روزا لوكسمبورغ محطة مهمة في تاريخ الحركة الاشتراكية والنسوية
اتسمت آرائها ومواقفها بالجرأة وأسست لخط مغاير في الحركة الاشتراكية، كانت زعيمة دون أن يكون لديها الرغبة في الزعامة والمناصب
مركز الاخبار ـ ، اتخذت من الصدق مساراً لحياتها ونضالها، ناقشت أهم زعماء الاشتراكية وصنعت فارقاً في الحركة ونضال المرأة في مسألة حق التصويت والحريات.
قبضت عليها مجموعة من الوحدات التطوعية الألمانية بأوامر صادرة من رئيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي فريدريك إيبرت، في ليلة منتصف كانون الثاني/يناير من عام 1919، قامت المجموعة بتحطيم رأسها بمؤخرة رشاش آلي وألقت جثتها في قناة لاندفير ببرلين.
مازالت قناة لاندفير تحمل ذكرى مقتل الثورية روزا لوكسمبورغ من خلال تمثال نصب في حديقة تيرجارتن الشهيرة ببرلين، يبرز النصب وسط الاشجار منقوش عليه أسمها بحروف معدنية.
كتبت ليلة اغتيالها "لقد فشلت القيادة، ومع ذلك يمكن ويجب إعادة القيادة من الجماهير، لأن الجماهير هم العنصر الحاسم للنصر النهائي... النصر المستقبلي سوف يزهر من هذه الهزيمة".
كان عمرها وقت اغتيالها 47 عاماً وقد ولدت لعائلة يهودية تعمل في تجارة الخشب في بلدة بولونية صغيرة تابعة لمقاطعة زاموسك في الخامس من آذار/مارس عام 1871.
صدر قرار اغتيال روزا لوكسمبورغ وكارل ليبنكت في وقت كانت فيه المعركة مستعرة في قلب الحركة العمالية بين إصلاحيي الحزب الاشتراكي الديموقراطي بألمانيا وبين الثوريين الذين تجمعوا حول روزا وكارل ليبنكت في عصبة سبارتاكوس (التي تحولت فيما بعد إلي الحزب الشيوعي الألماني)، وفي ذلك الوقت أيضاً كانت ثورة العمال والبحارة التي وضعت نهاية للحرب العالمية الأولى أواخر 1918 في أوجها.
اضطرت الحكومة الألمانية إلى اصدار بيان عقب عملية الاغتيال أدانت فيه العملية وقالت إن روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكت يستحقان محاكمة عادلة، لكنها زعمت أن الضحيتين ارتكبا جرائم في حق الشعب الألماني.
لم يكن بيان الحكومة سوى ذر الرماد في العيون بعد أن تبينت المؤامرة التي حيكت للثوريين حيث تم اعتقالهما من قبل الميليشيات التي تقاتل إلى جانب الحكومة "الوحدات التطوعية الألمانية"، وسلما إلى ضابط أركان الحرب فلاديمير بابست الذي قرر نقلهما إلى معتقل في حي موابيت وفي الطريق اغتالهما العنصرين المرافقين بإطلاق النار عليهما، ورميت جثة روزا لوكسمبورغ في قناة لاندفير وعثر عليها لاحقاً.
حق المرأة في التصويت
لا يمكن الحديث عن روزا لوكسمبورغ دون ذكر كلارا زيتكن فمسيرة الناشطتين مترابطة خاصة في قضية حقوق المرأة، لعبت الناشطتين دوراً مهماً في الحركة النسوية والاشتراكية في آن واحد، وأطلقتا صحيفة المساواة 1891. وناضلت روزا في سبيل تحصيل حق المرأة في التصويت وفصلت بين مطالب المرأة العاملة والمرأة البرجوازية مثل كلارا زيتكن تماماً، كانت لها مشاركة فعالة في أول مؤتمر دولي للنساء الاشتراكيات عام 1910، في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن حول قضية منح المرأة حق التصويت، واقترحت كلارا خلال المؤتمر تخصيص يوم الثامن من آذار كيوم عالمي للاحتفاء بإنجازات المرأة والسعي للمزيد من الحقوق، وبعد عام احتفل باليوم العالمي للمرأة لأول مرة.
