سيمون دي بوفوار... دور مميز في الحركة النسوية (2)
حين تُذكر النسوية ونبذ التفريق بين الجنسين على أساس الجندر نذكر جميعاً اسم الفرنسية سيمون دي بوفوار صاحبة أول مؤلف شامل حول عصور من استعباد واضطهاد المرأة في العالم وهو كتاب "الجنس الآخر"
مركز الأخبار ـ ، إضافة إلى رصيد أدبي يتمحور معظمه حول قضايا المرأة.
الجنس الآخر... كتاب مفصل عن تاريخ اضطهاد المرأة
كتبت الفرنسية سيمون دي بوفوار كتاب الجنس الآخر أو الجنس الثاني، وهي في عمر 38 عاماً، ألقت صفحاته الضوء على قضية اعتبار الأنثى كائن من نوع آخر وليست جزء من الإنسانية، تم نشر الكتاب لأول مرة في فرنسا عام 1949 ولاقى هجوم حاداً من الفاتيكان الذي وضعه على قائمة الكتب المحرمة واستمر ذلك حتى الغاء هذه القائمة عام 1966.
تقول في مقدمة كتابها "إن الإنسانية في عرف الرجل شيء مذكر فهو يعتبر نفسه يمثل الجنس الإنساني الحقيقي أما المرأة فهي في عرفه تمثل الجنس الآخر".
ناقشت في كتابها أسباب هيمنة الرجل على الحياة والمرأة ورضوخ الأخيرة له، تقول إن تبعية المرأة للرجل مرتبطة بالتاريخ فمهما أوغلنا فيه نجد المرأة تابعة للرجل.
تَعتبر سيمون دي بوفوار في كتابها أن نضال المرأة أخذ طابع رمزي فقط ولم تأخذ المرأة حقها بل أخذت ما أراد الرجل اعطائها إياه، وارجعت السبب في ذلك إلى المرأة ذاتها وارتباطها الأبدي بالرجل، وفردت صفحات من كتابها لمناقشة قبول المرأة بالخضوع عن طيب خاطر وهي مقتنعة بكونها جنس آخر، واستندت الكاتبة إلى فكرة أنه "لا تولد المرأة امرأة لكنها تصبح كذلك فيما بعد" أي انه تم بناء حالة المؤنث في المجتمع لإخضاع المرأة وجعلها مقتنعة بنقصها.
انتقدت بشدة تحويل المرأة إلى آلة لإنجاب الأطفال ورعاية المنزل من خلال اقصاءها اقتصادياً وجعلها عالة ومتكلة على الرجل بشكل أساسي لضمان سيطرته عليها دائماً.
وتقول في كتابها "إن الفئة المهيمنة تحاول أن تبقي المرأة في المكان الذي تخصصه لها وتستقي الحجج من الوضع الذي خلقته لهذه الفئة نفسها، وهذا يذكرنا بقول برناردشو في الزنوج حين يقول "إن الأمريكي الأبيض يهبط بالزنجي إلى مستوى ماسح أحذية ليستنتج من ذلك أن الزنجي ليس صالحاً سوى لمسح الأحذية".
كتاب الجنس الآخر هو تفسير لإقصاء وتهميش المرأة اعتبرته المؤلفة توضيح لقضية المرأة من خلال ما طرحت فيه من أسئلة ووجهات النظر المتباينة؛ لتضمن عدم التحيز لأي من الجنسين.
اعمالها الأدبية... قضايا المرأة والفلسفة والسياسة
لدى سيمون دي بوفوار الكثير من المؤلفات حول مواضيع سياسية وفكرية وفلسفية وهي من أكثر الكتاب الذين وثقوا حياتهم في مؤلفاتهم، لذلك فإن قراءة مؤلفاتها تكشف الكثير من تفاصيل حياتها.
كما وتنوعت أعمالها الأدبية وحملت معظم شخصيات رواياتها اشخاص من محيطها، وطرحت قضايا المرأة في أكثر من مؤلف أبرزها "الجنس الآخر" و"كيف تفكر المرأة" ويستطيع من قرأهما أن يفهم بدايات اضطهاد المرأة من خلال الجنس الآخر والشخصية التي اصبحت عليها هذه المرأة في كتاب كيف تفكر المرأة إلا أنها لم تربط بينهما بشكل صريح.
