'بالمسرح نواجه المجتمع الذكوري وندعم حقوق النساء'

طالما ظل طرح قضية المرأة في المسرح التونسي ثانوياً ومحصوراً في إطار بعض المشاكل الزوجية والأسرية وتعاملها القاصر إزاء العديد من المشاكل، وبرغم وجود عشرات المسرحيات لم تتسع خشبة المسرح إلا حديثاً لقضايا جوهرية ودورها الفاعل في المجتمع

زهور المشرقي
تونس ـ ، على غرار الحريات والحقوق التي باتت مهددة في مجتمع ذكوري لايزال قطاع واسع فيه يختصر دور النساء في الواجبات الأسرية والمنزلية وفي الإنجاب والجنس.
يبدو أن توظيف المسرح لتلك القضايا الأساسية يتطلب نضالاً وعملية اقتحام جريئة من قبل المرأة لتوعية المجتمع بأهمية توازنه عبر تحقيق المساواة التامة بين الجنسين وترسيخ صورة المرأة القيادية القوية والمبدعة حتى يتم القطع مع تلك الصورة النمطية والموروث المجتمعي السائد الذي يرسم المرأة في صورة الكائن المسكين الضعيف.
ومؤخراً وجدت الممثلة التونسية ليلى طوبال، في مسرحية "ياقوتة" مساحة للتطرق إلى القضايا النسوية في مسيرتهن الوعرة للحصول على حقوقهن وتحقيق حرياتهن، وقبلها طرح المخرج سامي النصري عبر مسرحية "دازين" قضية علاقة المرأة بالمجتمع، التي لازالت محل جدل ونقاش وأطروحات مختلفة بين الرؤية الثقافية العامة للمجتمع وبين تصورات الحياة المعاصرة وآفاق تحرر المرأة وتطور مكانتها.
 
المرأة حاضرة في المسرح منذ القرن الماضي ولكن... 
تقول الممثلة المسرحية التونسية غفران السيّاري في حديث مع وكالتنا، إن المرأة التونسية كانت ولا تزال عنصراً حاضراً في الحركة المسرحية التونسية منذ 1910 حين تم إطلاق أوّل جمعية مسرحية تونسية ترأسها آنذاك علي عبد الوهاب، لتتأسس 1928 أول فرقة مسر حية ترأستها الفنانة فضيلة ختمي، كما حرصت المغنية والممثلة شافية رشدي على تلقي تكوين في ميدان الفن الرابع لتساهم في توسيع مشاركة المرأة في المسرح، في فترة كان ولوج النساء في مجال الفن تعترضه صعوبات بسبب تلك العقليات.
وأشارت إلى أنه في عام 1959 أسّس المنصف شرف الدين فرقة "المسرح الحديث" وأفسح المجال أمام المرأة لتفجر طاقاتها، وقدّمت مسرحيتين نسويتين "عيطة وشهود" و"مدرسة الأزواج".
وأوضحت أن المخرج المسرحي علي بن عياد كان بدوره مصراً على حضور المرأة ما أحدث منعرجاً كبيراً في تاريخ المسرح بعد أن أخرج عدة أعمال نسوية من بينها "مدرسة النساء" و"عطيل" و"الماريشال" و"البخيل".
واستطردت المسرحية التونسية قائلةً "منذ ذلك الحين تعددت التجارب النسائية وبرزت جليلة بكّار ورجاء بن عمار وناجية الورغي وزهيرة بن عمّار (سنديانة) ووجيهة الجندوبي (مدام كنزة) وليلى الشابّي (راجل في حمام النساء)، وفاطمة بن سعيدان ومنى نور الدين وخديجة السويسي ودلندة عبدو وخديجة بن عرفة وعزيزة بولبيار وسلوى محمد وآمال سفطة ودليلة المفتاحي ولطيفة القفصي ونعيمة الجاني (علّمني)، ووفاء الطبوبي (الأرامل) وليلى طوبال (حورية)... هذا السرد يبرهن على أن المرأة حديثاً أصبحت عنصراً فعّالاً على الخشبة، فضلاً عن أن جل أعمال المونودراما نسائية".