ترى روزا لوكسمبورغ أن السلطة تحرم المرأة من التصويت لأنها تخشى من المساس بمؤسسات الطبقة الحاكمة والنزعة العسكرية في البلاد لأن نيل المرأة حقوقها يخدم العدو بحسب ما تؤكد، وتشرح هذه النقطة بالقول إن النساء يؤيدن الاشتراكية ويرفضن الرأسمالية، ولن يدعمن الدولة الرأسمالية والبرجوازية في حال تم منحهن حق التصويت، في حين تناضل النساء البرجوازيات لكسب حق التصويت لطبقتهن فقط، وسيخدمن في حال أعطين حق التصويت الذكور والرأسمالية، باعتبار أنهن لا يشاركن في الانتاج الاجتماعي، ولسن سوى طفيليات يستهلكن فائض القيمة التي يمتصها أزواجهن من الطبقة العاملة، كما تقول روزا.
كتبت عام 1912 في مقدمة كتيب "حق المرأة بالتصويت والصراع الطبقي"، حول وضع المرأة الألمانية قائلة أنه لا توجد منظمات للمرأة العاملة، وهناك القليل من الحركات النسوية العمالية.
في مقال لروزا لوكسمبورغ عام 1902، كتبت فيه "مع التحرير السياسي للمرأة هناك نسمة منعشة يجب أن تهب في الحياة السياسية والروحية للديمقراطية الاشتراكية مبددة المناخ الخانق للعائلة التافهة الحالية التي انتقلت بلا خطأ إلى أعضاء حزبنا أيضاً".
قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى طالبت قيادة الحزب المؤيدة للحرب بأخذ المعارضة النسائية بعين الاعتبار.
كتابات نسوية قليلة
أدت دوراً تاريخياً في الحركة النسوية، كان لديها قلق دائم من أن تقع ضحية للتعصب الذكوري عند الرجال من قادة الحركة الاشتراكية، وربطت تحرر المرأة من هيمنة المجتمع الذكوري بالتحرر الشامل من الرأسمالية لذلك لم يكن نشاطها مقتصراً على قضية المرأة.
كتبت القليل عن الحركة النسوية وحقوق المرأة معتبرة أن التفريق بين الناس حسب الجنس إهانة للشخصية الإنسانية المتمثلة بالرجل والمرأة، كان نضالها من أجل مستقبل مشرق للبروليتاريا العالمية وليس للنساء فقط.
قالت المفكرة والمناضلة الأميركية رايا دونايفسكايا إن النسوية الاشتراكية اخطأت لأنها قللت من شأن روزا لوكسمبورغ كثورية ونسوية.
خلافها مع الحزب الاشتراكي ومفهوم الاشتراكية
كان الخلاف جوهرياً بين روزا لوكسمبورغ وزعيم الثورة البلشفية في روسيا فلاديمير لينين، فهي كانت تنشد اشتراكية الطبقة بينما لينين ينشد اشتراكية الحزب، عارضت المركزية المفرطة في الحزب الاشتراكي والتي كانت من أهم ركائز لينين، بدا موقفها واضحاً في مقال نشرته عام 1904 بعنوان "القضايا التنظيمية للاشتراكية الديمقراطية الروسية"، تحدثت فيه عن الانقسام بين البلاشفة والمناشفة (وهم أعضاء حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي الروسي، أطلق الأكثرية من انصار لينين على أنفسهم لقب البلاشفة والبقية الذين كانوا أقلية يقال عنهم مناشفة)، بعد طلب من هيئة تحرير مجلة "إسكرا"، كونها مندوبة الحزب الاشتراكي الديمقراطي في بولندا وليثوانيا إلى الأممية وخبيرة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني في شؤون روسيا وبولندا لصحيفة "نيو تسايت".
في نص الثورة الروسية الذي كتبته روزا لوكسمبورغ اتهمت لينين وتروتسكي بإفقاد فكرة الاشتراكية مصداقيتها عبر اللجوء إلى الإرهاب والديكتاتورية، لم ينشر هذا النص في روسيا إلا في عام 1990 وفي الدول الاوروبية التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي قبل ذلك بعام واحد، أما ألمانيا فسمحت بنشر النص في عام 1974 بعد كثير من الجدل حول أهمية نشره.