رواية المدعوة كانت أول نتاج أدبي لها وصدرت عام 1943، الرواية عبارة عن سيرة ذاتية توثق فترة من حياة سيمون دي بوفوار اثناء علاقتها مع جان بول سارتر والمطبات التي تعرضت لها هذه العلاقة وآلام الغيرة، وقد أبرزت الرواية موهبة سيمون الأدبية ما جعل "المدعوة" من أقوى كتب السيرة الذاتية في القرن العشرين.
ومن خلال رواية "المثقفون" حاولت الفيلسوفة الفرنسية توثيق الفترة المهمة من تاريخ فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، وهي رواية سياسية بامتياز تسلط الضوء بشكل أساسي على مثقفين يساريين وعلاقاتهم مع الحزب الشيوعي والاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية.
وتطرح سيمون من خلال "المثقفون" مجموعة من الأسئلة المصيرية مثل استقلالية الصحافة والتسامح والعدالة وحتى الحب والموت والحرية.
كما ناقشت الفكر اليميني المتطرف في مؤلف "واقع الفكر اليميني".
أما كتابها المعنون بـ "كيف تفكر المرأة" فيعتبر مطباً في مسيرتها المدافعة عن المرأة، فرغم أنه القى باللوم على المجتمع الذكوري في تحويل المرأة إلى كائن سطحي لا يفكر إلا بشكله ورأي الناس به إلا أن ما جاء في العديد من صفحاته أو لنقل معظمها مهاجمة صريحة لفكر النساء، من خلال تصنيفهن على أنهن غيورات، حسودات، نمامات، ومختالات بأنفسهن محبات للمديح والإطراء. ويرسخ الكتاب فكرة أن المرأة لا تستطيع عمل أكثر من شيء في وقت واحد وهو ما اثبتت الدراسات الحديثة عدم صحته، إضافة إلى أنها تربط حياتها بوجود الرجل ولا تستطيع العيش بدونه كما تقول سيمون دي بوفوار.
وعلى الرغم من التفصيل الدقيق الوارد في الكتاب حول مكامن نفس المرأة ورغباتها إلا أن نقد مؤلفها ضروري لأنه تغاضى عن دور الرأسمالية في تحويل المرأة إلى سلعة تفكر بالجمال فقط حتى وإن كانت في زنزانة كما تقول سيمون، وعمل هذا النظام على تكريس شعورها الدائم بالنقص وعدم قدرتها على الاستقلال.
أما من ايجابيات هذا المؤلف أنه يتناول نفس المرأة وحدها ومع الرجل بشكل خاص دون تشعبات علاقاتها مع العائلة والمجتمع من خلال تحليل طبيعة تفكيرها ورغباتها وجميع الدوافع الداخلية التي تحكم سلوكها وتصرفاتها، ويرى نقاد الكتاب أنه يعبر عن نفسية سيمون دي بوفوار ولا يمكن تعميمه على جميع النساء.
وكان لتقدم العمر أثر كبير على سيمون دي بوفوار وبدا ذلك واضحاً بعد بلوغها سن الستين، فأفردت له عدة مؤلفات وناقشته بشكل معمق وكان من بين كتبها "تفاهم في موسكو"، الذي طرح بشكل أساسي تقدم العمر وأثره على الزوجين.
فيما أبدت رغبتها في العزلة والابتعاد عن العالم بشكل صريح من خلال رواية "المقبل في العمر" نشرت في عام 1960، تحدثت فيها عن قمع المسنين، إضافة لكتاب أو رواية "المرأة المدمرة" ويتحدث عن تأثير تقدم العمر على المرأة وتم نشره في عام 1968.
وكتبت العديد من الروايات منها رواية "جاءت لتبقى" في الأعوام 1935و1943، وبعد ذلك كتبت راوية "دماء الآخرين"، و"من يجب أن يموت"، و"الرجال هم الموت" وغيرها.
سيمون دي بوفوار الفيلسوفة
بعد حصولها على شهادة في الفلسفة العامة وتاريخ الفلسفة والمنطق واليونانية عام 1927 حصلت على الدرجة الثانية في اختبار فلسفة التجميع وبذلك أصبحت أصغر معلمة للفلسفة في فرنسا.
