حفيظة شقير: هناك مدّ رجعي وعقلية جديدة تسعى لتحميل النساء مسؤولية الأزمات التي تعيشها تونس (1)
ظهرت الحركات التحررية المناصرة لقضايا النساء في تونس بعد الاستقلال مستفيدةً من الموروث الفكري لتكريس المساواة وجعلها من أهداف دولة الاستقلال الحديثة
زهور المشرقي
تونس ـ ، لتنطلق تونس في مسارها الإصلاحي الذي كان محاطاً بالعراقيل والصعوبات.
تقول الدكتورة حفيظة شقير، أشهر النسويات التونسيات وأقدمهن وأشرسهن في الدفاع عن حقوق النساء، وهي المختصة في القانون وتنشط ضمن مؤسسات الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات ومن قائدات الحركة النسوية بتونس، في حوار مع وكالتنا وكالة أنباء المرأة، إن تحرير المرأة يتطلب توحيد الجهود، مشددةً على خطورة العقلية الذكورية التي ترى في المرأة مكمّلاً غير مهم.
أعلنتن كنساء في 30آب/أغسطس الماضي عن الديناميكية النسوية للدفاع عن حقوق النساء... باعتباركم الناطقة الرسمية باسمها، لو تحدثوننا عن هذا المولود وأهدافه وما ترمون إلى تحقيقه؟
نحن مجموعة من منظمات المجتمع المدني غير حكومية، برهن انخراط النساء في التحركات الشعبية بكثافة في كل الجهات وفي مختلف المحطات جنباً إلى جنب مع الحركات الشبابية الاحتجاجية المناهضة لمنظومة الحكم التي حادت بمسار ثورة الحرية والكرامة (17كانون الأول/ديسمبر 2010 ـ 14كانون الثاني/يناير 2011)، على مدى رفض النساء التونسيات لرداءة منظومة الحكم والقائمين عليها، وما اختيارهن نهجَ النضال والمقاومة إلاّ دليل على أن قوى التغيير الحقيقية والفاعلة في بلادنا هي النساء والشباب الذين همشتهم منظومة حكم رجعية ذكورية فاسدة معادية للحقوق والحريات وينعدم لديها الحس الوطني الاجتماعي والتضامني.
نحن نؤكد مجدداً على أن المطالبة بالعيش الكريم وحماية الحقوق والحريات حق شرعي دستوري، ونؤكد أن من يقف في طليعة التغيير الحقيقي في بلادنا هن أساساً النساء الثائرات، وهذا الدور الريادي هو من قبيل ما يستوجب الاعتراف به وتثمينه وأخذه بعين الاعتبار متى كانت الغاية هي بناء الوطن وتحقيق أهداف الثورة.
والتزاماً منا بمشاغل نساء تونس باختلافهن وتنوعهن، اللواتي يتكبّدن كل أشكال الحيف والعنف والتمييز في الفضاء العام والخاص ويواجهن تفاقم واستفحال الأزمة الصحية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتذكيراً بما عبرنا عنه في العديد من المرات من مواقف إزاء انعكاسات هذه الأزمة ودورها في تعميق ظاهرة تأنيث الفقر وارتفاع منسوب العنف المسلط ضد النساء، وإزاء تواتر جرائم قتل النساء فرادى وجماعات في شاحنات الموت، جاءت الديناميكية لوضع حد لهذه المظاهر المذلّة للنساء، ونحن كديناميكية نسوية مستقلة نحذر من كل محاولات عدم الاعتراف بحقوق النساء وهي الحقوق التي كانت ثمرة نضال أجيال من النسويات منذ التسعينات.
نحن كحركة نسوية مستقلة ناضلت منذ عقود لدحض الثقافة الأبوية الذكورية التي كرستها الترسانة القانونية التمييزية والممارسات الرجعية وبررتها خطابات سياسية تنهل من معينها، وإيماناً منّا بأن لا ديمقراطية في غياب الحقوق والحريات، ولا عدالة اجتماعية في غياب المساواة، ولا كرامة إنسانية في غياب تكافؤ الفرص والتوزيع المتساوي للثروات، وأمام الإحساس بضرورة تجاوز وضعية الإحباط وانسداد الآفاق التي فرضتها رداءة المشهد السياسي العام قبل 25 يوليو، وإزاء الخوف من المجهول أو الانزلاق نحو التفرّد بالحكم، يهمنا كحركة نسوية مناضلة أن نتوجه بهذه المذكرة إلى الرأي العام وإلى جميع القوى الوطنية والديمقراطية الفاعلة من أحزاب ومنظمات وطنية وجمعيات لنصوغ معاً خطة عمل لا تستثني النساء والشباب، ونحدد على ضوئها المحطات النضالية المشتركة القريبة والمتوسطة المدى.