كتبت "الإضراب الجماهيري"، في أعقاب الثورة الروسية، أكدت فيه فكرة ماركس بأن الثورة تعني التحرر الذاتي للطبقة العاملة، اعتبرت أن انخراط العمال في النضال مباشرة من أهم مفاتيح الحركة العمالية وخاصة في البعدين الاقتصادي والسياسي، كانت تعتبر أن التنظيمات تكبل الثورة وسلطة جديدة، دائماً ما كانت متفائلة بقدرة العمال والعاملات على تحطيم النظام الرأسمالي وتقرير مصيرهم بنفسهم، ويعد ذلك من العيوب التي اتسم به فكرها لأنها أغفلت دور وأهمية التنظيمات لقيادة الحراك الجماهيري، وفي تلك الفترة منعت جميع الصحف العمالية من الصدور لكن صحيفة حزب روزا لوكسمبورغ استمرت بالصدور بشكل سري ويومي.
أهم المحـطــات في حياة روزا لوكسمبورغ
1ـ انخراطها في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني
يعد انخراطها في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني من أهم المحطات النضالية في حياتها، فتحت هجرتها إلى سويسرا بعد الحملة الشعواء على الحزب الاشتراكي الذي كانت تنتمي له، الباب أمامها للتعرف على الحركة العمالية في ألمانيا عام 1898، انجذبت للحركة وهاجرت إلى برلين، وبزواجها من عامل ألماني وحصولها على الجنسية استطاعت الانخراط في الحزب الاشتراكي الألماني.
بعد حصولها على الجنسية وانخراطها في الحزب الاشتراكي حررت مجموعة من المجلات والصحف الاشتراكية، وأصبحت أحد المحررين الرئيسيين في مجلة "الأزمنة الحديثة"، التي كانت أهم مجلة ماركسية في ذلك الوقت، اتسمت مقالاتها بالاستقلالية والمنطق بعيداً عن العاطفة.
2ـ معارضة حق تقرير المصير
في عام 1892 تصدت لمفهوم القومية وحق الاقليات في تقرير مصيرها، وما بين عامي 1903 و1904، دخلت روزا لوكسمبورغ في جدال كبير مع لينين خاصة في مسألة القومية ومفهوم الحزب وعلاقته مع الجماهير.
منذ البداية عارضت استقلال بولونيا عن روسيا القيصرية، واتهمت الحزب الاشتراكي البولوني بالنزاعات القومية والميل إلى تحييد العمال عن طريق النضال الطبقي، ففي اجتماعات الأممية الثانية عارضت بشدة استقلال بولونيا، آراءها دفعت الكثير من المتمرسين في العمل الثوري الاشتراكي إلى وصفها بالعميل السري للبوليس القيصري ومنهم ويلهلم ليبكنخت الصديق المقرب من ماركس وانجلز.
يعد حق تقرير المصير من أهم النقاط التي ترتكز عليها الاشتراكية، لكن رغم أنها اشتراكية كانت آراءها مضادة تماماً لهذه الرؤية ورافضة أعطاء هذا الحق لأسباب شرحتها في العديد من المواضع كتبتها باللغة البولندية لكنها لم تترجم إلى لغات اخرى، ومنها مقال نشر عام 1908 بعنوان "المسألة القومية والحكم الذاتي"، هذا المقال استفز زعيم الثورة البلشفية فلاديمير لينين الذي رد عليه عبر مؤلفه "حق الأمم في تقرير مصيرها"، نشر عام 1914.