ونشرت عدداً كبيراً من المقالات حول الاخلاق واللاوجود منذ عام 1944، وبدا واضحاً توجهها اليساري الساعي لتغيير المجتمع نحو العدل، وهذا ما دفعها لتأسيس مجلة يسارية بعنوان الأزمنة الحديثة "Les Temps Modernes" مع مجموعة من الناشطين اليساريين أمثال جون بول سارتر، وريمون أرون، وموريس ميرلو، بونتي وغيرهم، ونشرت فيها مجموعة من مقالاتها التي عنيت بالفلسفة الوجودية، وقضية المرأة، والقصص القصيرة، ورحلتها إلى الصين وغيرها من المواضيع، واستمرت سيمون دي بوفوار كمحررة في المجلة حتى وفاتها.
زيارة إلى مصر وأمريكا
أثناء الوحدة بين سوريا ومصر في عهد الرئيس جمال عبد الناصر استقبلت الجمهورية العربية المتحدة عام 1967 الفيلسوفين الوجوديين سيمون دي بوفوار وجان بول سارتر بدعوة رسمية من جريدة الأهرام أكبر مؤسسة إعلامية في ذلك الوقت، واستقبلهم نخبة من الكتاب والأدباء والمفكرين المصريين كان أبرزهم توفيق الحكيم ومحمد حسنين هيكل.
وكان الفيلسوفان معروفان في الوطن العربي ولهما أثر كبير على الفكر والوجدان المصري المنفتح على الأدب والفكر الغربي وكان جيل الستينات أكثر من تأثر بالفلسفة الوجودية فبدا ذلك من مؤلفات تلك الفترة.
كما دعتها الولايات المتحدة الأمريكية لزيارة البلاد عام 1947 لإلقاء محاضرات لعدة شهور، وكتبت عن هذه الرحلة عدة مقالات في السنوات الأخيرة من حياتها.
سيمون دي بوفوار والمجتمع
اعتمدت سيمون دي بوفوار على نفسها واستأجرت غرفة من منزل جدتها ما أثار حفيظة المجتمع، فكان أن اعتبرها زوج أمها عاهرة وبائعة هوى بسبب علاقتها العلنية بجان بول سارتر، وزياراته المتكررة لها حين كانت تعيش في منزل والدتها.
وكان لسارتر نفسه أثر سلبي على حياتها فكان دائم النقد لها ما زعزع ثقتها بنفسها وكون لدى أصدقائهم المشتركين فكرة بأنها ساذجة وغبية، وتعاطت المخدرات لفترة هرباً من حالة الاكتئاب التي مرت بها بسببه، ويمكن الاستنتاج من قراءة علاقتهما أن سارتر سيطر على تفكير سيمون دي بوفوار بشكل كبير وإن كانت قد أثرت عليه هي الأخرى لكن يمكن القول أن سارتر امتلك سيمون لحد أنها قالت عنه انه كل عالمها وتساءلت في إحدى المرات هل "أنا أنا؟ أم أنا سارتر؟.
وفرض عليها سارتر حياة غير التي ارادتها فطلب منها علاقة غريبة تشرعن خيانة كل منهما للآخر بشيء مناف للطبيعة الإنسانية، وبالمقابل تكبت هي شعور الغيرة داخلها وهي المرأة الغيورة فكان أن رضخت لذلك المطلب، لكنها ألقت بهذا الهم على صفحات رواية المدعوة وطرحت من خلالها آلام الغيرة التي عايشتها مع سارتر دون أن يشعر هو بأنه يؤذيها بتصرفاته.
الحياة السرية
عند ذكر الجوانب الإيجابية لسيمون دي بوفوار وأثرها المميز على الفكر النسوي لا بد ايضاً من ذكر الجوانب السلبية التي تحملها شخصيتها كحال جميع البشر.
فأثناء عملها في مجال التدريس الذي بدأته في عام 1931 بمدينة مرسيليا وبعد انتقالها إلى مدينة روان لتدريس الأدب والفلسفة المتقدمة، أتهمتها بعض طالباتها وعائلاتهن بالتحرش بهن واستدراجهن لإقامة علاقة معها ومع عشيقها الفيلسوف جان بول سارتر، ما أدى في نهاية المطاف إلى إنهاء مسيرتها في التدريس وسحب رخصة التعليم منها عام 1943، وما يعزز هذا الاتهام رسائلها إلى سارتر التي كشفت فيما بعد علاقاتها السحاقية مع طالباتها وكانت قد أهدت روايتها "جاءت لتبقى" لإحدى هؤلاء الطالبات.
