج أعمال مميزة تؤرخ لهذه المرحلة العصيبة.

وقد كتب العديد المغاربة والأجانب عن الساحة التي انبهروا بسحرها وأجوائها التي لا يعرف تحديداً كيف ابتدأت الفرجة بها بالشكل العفوي والتلقائي دون سابق تخطيط.  

 

عودة الحياة

بنبرة تفاؤلية أشارت حنان شرفان وهي مرشدة سياحية لما يزيد عن عشرين سنة أن الساحة بدأت تتعافى تدريجياً، بعد مرور فترة الجائحة التي وصفتها بالقاسية، والتي أثرت بشكل ملحوظ على السياحة التي تعد المصدر الوحيد لعيش العديد من ساكنة المدينة الحمراء مراكش.

وقالت "يجب أن نعترف بأننا لسنا الوحيدين الذين عانينا في فترة الجائحة، فالعالم أجمع مر بفترة قاسية أثرت على الاقتصاد بشكل ملحوظ، وشلت العديد من القطاعات الحيوية التي ارتبطت في مجملها بتنقل الناس ببلدانهم وعبر العالم".

ترافق حنان شرفان السياح الأجانب في جولات عبر المدينة، وتحتل ساحة جامع الفنا الجزء الأكبر من هذه الجولات، حيث لا يمكن للسائح الذي جاء لقضاء عطلته بالمدينة الحمراء ألا يزور هذه الساحة ويقتني بعض التذكارات والملابس التقليدية والحلي وقطع الديكور من محلات "البازار" الممتدة عبر جنبات الساحة.

قطاع السياحة كغيره من القطاعات الأخرى نال النصيب الأكبر من الضرر، بكل ممتهنيه خاصة المرشدين السياحيين وسائقو النقل السياحي وأرباب الفنادق والمطاعم. لكن، وعلى الرغم من ذلك، أبدت المرشدة السياحية تفاؤلاً كبيراً، معتبرةً أن الأزمة التي يبدو أنها لازالت ترخي بظلالها، هي بسبب السياح أنفسهم الذين عانوا بدورها من الأزمة والتي أثرت بشكل كبير على قدرتهم الشرائية، حيث يكتفي أغلبهم باقتناء أشياء بسيطة لا تكلف الكثير.

الحياة الثقافية بدورها عادت من جديد لمراكش التي أضحت قبلة لتنظيم العديد من التظاهرات الثقافية والفنية والمهرجانات التي كانت قد توقفت لمدة سنتين، قبل أن تستأنف أنشطتها من جديد، وهو ما لاقى استحسان العديد من مثقفي المدينة الذين ما لبثوا يدقون ناقوس الخطر حول ما آلت إليه الساحة، مطالبين بإعادة الاعتبار للجانب الفرجوي الذي لا يستقيم وجود الساعة في غيابه.