في "كتيب يونيوس"، أو أزمة الديمقراطية الألمانية كان موقفها واضحاً من حق تقرير المصير للأقليات، والذي يتمثل في القضاء على كل اشكال الاضطهاد واستعباد أمة لأخرى، لكن من الخطأ كما تقول روزا لوكسمبورغ أن يصر الاشتراكيين الثوريين على حق الأمم في تقرير مصيرها دون قيد أو شرط ما يعد خطراً على الطبقة العاملة، واعتبرت أن نضال الشعوب يخضع لمصالح الطبقة البرجوازية التي تختفي وراء أقنعة القومية البراقة، أكدت مراراً وخاصة في هذا الكتيب أن منح حق تقرير المصير يعزز الحركات القومية ويؤدي إلى وقوع الطبقة العاملة تحت سيطرة البرجوازية، ورأت أن تقرير المصير مستحيل في ظل الإمبريالية، ستعمل الدول الرأسمالية على تشويه هذا الحق، لا داعي له في ظل الاشتراكية كما تقول روزا لأنه سيصبح بدون معنى لأن الاشتراكية ستزيل جميع الحدود الوطنية خاصة بالمعنى الاقتصادي.
كان رد لينين عليها قاسياً هذه المرة اتهمها بعدم إدراك معنى حرية تقرير المصير، وقال إن آراءها ليست سوى لغو في القول ومجموعة من أشياء عامة فارغة لا معنى لها، لكن رغم الخلاف الكبير بينهما إلا أن لينين وصفها في وقت آخر بصقر الثورة الاشتراكية وطالب في خطابه الافتتاحي للمؤتمر الأول للأممية الشيوعية الثالثة بالوقوف دقيقة صمت تمجيداً لذكراها ووصفها بأفضل زعماء الأممية البرولتيارية والشيوعية.
3ـ الحياة في ألمانيا
شاركت في المؤتمر الثالث للأممية الذي عقد في زوريخ عام 1893، وناقشت فيه حق بولندا في تقرير المصير، قابلت في المؤتمر زعماء الاشتراكيين في العالم أمثال فريدريك إنجلز وجورجي بليخانوف وكارل كاوتسكي وآخرين، تركت لديهم انطباعاً إيجابياً لبلاغتها وقوة شخصيتها، أما هي فأعجبت بالحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني الذي كان أكبر تنظيم اشتراكي في العالم وأهم الاحزاب المشاركة في الأممية الثانية، ومن هنا قررت الانتقال إلى ألمانيا.
لم تكن الحياة براقة في ألمانيا كما كانت تعتقد، تكشف رسائلها إلى أصدقائها وكتاباتها الشخصية عن معاناتها في برلين، وتبين أنها كرهت الحياة هناك ولم تشعر بالحب تجاه ألمانيا حتى آخر حياتها.
جاء في مقدمة كتاب ماري أليس واترز بعنوان "روزا لوكسمبورغ تتكلم"، أن روزا لوكسمبورغ لم تُكن مشاعر محبة تجاه ألمانيا على الإطلاق، ومع مرور الوقت أصبحت تنفر من كل شيء ألماني وكرهت الجهاز الإصلاحي المحافظ والخانق للحزب الاشتراكي الديمقراطي خلال الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى، وكرهت قادة النقابات الاشتراكية الديمقراطية.
في إحدى المرات ردت على ناقد أدبي من شخصيات الحزب الاشتراكي الديمقراطي عندما سألها عن كتابات تولستوي بالقول "إن في أية قرية صربية مهما كان اسمها مشاعر انسانية أكثر مما يوجد في الاشتراكية الديمقراطية الألمانية كلها".
وصفها بعض أعضاء الحزب بالصغيرة الاجنبية المشاكسة أو المرأة المشاكسة وقال عنها آخرون أنها الضيف الذي جاء إلى بيتنا وراح يبصق في الردهة.
في ذلك الوقت كان الألمان ينظرون إلى بقية الشعوب على أنهم من الدرجة الثانية ولم تكن المبادئ الماركسية الأممية قادرة على إخفاء هذه المشاعر وفي نفوس بعض الاشتراكيين الديمقراطيين.
في إحدى المرات كتبت رسالة إلى أحد أصدقائها تقول فيها إن قيادة الحزب لا تنظر للبولنديين نظرة جدية.
لكن برغم آرائها للحزب وقادته ورأيهم بها قاموا بإفساح المجال لها ايماناً بقدراتها فهي الكاتبة القديرة وأفضل العقول في ألمانيا.
