العنف ضد النساء... بين شرطة النظام العام وشرطة الأخلاق

مقاومة الإيرانيات تشبه إلى حد كبير مقاومة السودانيات، حيث أن أنظمة حكم الإسلام السياسي تنتهج ذات الآليات لفرض الهيمنة السياسية على المجتمع من خلال فرض قوانين تقيد بل وتقهر النساء وتعزز عنف الدولة ضدهن بالقوانين.

الدكتاتوريون يقرأون من نفس الكتاب

الناشطة النسوية شادية عبد المنعم محمد أحمد

ليست مهسا أميني إلا واحدة من ضحايا العنف المؤسسي ضد النساء في معظم الدول التي تتبنى قوانين الشريعة الإسلامية نظاماً للحكم، حيث هناك ضحايا لن نتمكن من الوصول إليهن أو حتى معرفة أسمائهن طالما أن الشاهد هو الجلاد المحمي بآلة الدولة القمعية.

انتشرت ظاهرة الإسلام السياسي وصعود الإسلاميين إلى سدة الحكم في عدد من الدول، وأول ما قامت به هذه الأنظمة، هو فرض ما يسمى بالزي الإسلامي على النساء. نجد ذلك تقريباً بأشكال متفاوتة مثلاً في اليمن بعد الوحدة بين الشمال والجنوب، وفي مصر والسعودية ومعظم دول الخليج إضافة إلى باكستان وأفغانستان والسودان وإيران. وقد خلُص الدكتور المصري محمد سعيد العشماوي إلى نتيجة مفادها أنَّ الترويج الذي يجري الآن للحجاب هو دعوى سياسية وليس فرضاً دينياً، لقد فرضته جماعات الإسلام السياسي أصلاً لتمييز بعض النساء والفتيات المنضويات تحت لوائهم عن غيرهن من المُسلمات وغير المُسلمات، ثم تمسَّكت به هذه الجماعات كشعارٍ لها، وأضفت عليه صبغة دينية، زعماً بأنه زيٌّ إسلامي، وقد سعت هذه الجماعات إلى فرض ما يسمى بالحجاب بالإكراه والتضييق على نساء وفتيات في المُجتمع كشارةٍ يظهرون بها انتشارهم ونفوذهم وامتداد نشاطهم وازدياد أتباعهم. 

العنف المؤسسي متجذر في الأنظمة الإسلامية ضد النساء لأنه يستمد مشروعيته إضافة للأبوية والتقاليد، من النصوص الدينية. بالنظر لخريطة الدول التي تحكمها أنظمة إسلامية نجد أن جميعها حاولت حبس النساء في خيمة سوداء حيث يبدأ القمع بالنساء مغلفاً بالنصوص الدينية، لكنه في الآخر نوع من القمع السياسي الذي يهدف إلى إبعاد نصف المجتمع من المجال العام ليسهل التحكم في النصف الآخر. وما الحجاب إلا محاولة لحجب النساء عن الفضاء العام والسيطرة على عقولهن وأجسادهن.

مقاومة النساء الإيرانيات تشبه إلى حد كبير مقاومة النساء السودانيات، حيث أن أنظمة حكم الإسلام السياسي تنتهج ذات الآليات لفرض الهيمنة السياسية على المجتمع من خلال فرض قوانين تقيد بل وتقهر النساء وتعزز عنف الدولة ضدهن بالقوانين. ومثال على ذلك إيران التي ألزمت الإيرانيات منذ عام 1979، بارتداء الحجاب. وتنص المادة رقم 638 في قانون العقوبات الإسلامية على أن عقوبة عدم ارتداء الحجاب الشرعي تتراوح بين دفع غرامة مالية قدرها 20 دولاراً، والسجن بين 10 أيام وشهرين، وتلقي 74 جلدة. وفي السودان أيضاً قام نظام الإنقاذ الإسلامي بسن ترسانة من القوانين من المادة 150 إلى المادة 155 مصممة خصيصاً لقهر النساء، تحديداً المادة (152) من القانون الجنائي لعام 1991 تلك المادة التي تماثل تماماً الموجودة في القانون الإيراني، والتي كانت أجهزة الأمن تبرر بها حملاتها لمطاردة النساء في الشوارع بسبب اللباس. وفي كلا النظامين الإيراني والسوداني نجد أن هناك قوة نظام شرطية مهمتها ملاحقة النساء لما تعتبره حجاباً سيئاً كما في إيران وهي شرطة الأخلاق، وشرطة النظام العام في السودان التي تلاحق ما يسمى باللباس الفاضح وفي كلتا الحالتين متروك للشرطي أن يحدد نوع اللباس سيكون سيئ أو جيد. وفي كلتا الدولتين نجد أن هذه القوانين إضافة للقهر، تشكل مصدر دخل للنظام من الغرامات المالية الباهظة التي تدخل خزينة الدولة مما يجعلها شأناً اقتصادياً أيضاً.