قلنا إن على النساء تحمل مسؤولياتهن الحقيقية أكثر من الوظائف التقليدية كوجودهن في وزارة المرأة والصحّة والشؤون الاجتماعية، نحن نريد نساءً في مراكز القرار ووزرات السيادة كالداخلية والدفاع والعدل، نساء فاعلات.
سنعمل من خلال الديناميكية من أجل التمسك بالدولة المدنية، دولة القانون والمؤسسات، القائمة على إرادة الشعب والتعددية وعلى عُلوية القانون، والفصل بين الديني والسياسي، والتداول السلمي على السلطة، وتطبيق أحكام الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها الدولة التونسية ورفعت من شأنها التحفظات، واعتماد التناصف في أي حكومة قادمة، تكون قادرة على الاستجابة لمطالب الشعب، وحقه في العيش الكريم ومجابهة الجائحة، وعلى توفير الخدمات الصحية والاجتماعية ومعالجة الأزمة الاقتصادية والحد من التداين وإنقاذ البلاد من خطر الإفلاس، بالإضافة إلى مراجعة القوانين التمييزية ومنها مجلة الأحوال الشخصية والعمل على تطويرها فيما يتعلق خاصة برئاسة العائلة والمهر والولاية والمواريث والعدة، إضافة إلى مراجعة قوانين العمل لتحميل العاملات والعاملين بصفة مشتركة ومتساوية مسؤولية تربية الأبناء والاعتناء بالأطفال، إلى جانب مراجعة النصوص القانونية التمييزية التي تستثني النساء من الثروة والعمل اللائق والحصول على فرص الاستثمار والتمويل (قانون المالية بمقاربة النوع الاجتماعي، مجلة الأحوال الشخصية قانون الميراث، القروض الصغرى، قانون الاقتصاد الاجتماعي التضامني...)، وأهمية العمل على نشر ثقافة المساواة عبر مراجعة البرامج التربوية التمييزية، وتركيز وتعزيز تدريس التربية الصحية والجنسية، مثلما ينصّ على ذلك القانون، لوضع حد للجرائم الشنيعة التي تُقترف ضد النساء والأطفال والتي تفاقمت جراء الأزمة السياسية وانتشار ظاهرة الإفلات من العقاب.
كما ناقشنا كل المستويات الاقتصادية والصحية والاجتماعية، ونبهنا من المسّ بحقوق النساء إيماناً بأن الحقوق عندنا لا يتجزّأ.
بعد إطلاق الديناميكية، هل لاقيتن ردود أفعال من منظمات المجتمع المدني والأحزاب؟
نعم، ولكن ليس بالمستوى المطلوب الذي تطلّعنا إليه، اقترحنا على الاتحاد العام التونسي للشغل كأكبر المنظمات النقابية بالبلاد أن يتبنى المذكرة في خارطة الطريق، لإدراج حقوق النساء ضمن مشاغل العمال والعاملات، ووجب العمل أيضاً مع المنظمات الأخرى التي لها اهتمام حقوقي ونسوي واجتماعي وبيئي وكل المنظمات التي تعمل في مجال الدفاع عن حقوق المرأة.
تواصلنا مع البعض لتبني المذكرة التي أنجزت من قبل نسويات في العاصمة وفي الجهات الداخلية التي تعيش التهميش، وندعو كل القوى الوطنية التقدمية إلى التفاعل مع هذه المذكرة النسوية والعمل على إدراج المطالب الخاصة بالنساء والتدابير المستعجلة لتحقيق الكرامة الإنسانية والمواطنة الفعلية والمساواة التامة والقضاء على كل مظاهر العنف والتمييز ضدهن والقطع مع مقاربات الإقصاء أو الاستعطاف أو المنّ أو الشفقة إزاء حالات الفقر والهشاشة التي تعيشها النساء، وذلك باعتماد مقاربة حقوقية تلتزم بها الدولة والمجموعة الوطنية وتستند إلى الاعتراف بالحقوق واحترامها وحمايتها وضمان التمتع بها لكل مواطن ومواطنة دون أي تفرقة أو تمييز أو استبعاد على أساس الولادة أو الجنس، العرق، الجنسية، اللون، الرأي، المعتقد، الجهة، الطبقة الاجتماعية، الإعاقة، اختيارات الفرد وتوجهاته الشخصية أو الميولات الجنسية أو الصحة.