4- الهجرة إلى سويسرا
أثناء تواجدها في سويسرا لعبت دوراً مهماً في الحركة العمالية السويسرية المحلية وبين المهاجرين الثوريين، لم تكتفي بالعمل الثوري بل انتسبت لجامعة زوريخ التي كانت تتيح للنساء فرصة الدراسة على عكس الكثير من الجامعات في ذلك الوقت، وفيها درست روزا لوكسمبورغ العلوم الطبيعية ثم درست العلوم السياسية والاقتصاد، وحصلت على شهادة الدكتوراه عام 1897، عرفت كمنظرة للحزب الاشتراكي الثوري البولوني بعد أقل من عامين على هجرتها إلى سويسرا، وعملت محررة في صحيفة الحزب "سبرافا رابوتنتسا"، الصادرة من باريس.
بداية وجودها بسويسرا شاركت في تأسيس الحزب الاشتراكي البولندي مُحاولةً توحيد التيارات الاشتراكية في بولندا، لكنها انسحبت من الحزب بعد عام واحد فقط من تأسيسه بعد أن اصطدمت مع زعماءه بسبب تعصبهم للقومية البولندية، فبادرت مع عدد من المهاجرين البولنديين إلى تشكيل "الاشتراكية الديمقراطية في مملكة بولندا" عام 1894.
أصبحت منظرة للحزب "الاشتراكي الديمقراطي لمملكة بولونيا وليتوانيا"، وهو أول حزب انتمت له عندما كانت في بولونيا، كان يسمى في البداية بحزب البروليتاريا ثم تغير اسمه عام 1894، وضم ليتوانيا إليه بعد خمسة أعوام من تأسيسه، وبقيت منظرة للحزب حتى اغتيالها في منتصف كانون الثاني/يناير 1919.
نقد المسار الاشتراكي الإصلاحي التدريجي بقيادة برنشتاين
أدى انشقاق الحركة العمالية الألمانية إلى جناحين إصلاحي وثوري إلى نشوب خلافات بين من يتبعون النهج الإصلاحي، وبين من يؤيدون الثورة الشاملة، وفي خضم النقاشات التي تبعت الانقسام ردت روزا لوكسمبورغ على الديمقراطي الاجتماعي ومؤسس الاشتراكية التدريجية إدوارد برنشتاين والذي هاجم المبادئ الماركسية في سلسلة من المقالات تحت عنوان "مشاكل الاشتراكية"، بمقالين نشرتهما في صحيفة تابعة للحزب كان أول مقال في عام 1898، والثاني بعد عام، ثم جمعتها في كُتيب عام 1900 وعنونته بـ "إصلاح اجتماعي أم ثورة"، هاجمت في المقالين الانتشار السرطاني للإصلاحية، وعللت رفضها للمسار الاصلاحي التدريجي بأن الحركة الاصلاحية عندما تصل إلى السلطة تتحول إلى سلطة جديدة.
قالت صديقة روزا لوكسمبورغ وسكرتيرتها ماتيلدا جاكوب إن المقالتين حققتا نجاحاً مزدوجاً، وعملتا على توحيد الهيئات القيادية للحزب الألماني وأصبحت روزا زعيمة تيار قوي معترف به.
كان برنشتاين ينشر مقالات ينفي فيها صحة قول الماركسية بأن الرأسمالية تحمل في طياتها بذور دمارها وأنكر نظرية الصراع الطبقي وخلص إلى أن الثورة غير ضرورية وبالإمكان تحقيق الاشتراكية عبر الإصلاح التدريجي للنظام الرأسمالي، وقال بأن على الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني أن يتصالح من الناحية النظرية مع ممارساته في الواقع.
استمرت في مجابهة المسار التحريفي الإصلاحي الذي اتخذه برنشتاين وقادت معركة شرسة ضد دعواته للتكيف مع الرأسمالية.
السجن
لم تتخلى عن تفاؤلها بالحياة حتى وهي داخل السجن الذي أخذ من حياتها النضالية سنوات كثيرة، كتبت وهي في الزنزانة "الأهم أن يحيا المرء في كل وقت كإنسان كامل"، كانت تعيش حياة طبيعية داخل السجن انشأت حديقة في سجن فرونكه وملأتها بالأزهار والنباتات، حصلت على بعض الامتيازات كما يقول مدير السجن إرنست دوسمان في مذكراته.