 
صورة المرأة في صراع دائم مع المجتمع الذكوري
وتعتبر غفران السيّاري أن صورة المرأة في المسرح تتمحور في صراعها الدائم مع المجتمع الذكوري مثل صورة المرأة المطلقة أو المرأة التي سبق لها الزواج أكثر من مرة، والنظرة الدونية من قبل المجتمع، إضافةً إلى صورة المرأة الأم المتأثرة أو الخاضعة للفكر الذكوري، والفجوة الفكرية والثقافية.
وبيّنت أن التوظيف الدرامي لجسد المرأة منقسم إلى قسمين، حيث قدم البعض جسدها بشكل مباشر وآخر بشكل غير مباشر كاعتبارها تعاني من نظرة شهوانية وتم توظيفها كصراع درامي مع الذكور في احتمالية التعرض للتحرش أو الاغتصاب .
ولاحظت الممثلة التونسية أنه بعد ثورة 2011 باتت الأعمال التلفزيونية والإعلام عموماً تسعى إلى تقديم المرأة في صورة مبتذلة في شكل سلعة جسدية سطحية مائعة، ويتم التطبيع مع ثقافة العنف في التلفزيون ليحقق نسب هائلة من المشاهدة، باستثناء قلة من المخرجين الذين قطعوا مع تلك الصورة النمطية وحادوا عن الابتذال الذي يقدم المرأة كشخص مقيد، أُمي ومسكين. 
ولفتت إلى أهمية حضور النساء في المسرح لاعتبارها قادرة على الدفاع عن العديد من القضايا والتلاعب بتكنيك  السرد والحكي داخل الحوار الدرامي بالرقص والموسيقى والغناء ومختلف التعابير الجسمانية التي تتفوق في  تقمصها.
من جانبها تقول المختصة في علم الاجتماع والناشطة النسوية والمسرحية سماح مصباح، التي بدأت حديثها بالتطرق إلى صورة المرأة التونسية في المسرح وأهمية معالجة الأخير القضايا النسوية "أعطني مسرحاً، أعطك ساحة وغى ملؤها نساء ثائرات"، مشيرةً إلى الحضور القوي والمؤثر للمرأة التونسية في الحركة المسرحية، كرائدة جديرة بالتقدير مثل جليلة بكّار وفاطمة بن سعيدان ودليلة المفتاحي وزهيرة بن عمار وصباح بوزويتة، وغيرهن الكثيرات اللواتي  استطعن أن يتحررن من قيود المجتمع الذكوري، وأن يتألّقن في المجال المسرحي لما له من قدرة على الجمع بين العديد من الفنون من رقص وغناء وعزف ورسم وشعر.
وأكدت على أن النساء قطعن أشواطاً كبيرة من أجل تحقيق إنسانيتهن في مجتمع بطرياركي متسلط وإن وجدت استثناءات وافتكاك حقوقها وضمان حرياتها كإنسان.
وتنوه سماح مصباح إلى أنه إذا عاد المرء بالذاكرة واسترجع عدة أعمال مسرحية سيجد أن للنساء فيها حضور كبير، "نستذكر على سبيل المثال لا الحصر دور "دوجة" في مسرحية "المارشال عمار" سنة 1967 والذي أدته منى نور الدين، "دوجة" المرأة العاقلة القوية التي لا تكف عن الإدلاء بآرائها، والتمسك بها والدفاع عنها أمام زوجها بالرغم من مكانتها في المجتمع آنذاك، نذكر كذلك أدوار الممثلة القديرة لطيفة القفصي في إبداعها بفرقة مسرح الجنوب بقفصة في مسرحية "جواب مسوقر" (رسالة مضمونة الوصول)، والتي تدور أحداثه حول امرأة ذكية اكتشفت خدعة الزائر "معز" الذي قدم نفسه على أنه مسؤول مهم في البلاد، وقد تمكن من خداع جميع الرجال الذين قابلهم إلا صاحبة الفندق "محرزية" التي كشفت ألاعيبه وواجهته بحقيقته بكل شجاعة". 