لنعود قليلاً إلى الحقبة الزمنية التي عايشتها في عهد الحبيب بورقيبة... ما رأيكم بالمبادرات والخطب التي سعت لتحرير المرأة، وما مدى تأثيرها في تغيير نظرة المجتمع وصقل وعي النساء بحقوقهن؟
من المهم أن نقول إن الحبيب بورقيبة دفع بقوة إلى إصدار الإطار القانوني لحقوق النساء عبر مجلة الأحوال الشخصية التي صدرت قبل الدستور بثلاث سنوات، وكل ما قام به هو تتويج لحركة نسوية تقدمية عملت منذ القرن 19، هناك نصوص لأحمد بن أبي الضياف وبيرم التونسي والطاهر الحداد تتحدث عن أهمية الظفر بحقوق النساء... بورقيبة كان لديه الإرادة السياسية وحزب قوي حاكم واقتناع بأنه لا بد من تطوير وضع النساء داخل الأسرة، وحين جاء الاستقلال عام 1956، أول نص تم اعتماده هو نص قانوني لا سياسي تمثل في مجلة الأحوال الشخصية... وهنا نتساءل لماذا صدر قبل الدستور؟... ففي نفس السنة التي صدرت فيها المجلة تم منع النساء من ممارسة حقوقهن السياسية، حيث لم تشارك المرأة في انتخاب أعضاء المجلس الدستوري ولا في كتابة الدستور الأول لسنة 1959، وبذلك حرمن من حقهن في المشاركة السياسية تزامناً مع منح بعض الحقوق.
لم تشارك النساء لا كمترشحات ولا كمنتخبات، وعاشت البلاد في تلك الفترة تحركات كبيرة وتظاهرات نسائية مطالبة بأهمية الاعتراف بالحقوق السياسية... وحدث ذلك بالفعل مع أول انتخابات بلدية عام 1957، وللسائل أن يسأل لماذا إذن جاءت الانتخابات البلدية؟... جاءت لتنظم العلاقات داخل الأسرة والمجتمع وكانت بمثابة ثورة بالنسبة لتونس مقارنة بدول المنطقة العربية، لأن بورقيبة كان يعتبر العائلة هي النواة الأساسية في المجتمع، وتغيير العلاقات صلب الأسرة هو مرحلة لتغيير المجتمع، وأنا شخصياً أعتبر أن مجلة الأحوال الشخصية قد لعبت دوراً أساسياً لتغيير العقليات في الأسرة، ومكّنت النساء من الخروج إلى القضاء للمطالبة بالطلاق وتحديد سن الزواج من دون أي قيود اجتماعية أو أسرية.
في ذلك الوقت أصبح الخطاب الرسمي يدعو إلى المساواة وحماية حقوق النساء إلا أنه حين تطلّعين على المجلة تلاحظين وجود التمييز في بعض المجالات حيث إن المهر إلى اليوم هو من شروط الزواج... اليوم امرأة تمارس حياتها الطبيعية وتتنقل وتعمل وتدرس وتشارك في الإنفاق على الزواج، لكن المجلة تعتبر المهر شرطاً لإبرام عقد الزواج وهو غير معقول، علاوةً على قضية العدّة ومسألة أن يظل الرجل رئيس العائلة.
مجلة الأحوال الشخصية في حاجة إلى مراجعة لتحقيق المساواة التامة ويجب العمل على أن تكون هذه النصوص ملائمة لتطور الفكر النسوي في تونس اليوم وتتماشى وأحكام الدستور والاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها الدولة التونسية... الدستور يقر بالمساواة ويطالب الدولة بحماية مكاسب النساء والعمل على دعمها وتطويرها لكنها دعوات لم تلقَ طريقها وكأن هناك نوايا لعدم تنقيح هذه الفصول والإبقاء عليها غير متساوية وتمييزية وتكرس المجتمع الأبوي والعلاقات الأسرية المحكومة بسطور العقلية الذكورية.
نحن نطالب بمراجعة المجلة في كل فصولها لتحقيق المساواة التامة ونبذ العنصرية التي تكرّسها في بعض فصولها، وذلك حتى تواكب تطور المجتمع والفكر النسوي.