في عام 1904 بعد أن وجهت اساءة للقيصر حكم عليها بالسجن ثلاثة أشهر لكنها خرجت بعد شهر واحد، عادت إلى وارسو في بولندا بعد اندلاع الثورة الروسية في عام 1905، لتشارك فيها لكن قبض عليها وسجنت، ثم افرج عنها في العام التالي.
حكم عليها بالسجن أربع أشهر في ربيع عام 1906، وعند انتهاء فترة حكمها سحبت منها الجنسية الألمانية، كانت صحتها في تلك الفترة معتلة لكنها واضبت على زيارة بولونيا بطريقة سرية، وكتبت سلسلة من المقالات والكراسات للحزب البولوني بهدف تطوير مفهوم الثورة الدائمة واتخذت من مقولة "في البدء كان الفعل"، شعاراً لها، وكانت رؤيتها لنهاية الثورة الروسية بأنها ستتطور إلى أكثر من مرحلة برجوازية ديمقراطية وأنها ستنتهي باستلام العمال للسلطة واضعة الفشل كأحد الاحتمالات.
أدى تحدثها بشكل علني في شباط/فبراير 1914، عن اعتقادها بأن "الاضرابات الجماهيرية على الصعيدين السياسي والاقتصادي تشكل عنصر أساسي في نضال العمال الثوري من أجل السلطة"، إلى اتهامها بالتحريض على العنف وعوقبت على ذلك بالسجن مدة شهرين. تحدثت أثناء محاكمتها عن السلطة العسكرية وموقف الطبقة العاملة من الحرب، نشرت مرافعتها فيما بعد وهي أهم الإدانات الاشتراكية الثورية للنظام الإمبريالي.
أثناء الحرب العالمية الأولى قضت سنة في سجن النساء بشارع بارنيم في العاصمة الألمانية برلين، وبعد الافراج عنها بوقت قصير أعيد اعتقالها في ربيع 1916، كأجراء احترازي في سجن فرونكه وبريسلاو كتبت داخل السجن "ضد النقد"، ردت فيه على النقد الموجه لكتابها تراكم رأس المال، وترجمت الجزء الأول من مذكرات الثائر الاشتراكي الروسي الأوكراني فلاديمير كورولينكو، بالرغم من السجن استطاعت تهريب العديد من المقالات التي ناقشت الثورة الروسية، أطلق سراحها في خريف 1918.
تراكم رأس المال... مساهمة في الفكر الماركسي
بعد عودتها إلى برلين كتبت كتابها الأشهر "تراكم رأس المال"، عام 1913، والذي يعد مساهمة فكرية ماركسية رئيسية، كانت منتشيه بإنجازها تقول في رسالة بعثتها إلى أحد اصدقائها "إن الفترة التي أمضيتها في تأليف الكتاب هي من أسعد فترات حياتي... لقد دفعت به إلى الطباعة دون أن أراجعه حتى لمرة واحدة".
قال الاقتصادي البولندي البريطاني تاديوش كوفالك عن الكتاب بعد دراسة مستفيضة لفكر روزا لوكسمبورغ "إن الكتاب نص أدبي ينبض بالحيوية لكنه يحتوي كنص تحليلي على أخطاء وتكرار وحتى تناقضات".
بداية انخراطها في الاشتراكية
انخرطت روزا لكسبمورغ في الحركة الاشتراكية عندما كان عمرها لا يتجاوز الـ 16 عام، عبر انضمامها لحزب ثوري أسس عام 1882 يدعى حزب البروليتاريا، وهو من أقدم الاحزاب الاشتراكية في روسيا، أسس قبل أكثر من عشرين عاماً على تأسيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي وقاد حزب البروليتاريا اضرابات الآلاف من العمال في وقت كانت فيه الحركة الثورية الروسية مقتصرة على عدة أعمال فدائية ينفذها مجموعة من المثقفين الثوريين.