تطرح الاحتجاجات الشعبية الإيرانية الأخيرة أسئلة كثيرة حول حقوق النساء. فالاضطرابات، التي عمّت المدن الإيرانية، احتجاجاً على مقتل مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق، لم تعتبر الحجاب شأناً شخصياً يعود للمرأة اختيار ارتدائه أو خلعه، بل رمزاً سلطوياً يجب تحطيمه وحرقه. وعندما تصبح الملابس أمراً متعلقاً بسياسات الجماهير، أي مجالاً للرفض أو القبول من قبل الجماهير التي تخوض مواجهات مفتوحة في الشارع ضد السلطة، يصبح الحديث عن "الحرية الفردية" منفصلاً عن السياق السياسي والاجتماعي الذي يدور ضمنه الصراع، بالتركيز على اعتبار الحجاب قضية نسوية محضة، أو صراع تخوضه النساء وحدهن، بوصفهن هوية سياسية مستقلة، لنيل حريتهن بتقرير ملابسهن، بعيداً عن الهيمنة الرجعية، سواء كانت إسلامية أو علمانية. متجاهلة مكانة الحجاب ضمن صراع سياسي، ثقافي واقتصادي شديد التعقيد، تتداخل فيه أنظمة شمولية وأيدولوجيات مختلفة. وبذلك نجد أنه إذا كان الحجاب مسيّساً لهذه الدرجة، وجانباً أساسياً من الصراعات على القوة والهيمنة في مجتمعات متعددة، فهل المطالبة بنزع سياسيته، وتحويله إلى مجرد شأن خاص يحل قضية المجتمعات التي تسعى للحرية والديموقراطية والعدالة؟ أم من الأفضل تناول كل القضايا المرتبطة بشروط الممارسة السياسية نفسها. والتي يشكل تجاهلها ترسيخاً لمشكلة ثقافية وسياسية عامة، وأن هذا التجاهل يساهم في تشتيت الاحتجاجات السياسية، ومحاولات التغيير الديموقراطي ككل.

بالعودة لخلاصات المفكرات على سبيل المثال لا الحصر الإيرانية فريدة شهيد، زيبا مير الحسيني، فاطمة المرنيسي، فاطمة بابكر وزاهية بن جويرو والمفكرين مثل العشماوي ونصر أبو زيد وغيرهم نجد أن الحجاب، ليس قضية فقهية إسلامية، بقدر كونه رمزاً أيديولوجياً وسياسياً. وذلك لحضور الأيديولوجيا الإسلاموية وقوتها في الحيز العام، وكذلك الممارسة المباشرة للسياسات الحيوية التي يسعى إليها الإسلاميون، الملتزمة بالحفاظ على نموذج العائلة النووية المحافظة، والدور الذي تلعبه النساء فيه، بما في ذلك عملهن غير المأجور في مجال الرعاية العائلية، رغم خروجهن إلى سوق العمل، بعد انهيار نمط العائلة التقليدية. في هذا المعنى تحوّل الحجاب إلى رمزاً لهيمنة الحركات الإسلامية، رمزاً يكثّف في ذاته مشروعاً سياسياً مركّباً، يسعى للتمدد والتوسع. فالدول التي فرضت الحجاب بقوة القانون والأجهزة العنفية، مثل إيران والسودان وأفغانستان، جعلت ذلك المشروع حتمية سياسية، وأحد الرموز المؤسِّسة للسلطة القائمة. وهذ ما يدل على أن الحجاب ليس مجرد قطعة قماش، تختار المرأة ارتداءه حسب قناعاتها ونمط حياتها، بل الحجاب يعني فرض مشروع سياسي بالكامل على الجميع تنال منه النساء بشكل إضافي الجزء المتعلق بحجبهن عن المجال العام.