برغم حالة الوعي وترسانة القوانين ظل وجود المرأة وتمكينها بين مدّ وجزر خلال العقود الماضية... هل تجاوزت المرأة التونسية اليوم العراقيل أم أنه لايزال أمامها مشوارٌ طويل؟
باعتقادي بعد الثورة هناك مدّ رجعي خطير، حيث برزت عقلية جديدة تسعى لتحميل النساء مسؤولية الأزمات التي تعيشها البلاد، وتدعو بعض الأطراف إلى إلزام النساء البيوت مثلاً، وإقصائهن وإبعادهن عن العمل، وهذا لن يساهم في التقدم في مجال الحقوق والحريات، لاعتبار المشكلة اليوم ليس في وجود الحقوق بل في تطبيقها وآليات تنفيذها، ولاحظنا هذا في قانون مكافحة العنف ففي الوقت الذي تداولت النسويات في التسعينات قضية العنف كانت الدولة تعتبر الآفة مسألة هامشية وعادية ولا تستحق استراتيجية لمكافحتها وتعتبرها حالات معزولة، وترقّبنا ثلاثين سنة لإصدار قانون مكافحة العنف عدد 58 لعام 2017، واليوم لامست السلطة الوضع الذي حذرنا منه عقوداً من الزمن، بعد أن تضاعفت نسب العنف مع ظهور وباء كورونا في البلاد سبع مرات في الفضاءات العامة والخاصة وفق إحصائيات وزارة المرأة، ونفس الشيء أيضاً في العالم حيث صرح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأن العالم يعيش جائحتين (وبائي كورونا والعنف)، ما خلق أزمة حقيقية داخل الأسرة وفي المجتمع، لأن العنف يتفاقم بصفة غريبة خاصة مع وجود أرضية خصبة في دولة ضعيفة وفي بلد الإفلات من العقاب ومع ضعف الإجراءات اللازمة للتصدي لها، كلها مسائل وجب التطرق لها ومعالجتها عبر إجراءات صارمة للقضاء على العنف والتمييز وغيرهما.
برأيكم لماذا لم ينجح القانون عدد 58 الصادر عام 2017 في الحد من آفة العنف بكل أشكاله... وهل فعلاً هناك حاجة لمراجعة آلية تنفيذ هذا القانون؟
هناك أسباب كثيرة وراء ارتفاع نسب العنف ضد النساء، أولها أزمة العلاقات الأسرية بين المرأة والرجل، اعتقد أن المرأة تطوّرت في وقت لم يتطوّر فيه الرجل، لأن المرأة حين تخرج إلى الفضاء العام فهي ملزمة بتغيير العلاقة داخل أسرتها، بينما الرجل في تونس والمنطقة العربية ومختلف دول العالم المكرسة للعقلية الذكورية لم يتقدم وبقي على حاله، ما خلق أزمة حقيقية... والأزمة الثانية هي أزمة قيم في تونس والعالم لكثرة الحديث عن المسائل الأخلاقية، لنتذكر معاً قضية الفتاة التي اغتصبها رجل أمن، وكيف أرادت جهات تدويل القضية، لولا تصدي منظمات المجتمع المدني لكان زُج بالفتاة في السجن بدعوى "التعدي على الأخلاق الحميدة"، بينما هي قد تم اغتصابها في الواقع، ووقفنا بالحضور والدفاع والترافع لتسترجع حقوقها وذاتها وكرامتها، إضافةً إلى ضعف الدولة في عدم قدرتها على اتخاذ إجراءات صارمة ما يشجع الإفلات من العقاب من قبل الرجال.
حدث أيضاً تردد في البداية في قبول قانون مكافحة العنف من قبل قضاة رفضوا تطبيق القانون، برغم أن النية من القانون هي دفاع المرأة عن نفسها واسترجاع حقوقها وتوفير حماية لها، وهناك في القانون على سبيل المثال حذف لزواج الفتاة القاصر من مغتصبها وهو بمثابة الثورة، لأن الزواج فيه حماية للرجل من السجن بينما هو سجن مؤبد منزلي للفتاة وما يترتب عنه من أزمات نفسية، وكان من الضروري منذ البداية تكوين القضاة لفهم القانون والسهر على تنفيذه للتقليص من مظاهر العنف المختلفة والحد من الآفة.