لكن في عام 1886 تلقى الحزب ضربة قاسمة بعد أن تمكنت السلطات من كشف أسماء أعضاءه، وشنت حملة اعتقالات واسعة، أعدمت أربعة قياديين منه وسجنت 23 آخرين حكمت عليهم بالسجن المؤبد والاشغال الشاقة، ونفت أكثر من 200 عضو خارج البلاد.
بعد ثلاثة أعوام من تلك الحادثة اكتشفت السلطات أن روزا لوكسمبورغ من بين أعضاء الحزب السري، وبدأت ملاحقتها إلى أن هربت من بولونيا متوجهة إلى مدينة زوريخ في سويسرا، انضمت إلى الثوريين الروس المنفيين بزعامة بليخانوف لتسطيع إكمال مسيرة الحزب، ومن هنا كانت انطلاقة روزا التي أصبحت فيما بعد من أهم الاشتراكيين في العالم، وعالجت مواضيع مثل حقوق المرأة والاحتكار الاقتصادي والرأسمالية.
الحرب العالمية الأولى
رفضت هي وكارل لبكنخت دعم أو الانخراط في الحرب العالمية الأولى التي اندلعت في 28 تموز/يوليو 1914، وذلك على عكس موقف الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني الداعم لها، والذي قرر في الرابع من آب/أغسطس التصويت على قرار يؤيد الحرب بعد أن طرحته الحكومة القيصرية على التصويت، وصفت أعضاء الحزب الداعمين للحرب بالشوفينيين، وفي اليوم نفسه اجتمعت مجموعة الرافضين للحرب في شقتها ومن بينهم المناضلة كلارا زيتكن وكارل لبكنخت شكلت المجموعة عصبة سبارتكوس، سارع الحزب إلى زجها في السجن الوقائي طيلة الحرب خوفاً من انتشار أفكارها، لكن رغم ذلك كانت على اطلاع بما يجري واستطاعت تهريب العديد من الرسائل والمقالات الثورية، طالبت فيها بتنظيم الثوار تحت لواء الاشتراكية الأممية، أطلق سراحها في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 1918، ثم بعد عدة أشهر صدرت أوامر باغتيالها وكارل لبكنخت.
أثبتت الحرب العالمية الأولى صواب موقف روزا لوكسمبورغ أن الاصلاحيين ينتهوا ليصبحوا جزءاً من النظام بعد أن صوتوا على قرار استمرار الحرب لكنها أدركت في وقت متأخر ضرورة الانفصال عن الحزب الاشتراكي وبناء منظمة ثورية نقية.
عصبة سبارتاكوس
إلى جانب كارل لبكنخت وكلارا زيتكن أسست عصبة سبارتاكوس عام 1916، وكتبت برنامجه الداخلي، شكلت العصبة نواة الحزب الشيوعي الألماني كحركة ثورية داخل الحزب نفسه، ما اعتبره الكثير من المؤرخين أول خطوة في طريق تفتيت الحزب الاشتراكي الديمقراطي، حظي بإقبال كبير من العمال الثوريين، تعرض التيار "العصبة" خلال الحرب للقمع والسحق على يد فرايكوبز الذي يعد النسخة المبكرة من النازي أدولف هتلر، بعد أن وقفت روزا لوكسمبورغ إلى جانب الانتفاضة الاشتراكية في برلين.
فكرها إرث الأجيال اللاحقة
إن إصرار روزا لوكسمبورغ على مبدأ العدالة الاجتماعية خلال حياتها وفي مؤلفاتها وخاصة مؤلف تراكم رأس المال يبرز كأحد أهم الركائز التي يحتاجها العالم اليوم في وقت تعصف فيه الحروب والاحتكارات والرأسمالية.
أكدت خلال حياتها على أن الحرية هي دوماً حرية الرافضين وحتى العدو لا يجوز المس بحريته، وضرورة إفساح المجال للرأي المغاير وخاصة في وسائل الإعلام والصحف لتتحقق سلطة الجماهير، أفكارها هي بالضبط ما يحتاجه العالم والمجتمعات التي تعيش حالة كبت على أعلى المستويات من قبل الحكومات والمحتكرين، كانت دائماً ما تكرر عبارة الرحالة الفرنسي لا سال بأن الفعل الأشد ثورية كان وسيبقى الجهر بالأشياء كما هي.