واشتهرت لطيفة القفصي كذلك بدورها في مسرحية "حَمّة الجريدي" لعام 1974، والتي قد تشجعت مع باقي الرجال لمقابلة باي تونس وواجهت "بلقاسم الأعور" وتحدته ورفضت رفضاً شديداً بيع أملاكها له. قدمت من خلال الأدوار التي تقمصتها صورة المرأة رمز العفة، الذكاء، القوة، الشجاعة والجرأة، صورة المرأة القادرة على المشاركة في الحياة السياسية.
نستنتج من هذا العرض البسيط للأدوار النسائية المسرحية في القرن الماضي في تونس، أنه بالرغم من قلة حضور العنصر النسائي آنذاك على خشبة المسرح إلا أن المبدعات ناضلن من أجل تقديم صورة جديدة مختلفة عن الصورة التقليدية النمطية للمرأة في الواقع، وكان في اعتلائهن الخشبةَ دعوة إلى التغيير والتجديد، ورغبة في كسر الحدود والقيود المجتمعية البالية. 
 
حضور استثنائي
وبخصوص مدى حضور المرأة في المسرح، تقول سماح مصباح "أصبحنا نرى حضوراً مميزاً وكبيراً للعنصر النسوئي في جل الأعمال والعروض المسرحية في كل المؤسسات المخصصة في أغلب الولايات، ومن جميع الفئات العمرية، نذكر وجيهة الجندوبي في عملها المسرحي "البيق بوسا" الذي استطاعت من خلاله وبطابع ساخر أن تعري الواقع السياسي، وتتناول مسائل اجتماعية من بينها الفرق الشاسع بين الطبقات الاجتماعية في تونس والبيروقراطية، إضافةً إلى طرح قضية الجسد الأنثوي في المجتمع".
وأضافت "طبعاً لا يمكننا أن نمر دون ذكر الإبداع المسرحي لليلى طوبال في مسرحية "سلوان" لعام 2015، أو كما أسمتها "مزيج من الموت والعشق والنسيان"، والتي تحدثت فيها عن الآلام التي عانتها تونس في تلك الفترة وعن المسيرة النضالية النسائية، ثم مسرحية "حورية" سنة 2017، والتي حاولت فيها ليلى طوبال كالعادة الدفاع عن حقوق المرأة وحريتها ومكتسباتها، ورفض الإرهاب والتشدد الديني والخطاب التكفيري، ثم في بداية هذه السنة، مسرحية "ياقوتة" التي قدمتها بفضاء التياترو ومونودراما، إهداء إلى روح والدها والناشطتين لينا بن مهنّي وزينب فرحات، وقد جسدت فيها معاناة المرأة وعرّجت على نماذج عديدة من النساء اللواتي ظلت حقوقهن مهضومة إلى يومنا هذا ويتعرضن لشتى أنواع العنف باسم الأخلاق وباسم الدين خاصةً".
وتعود سماح مصباح إلى فكرة أن اعتلاء العنصر النسائي خشبة المسرح في سنوات مضت كان في حد ذاته نضالاً، كما أوضحت ذلك الفنانة لطيفة القفصي في عدة تصريحات إذاعية ومقابلات تلفزيونية.
ولوحظ أن النساء أقبلن على تأدية الأدوار الذكورية المركبة غير مباليات بالمقاييس المجتمعية للجمال والأنوثة، فيرتدين ثياب الذكور ويغيرن أصواتهن وملامح وجوههن حسب الشخصيات، بعد أن كان الرجال يتقمصون أدوار نساء حين كان حضور المرأة محدوداً بفعل العقلية المجتمعية التي كانت سائدة. 
