نيللي بلاي... أول صحفية تحقيقات
أصبحت الصحفية نيللي بلاي بفضل مغامراتها وشجاعتها وكتاباتها مصدراً لحياة جديدة للكثير من النساء. سعت دائماً لتحقيق أحلامها وسارت على جميع الطرق لتحقيق النجاح
مركز الأخبار ـ .
صحفية الولايات المتحدة الأمريكية نيللي بلاي التي عاشت بين عامي (1864 ـ 1922)، اسمها الحقيقي إليزابيث جين كوشران وعرفت خلال مسيرتها الصحفية باسم نيللي بلاي كانت من الصحفيين الأكثر شعبية في تاريخ صحافة التحقيقات. استخدام هوية أشخاص ينتمون إلى أماكن صنع الخبر كانت الطريقة التي تتبعها في أغلب تحقيقاتها الصحفية. واحدة من أفضل الأمثلة المعروفة من تحقيقاتها كانت في سنة 1887.
في عام 1887ومن أجل كتابة مقال عن مصحة نفسية للنساء قامت بالتظاهر بالجنون واستطاعت بذلك خداع هيئة المسؤولين عن المصحة ودخولها والإقامة فيها كمريضة نفسية. باستخدام هذه الطرق لفتت انتباه كافة الولايات الأمريكية إليها.
نيللي هي أول امرأة صحفية
اسمها الحقيقي إليزابيث جين كوشران، في كامل قصة نيللي تم تغيير اسمها وهذا الأمر هو أكثر الموضوعات إثارة للاهتمام والتي ستجذب انتباهكم. في سنوات طفولتها كانت تنادى باسم (Pink) بمعنى وردي. بعد وفاة والدها ساء الوضع الاقتصادي للعائلة وأصبحت تعاني ضيق المعيشة. سعت والدتها جاهدة من أجل تدبير أمور المنزل، التي بالكاد استطاعت وبفضل شهادة إليزابيث إنهاء زواجها من شخص آخر عانت معه الكثير من الألم. هذا الأمر كان الحقيقة الأولى التي تقف إليزابيث خلفها. فيما بعد تخصصت في السعي خلف الأخبار المثيرة للانتباه والتي تخص المرأة.
في عام 1880 قرأت إليزابيث مقالاً في الزاوية المخصصة لأحد الصحفيين في صحيفة بيتسبيرغ ديسبات (Pittsburgh Dispateh" المقال الذي كان يحمل طابعاً جنسوياً تعصبياً ويستخدم لهجة معادية للمرأة كان بعنوان "ما الأعمال التي تصل لها المرأة" وكان المقال يحتوي في مضمونه عبارات مثل "سوى الزواج والأمومة لن تفهم أي شيء ولن تصل لأي شيء آخر" كتبت إليزابيث رداً شديد اللهجة للصحفي صاحب هذا المقال. مقال الرد الذي يكتب لانتقاد مثل هذا المقال سيفتح الطريق أمام الكثير من الأشياء ويشكل فارقاً في تاريخ الصحافة. الشخصية التي بعثت المقال تحت اسم وتوقيع "فتاة يتيمة" والتي شكلت للكاتب الذي نتحدث عنه بسبب آرائه حول المرأة صدمة كبيرة، لم تكن سوى إليزابيث التي كانت تبلغ من العمر حينها 20 عاماً. في المقال الذي كتبته إليزابيث وهي في هذا العمر الشاب انتقدت الكاتب ورأت كتاباته خاطئة. بالطبع معرفة اسم الكاتب ليس ضرورياً بالنسبة لنا لأنه أصبح متجذراً في صفحات التاريخ، استطاعت إليزابيث من خلال مقالها لفت انتباه رئيس تحرير الصحيفة وبدأت العمل في هذه الصحيفة وأصبحت بذلك أول امرأة صحفية تعمل في تلك الصحيفة، بعد البدء بالعمل قررت استخدام اسم نيللي بلاي كاسم مستعار. من هنا وصاعداً سيتم معرفتها واستذكارها بهذا الاسم.
