مسيرة تحرر المرأة التونسية

لم تكن قضية تحرير المرأة في المجتمع التونسي وليدة دولة الاستقلال فحسب، بل شهدت طوال القرن الماضي صراعا سياسياً وفكرياً

زهور المشرقي
تونس ـ بين ثلاث مدارس فكرية: المدرسة الإسلامية التقليدية التي سعت إلى الحفاظ على المكانة الدونية للمرأة على مستوى قوانين الأحوال الشخصية وفي المجال الاجتماعي والمهني، وكان من روادها شيوخ الزيتونة أمثال محمد الصالح بن مراد، ومحمد الطاهر بن عاشور ومحمد عبد العزيز جعيط.  
أما  التيار الثاني فكان يمثله التوجه الليبيرالي في تقليد الغرب ونهض بتلك المهمة قادة الحزب الدستوري وفي مقدمتهم الحبيب بورقيبة أول رئيس للجمهورية التونسية، في حين برز التيار الثالث المنادي بتحرير المرأة العربية عموماً كجزء من تحرير الوطن العربي وتحقيق العدالة الاجتماعية، وبرز ضمن هذا التيار الطاهر الحدّاد الذي كان مناضلاً نقابياً يؤمن بأن لا صحوة للمجتمع بدون تحرير المرأة، وقد كان لكتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" أثر كبير في بعث هذه الصحوة، إلا أن كتابه هذا الذي نُشر سنة 1930 قوبل بحملة تشهير قادها بصفة خاصة شيوخ جامع الزيتونة  والباي نفسه في تلك الفترة  إلى درجة تكفير الحدّاد و التضييق عليه على كافة المستويات بما في ذلك حرمانه من العمل والمس بسلامته الجسدية والمعنوية باسم "الدفاع عن الإسلام والشخصية التونسية".   
وقد تم إنشاء أول منظمة نسائية "الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي" في عام 1936، وكانت على رأسها رائدة الحركة النسوية في تونس بشيرة بن مراد، لتعزيز رؤية تحرير المرأة التي نادى بها الطاهر الحدّاد. 
كما وجدت فكرة تعزيز مشاركة المرأة السياسية ودعم تحررها تشجيعاً واسعاً من قبل بعض المتنورين، من أمثال الأديب والمؤرخ حسن حسني عبد الوهاب، والسياسي عبد العزيز الثعالبي والأديب الهادي العبيدي.
هذا التأطير من قبل هؤلاء المصلحين شجع النساء على المشاركة في الحركة الوطنية والانخراط في النضال ضد الاستعمار الفرنسي، وتعاونت الناشطات مع الأحزاب الدستورية والقومية. 
وقد شاركت النساء في حركة عام 1952 التحريرية، وتعرض آنذاك عدد منهن للعنف الاستعماري والاغتصاب والقتل والإيذاء.
وتميزت فترة ما بعد الاستقلال حتى عام 1987 بوضع أسس الدولة العصريّة وبناء المجتمع الحديث وضمان الارتقاء بأوضاع المرأة، وكان صدور "مجلّة الأحوال الشخصيّة" وهي مجموعة من التشريعات الرامية لتحقيق المساواة بين الجنسين في الثالث عشر من آب/أغسطس عام1956، تتويجا للحركة الإصلاحيّة وضمانا قانونيّاً للحقوق الأساسيّة للمرأة وتنظيم العلاقات داخل الأسرة.
مُنحت المرأة التونسية حق التصويت في عام 1957. ثم جاء الدستور في الأول من حزيران/يونيو 1959 ليكرس مبدأ المساواة بين المرأة والرّجل، وتتالت التشريعات التي تمنح المرأة حقوقاً في التعليم والعمل.   
وتم تأسيس الاتحاد القومي النسائي التونسي ثم تغير اسمه إلى الاتحاد الوطني للمرأة التونسية 1956 من قبل عدد من المناضلات الدستوريات أمثال فتحية مزالي وراضية الحداد وسعيدة بوزقرو ساسي وشقيقتها شادية. كما صادقت تونس على الاتفاقيات الدوليّة المتصلة بحقوق المرأة. 
ودفعت التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية في السبعينيات إلى خلق وعي لدى عاملات النسيج والمثقفات والطالبات والجامعيّات والانضمام إلى مختلف الهياكل النقابيّة بهدف الدّفاع عن حقوقهنّ ورفض الاستغلال. 
وبعد انقلاب السابع من تشرين الثاني/نوفمبر 1987 الذي قاده رئيس الوزراء آنذاك، زين العابدين بن علي، استعمل النظام قضية المرأة ومكتسباتها كأصل تجاري للترويج له بافتعال احتفاليات تمجد مكاسب المرأة بمناسبة وبدون مناسبة في حين كانت مناضلات الحركات الديمقراطية والتقدمية والنقابية يتعرّضن لشتى أنواع التعذيب والتنكيل والتجاوزات. 
وجاءت أحداث ما سمي بـ "الربيع العربي" الذي قفزت من خلاله جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة لتشهد البلاد موجة من الفكر الظلامي والدعوات إلى التراجع عن مكاسب الدولة المدنية الحديثة وفي مقدمتها حرية المرأة، فكان استبسال النساء والمدافعين عن الحداثة في المجتمع العامل الأساسي في إفشال تلك الموجة، حيث أقر دستور الجمهورية الثانية، خاصّة في الفصل 21 والذي نص على أن "المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات وهم سواء أمام القانون من غير تمييز" والفصل 46 ونص على أن الدولة "تلتزم بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة وتعمل على دعمها وتطويرها". وهكذا ضمن الدستور المساواة بين المواطنين والمواطنات، كما نص القانون الانتخابي على مبدأ التناصف العمودي والأفقي في القوائم الانتخابية. 
وصدرت العديد القوانين المدعمة لمكتسبات المرأة وحريتها، وأخرى متعلقة بالقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، إلا أن هذه المسيرة التحررية الطويلة لا تزال تشوبها عقبات وعراقيل عديدة من عنف مسلط على النساء واستغلال اقتصادي وجنسي، في مجتمع لاتزال تتجاذبه أفكار التطرف واستغلال الدين، فالنصوص وحدها لا تكفي إذا لم يصاحبها تطبيق القوانين بصفة رادعة وما لم يواكبها ارتقاء للوعي داخل المجتمع.