وترى سماح مصباح أن هناك مساعي حقيقة لطرح صورة المرأة كما هو الواقع والعمل على معالجة مختلف القضايا التي تخص النساء لتغيير الصور النمطية التي ظلت عقوداً تروج لتصغير دور النساء وإقصائهن وتصويرهن كعالة على المجتمع.
بدورها ترى أستاذة المسرح هدي العيساوي، أنه منذ نشأة المسرح في تونس وفي الدول العربية كان حضور المرأة محتشماً جداً إن لم يكن منعدماً، إلا أن المرأة لم تقف مكتوفة اليدين بل بدأت تفتك مكانتها في المجتمع والذي بدأ بالتعليم ثم الدخول إلى كافة ميادين العمل شيئاً فشيئاً.
وأوضحت هدي العيساوي أن المسرح تناول جملة من القضايا لعل المرأة كانت أهم محاورها وما تتعرض له من عنف واحتقار وسوء معاملة ونظرة دونية في المجتمع باعتبار أن الرجل يعتبر نفسه كائناً مميزاً، ولعل أبرز القضايا التي تم التطرق إليها في عدة أعمال هي الاغتصاب والاستغلال الجنسي، وحرية النساء في تقرير مصيرهن سواء في العمل أو في اختيار شريك الحياة، والمساواة بينها وبين الرجل.
واعتبرت أن حضور المرأة اليوم في المسرح التونسي يعتبر مكسباً، فقد نجحت في التعبير عن مشاكلها وطموحاتها وطرحت طرق معالجة العديد من المشاكل الاجتماعية، مؤكدةً أن المرأة نجحت في إثبات مكانتها في المسرح التونسي كما اتخذت منه وسيلة لإيصال صوتها ومقاومة النظرة المجتمعية الدونية.
من جانبها أكدت الصحفية حنان مبروك، أن حضور المرأة وقضاياها في المسرح التونسي بات واضحاً منذ عقود، فالأعمال المسرحية التونسية على اختلافها تخصص جانباً كبيراً من أطروحتها الفكرية لمناقشة مشكلات المجتمع المتعلقة بالنساء، وأحياناً قد تكون المسرحية مخصصة بالكامل لمناقشة تلك القضايا انتصاراً للمرأة.
وفي حال ألقى أي باحث نظرة شاملة على الأعمال المسرحية في السنوات العشر الأخيرة، بالإمكان أن يلاحظ أن أغلب القضايا التي طرحت وجدت لها صدى إيجابياً، بدءاً بالحقوق والحريات التي تمس القاصرات (خادمات منازل، ختان البنات، زواج القاصرات، اللامساواة في التربية بين البنات والأولاد، التربية على منهج ذكوري، توجيه الطفلة حسب العيب والحرام في المجتمعات)، وصولاً إلى الحقوق التي تطالب بها النساء كحقهن في العمل وحرية اللباس والانتماء الفكري والهوية الجنسية والمساواة مع الرجل في كل دروب الحياة، هي كلها قضايا عبرت عنها النساء في الشارع، وعبرت عنها المرأة بصفتها ممثلة مسرحية فوق خشبة المسرح.
واستحضرت حنان مبروك أسماء كثيرة من التونسيات اللواتي رفعن راية الدفاع عن المرأة والانتصار لها عالياً في مسيرتهن المسرحية ومنهن دليلة مفتاحي التي قدمت مسرحية "قمرة 14"، ووفاء الطبوبي التي قدمت مسرحية "الأرامل"، وجليلة بكار، وزينب فرحات، ووجيهة الجندوبي.
وقالت حنان مبروك في ختام حديثها "يمكن اعتبار المسرح التونسي رائداً على المستوى العربي في طرحه لقضايا المرأة، ويحظى أيضاً باهتمام مسارح عالمية ضمن شراكات مسرحية تدعم حضور المرأة في الفن الرابع وتراهن على أن هذا الفن بإمكانه المساهمة في حركة التغيير المجتمعي وتمكين المرأة أكثر".