إقبالها على الكتابة
رئيس تحرير الصحيفة أعجب كثيراً بمقالها قام وبواسطة إعلان نشره في الصحيفة بدعوتها إلى الحضور للصحيفة لتعرف عن نفسها. عندما ذهبت إليزابيث كوشران إلى الصحيفة لتعرف عن نفسها طُلب منها كتابة مقال آخر لنشره في نفس الصحيفة. إليزابيث هذه المرة وتحت نفس الاسم المستعار تكتب مقالتها الجديدة بعنوان "لغز فتاة" (The Girl puzzle). رئيس تحرير الجريدة جورج مادن هذه المرة أيضاً أعجب كثيراً بمقالها وطلب منها العمل في الصحيفة. في ذلك الوقت معظم النساء الصحفيات كن يستخدمن الرموز والأسماء المستعارة لذلك استلهم اسم نيللي بلاي من أغنية بمساعدة رئيس تحرير الصحيفة واختير كاسم مستعار لها.
كانت ناقدة جيدة
نيللي بلاي كانت تتطرق بشكل عام خلال كتاباتها لحياة المرأة العاملة، بدأت التحقيق بخصوص النساء العاملات في المصانع وإعداد التقارير عنهن. لكنها تعرضت للكثير من الضغوطات وطُلب منها الكتابة في صفحات المرأة عن القضايا والأمور التي تخص المرأة وعن أعمال البستنة وغيرها. في ذلك الوقت كانت معظم كتابات الصحفيات تتمحور حول هذه الأمور. في الحقيقة يمكن القول أنهن أُجبرن على الكتابة في هذه المواضيع فقط أو بالأصح لم تكن لديهن الحرية للكتابة عن قضايا أخرى. نيللي بلاي التي لم تكن راضية أبداً عن تقليص مساحة عملها وتكليفها بالتحقيقات البسيطة سافرت إلى المكسيك وبدأت بالكتابة لصالح صفحة الأخبار الخارجية للصحيفة. في الوقت الذي كانت تبلغ فيه من العمر 21 عاماً قضت ستة أشهر في المكسيك وكتبت مقالات عن ثقافتهم وتقاليدهم. أيضا قامت بجمع كتاباتها الأخرى التي كتبتها في ذاك الوقت في كتاب تحت مسمى "ستة أشهر في المكسيك" وقامت بنشره باسمها. حكم عليها بالسجن عندما احتجت في إحدى مقالاتها على الحكومة المكسيكية في ذلك الوقت وعلى الجنرال بورفيريو دياث لاعتقالهم بعض الصحفيين المنتقدين لهم حينذاك وأُجبرت على مغادرة البلاد. عند عودتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية كتبت مقالاً قيمت فيه دياث ووصفته بالمسيطر الذي يتحكم بوسائل الإعلام.
من أجل تحقيق هدفها ادّعت الجنون
عندما طُلب منها مرة أخرى الكتابة عن الفن والمسرح قامت بترك العمل في صحيفة Pittsburgh Dispatchوبعد أربعة أشهر حصلت على وظيفة في صحيفة Pulitzer وبدأت العمل فيها. طُلب منها التخفي والتظاهر بالجنون لتستطيع الدخول إلى مصحة النساء النفسية (بلاكويل) في أيسلندا وإجراء تحقيقات فيها.
بعد قضاء يوم كامل أمام المرآة انتهت فيه من العمل في التقليد والتظاهر كشخص مجنون تذهب بعدها إلى أحد الفنادق وتقول للقائمين هناك بأنها لا تريد النوم على السرير لأن النوم على السرير يعتبر عملاً مجنوناً وهي تخاف منه كثيراً. في النهاية لم يكتشف أحد أمرها ويصدقون أنها مجنونة ويقومون فوراً بإخبار رجال الأمن وتمثل في المحكمة أمام القاضي تقوم بالتقليد والتمثيل والتظاهر بأنها عمياء لكن القاضي في النتيجة يرجح تعاطيها مواد مخدرة. الأطباء الذين قاموا بإجراء الفحوصات لها أكدوا بأن نيللي بلاي مجنونة بالفعل وهذا أمرٌ لا أمل منه من أجل هذا يرسلونها إلى المصحة. في هذه الأثناء تداولت الصحف الكثير من الأخبار والمقالات عن "هذه الفتاة الجميلة المجنونة".