وكان أن هاجمتها مواطنتها الفرنسية ماري جوزيف بوني وهي باحثة وناشطة نسوية أتهمتها من خلال مؤلف "سيمون دي بوفوار والنساء" بمعاداة النساء بعد دراسة مكثفة أجرتها لأعمال ومؤلفات ورسائل سيمون.
ورغم المسيرة الشبه مشتركة بين الكاتبتين سيمون دي بوفوار وماري بوني إلا أن الأخيرة حاولت كشف الوجه الآخر لزميلتها في النضال النسوي من خلال هذا الكتاب تقول ماري في كتابها "سيمون فعلت كل شيء لخلط الأوراق بل كذبت كثيراً لتجميل سيرتها الذاتية".
وتؤكد ماري بوني أن سيمون دي بوفوار تربت تحت كنف والدها وهو ما أثر عليها بشكل كبير وعلى طريقة تفكيرها فيما يخص الجنسين، كما أن لقول والدها لها بأنها تمتلك دماغ رجل دفعها لكي تقلد الرجال وكانت بحسب ماري مهووسة بتقليد الرجال للوصول للمساواة معهم.
وشككت في محبتها لبنات جنسها حيث تقول إن سيمون دي بوفوار لم تحب النساء وحتى لم تحب ذاتها بما يكفي، وترتكز بذلك التحليل على علاقة سيمون بأمهات صديقاتها وطالباتها، فلم تكن تحب أمهات صديقاتها اللواتي كن يرفض أي علاقة لبناتهن مع سيمون باعتبارها تركت الدين المسيحي واتجهت للإلحاد.
وتقول ماري جوزيف بوني "حينما التقيت بسيمون دي بوفوار عام 1971 في إطار حركة تحرير النساء كانت مثار اعجاب جميع نساء جيلنا كانت مثال المرأة الحرة ولكن مع صدور مراسلاتها اضطررنا أن نعيد النظر في الحكاية......وهكذا بدا التناقض الفظيع بين حياتها المخفية وخطابها التحرري الداعي للانعتاق".
وفاتها
خلال سنواتها الأخيرة أصبحت سيمون دي بوفوار ناشطة في حركة تحرير النساء الفرنسيات، ووقعت عام 1971على بيان يدعو إلى اعتبار الاجهاض حق للمرأة ويطالب بتغيير القانون على أساس ذلك، وبعد أقل من أربع سنوات من التوقيع على هذا البيان تم منح المرأة حق الاجهاض أي في عام 1974.
ومنذ أن بلغت سن الستين بدا تأثرها بالعمر والشيخوخة واضحاً من خلال مجموعة من أعمالها وأصيبت بحالة من الاكتئاب ورأت إن الشيخوخة تمثل تغييراً في وجود الفرد مهما كان يملك من حياة سعيدة.
وأصيبت بمرض الالتهاب الرئوي وتوفيت في عام 1986 عن عمر ناهز 78 عاماً ودفنت في باريس بجانب قبر جان بول سارتر في مقبرة مونبارناس.
وكان أن قالت الفيلسوفة والمؤرخة والنسوية اليزابيث بادنتر بعد خبر وفاة سيمون دي بوفوار "يا نساء العالم أنتن مدينات بكل شيء لسيمون".
ولم يمنع الموت سيمون دي بوفوار من أن تكون قدوة للنساء بكافة أطيافهن وظل فكرها إلى اليوم مرجعاً لجميع النساء والناشطات، واعتبرت أماً للحركات النسوية المختلفة للفترة ما قبل عام 1986.
الجوائز والتكريمات
أثناء حياتها أي في عام 1954حصلت على جائزة غونكور المعنية بالأدب المكتوب باللغة الفرنسية. عن رواية "المثقفون"، وتسلمت من إسرائيل جائزة القدس لحرية الفرد في المجتمع عام 1975، وأيضاً تسلمت جائزة النمسا للأدب الأوروبي عام 1978.
وبعد وفاتها صمم المهندس المعماري لمدينة باريس ديتمار فيشتنقر جسر للمشاة عبر نهر السين وأطلق عليه أسم سيمون دي بوفوار.