 

خرقة قماش أم حوش حريم؟

إذا لم تتصدى النساء السودانيات لمشروع الحجاب الإلزامي بضراوة لكُن انتهين في خيمة سوداء مثلهن ومثل النساء في إيران وأفغانستان ومعظم الدول التي تحكم وفق تصورات قادتها للشريعة الإسلامية، تلك المقاومة التي استمرت ثلاثون عاماً ووضعت السودانيات في مقدمة النضال السياسي حتى إسقاط النظام الإسلامي بثورة كانون الأول 2019 مما يؤكد أن الملابس شأناً سياسياً عاماً، وستبقى كذلك شأنها شأن قضايا كثيرة تمس في جوهرها معاني الديموقراطية والحرية والعدالة. الحركة النسائية القوية والمؤثرة التي بدأت تتشكل بقوة ضد الدكتاتورية الإسلامية في السودان أخذت تتشكل منذ مطلع التسعينات على شكل احتجاجات منظمة وتظاهرات متحدية القمع الوحشي، معارضةً لسياسات النظام فيما يخص تجييش الأطفال في محرقة حرب الجنوب آنذاك ثم احتجاجاً على الغلاء فيما يسمى مظاهرات السُكر، ثم مواجهة قانون النظام العام إلى أن تم إجبار السلطة لتغيير اسمه إلى ما يسمى بقانون أمن المجتمع في العام 1996، ثم المواجهات القوية في بداية الألفية عندما حاول النظام منع النساء الخروج للعمل، ثم تشكيل مبادرة لا لقهر النساء في 2009 ضد قانون النظام العام وممارسات شرطة النظام العام والتي خرجت فيها النساء بأزيائهن المختلفة رافعات شعارات "الزي خيار شخصي" منددات بسياسات نظام عمر البشير ومطالبات بإسقاطه.

ذات المقاومة تتشكل في إيران حيث أن حرق خرقة القماش المسيّسة في إيران يعني محاولة تحطيم هيمنة السلطة، وبالتالي هو فعل سياسي معارض، موجّه ضد البنية الأساسية للدولة، وسياساتها الحيوية. وهذا لا يعني النساء وحدهن، بل كل المعنيين بالتخلّص من الدكتاتوريات، على اختلاف أجناسهم.

فالحديث عن "الخيارات الفردية" فيما يتعلّق بالحجاب ومسألة الزي في عمومها، وجعلها مسألة نسوية صرفة، تعني النساء وحدهن، يساهم في عزل قضاياهن عن السياقات العامة، ويؤسس لنوع من "حوش الحريم السياسي"، بخلق مساحة تحجب النساء عما يدور خارجها، وتجعل دورهن مقتصراً على الاهتمام بشؤونهن الخاصة، ضمن علاقة متوترة مع الرجال. ويكرس لدور ديكوري داخل الحركة السياسية ومسارات التغيير.

في هذا السياق من المهم إعادة اكتشاف وتحديد القوة السياسية للنساء، ليس بوصفهن ذواتاً فردية معزولة ومضطهدة، بل باعتبارهن فاعلات أساسيات في صناعة التغيير، مادياً وثقافياً وحيوياً، إن الطريق الأمثل للخروج من ذلك "الحوش" عبر تحويل قضايا النساء إلى مسائل عابرة للنوع الجندري، صالحة لبناء تحالفات وائتلافات اجتماعية أكبر، تنضوي فيها الجماهير. وهذا سيرفع القضايا النسوية إلى مستوى قضايا التحرر الوطني. فإن ما يمكن اعتباره "الخروج من حوش الحريم" عبر التسييس المضاد للملابس، سيجعل النساء مشاركات محوريات في ذلك الشأن، وصاحبات سيادة وقرار.

ولكن من المهم إدراك أن الزج بملابس النساء في المعترك السياسي، بكل هذه الحدة، يجب ألا يجعل خياراتهن رهينة دوماً للصراعات السياسية والتوازنات العامة وذكورية الطابع بل أن يتم التركيز على الحريات الفردية، وتحرير النساء، كمرتكز لخطاب سياسي بديل، يواجه كل أشكال القمع الأيديولوجي والبطريركي، وأن يساهم في خلخلة أركان الأنظمة الدكتاتورية.