يضفون صفة الجنون على الكثير من النساء
عانت نيللي بلاي الكثير من الظروف والمعاملة السيئة. وجدت بأن الطعام الذي كان يقدم للنساء المريضات كان بارداً وفاسداً وغير صالح للأكل، المريضات ذوات الحالات الحرجة والخطيرة يتم تقييدهن بواسطة الحبال ببعضهن البعض كان يتم إيقاف المريضات طيلة النهار داخل غرفة باردة دون قيامهن بأي عمل. الطعام كان يقدم لهن في مكان مليء بالأوساخ وكانت الفئران تنتشر في كافة أرجاء المصحة. كانت المريضات يستحممن بالماء البارد. يتم سكب دلاء من الماء البارد فوق رؤوس المريضات كان الحرس ينبهونهن في كل مرة بضرورة التحمل والتزام الصمت وعدم إصدار الأصوات، النساء اللواتي لم يكن يلتزمن الصمت كن يتعرضن للضرب، طبعاً كانت نيللي متأكدة بأن الكثير من هؤلاء النساء لم يكن مجنونات وأنهن دخلن المصحة لأسباب غير منطقية.
تحدثت نيللي بلاي مع الكثير من تلك النساء وأكدت بأنهن لم يكن مجنونات وكتبت؛ هل يعتقدون حقاً أن في استطاعتهم شفاء المرضى من خلال تعذيبهم؟ بالعكس، فالأطباء يقومون بكل شيء لجعل شخص عاقل مثلي مجنوناً. من الساعة السادسة صباحاً وحتى الثامنة مساءً يتم إجبارهن على الجلوس فوق مقاعد صلبة ولا يُسمح لأحد منهن بالكلام أو القيام بأي عمل. من خلال هذه الممارسات وغيرها مثل عدم السماح لهن بمعرفة ما يجري في الحياة والعالم خارج المصحة وحرمانهن من قراءة أي كتاب وإطعامهن طعاماً فاسداً ومعاملتهم السيئة لهن يستطيعون جعل أي شخصٍ عاقل يصبح مجنوناً.
عشرة أيام في المصحة
بعد عشرة أيام خرجت نيللي بلاي من المصحة بجهود الصحيفة وقامت بنشر التقرير الذي أعدته في المصحة في كتاب بعنوان "عشرة أيام في المصحة". تم فتح ملف للتحقيق بخصوص هذه المصحة وطُلبت المساعدة من نيللي من أجل تثبيت الشروط والأحكام والانتهاكات التي تمارس فيها ضد المرضى. تم تخصيص ميزانية، وطُلبت السرعة والتحقق واحتجاز المرضى المجانين بالفعل ليتم التحكم بهن جيداً والسيطرة عليهن. حيث أن الكثير من النساء دخلن إلى المصح لأنهن عارضن أسرهن وأزواجهن ولأن أفكارهن لم تتوافق مع أفكار الآخرين فتم اتهامهن بالجنون وأجبرن على الدخول إلى المصحة.
في عرف المجتمع تمثل التحقيقات والتقصي إحدى المبادئ الأساسية. فإذا عرف شخص ما أنك تتابعه سوف يتحرك بشكل طبيعي من تلقاء نفسه على سبيل المثال في مكان للعمل إذا كان هناك وجود للمساءلة والتحقق فإن كل شيء يسير بشكل جيد وفق المبادئ والقوانين. نيللي بلاي كصحفية كانت تستطيع الذهاب إلى مستشفى المجانين وطرح الأسئلة. لكنها لم تكن لتحصل على الحقيقة ولم تكن لتلتقي النساء اللواتي كن يتعرضن للتعذيب. من أجل هذا اتخذت هذه الخطوة الجريئة التي شكلت بداية عصر جديد في صحافة التحقيقات.
الترحال حول العالم في 80 يوماً
كتاب جول فرن المشهور (حول العالم في 80 يوماً) كان معروفاً لدى الجميع. الكتاب الذي كان يتحدث عن محاولة الإنكليزي الثري فيليس فوغ التجوال حول العالم في 80 يوماً، دفع نيللي بلاي في عام 1888 لإحياء هذه القصة واتخاذ القرار للقيام بمثل هذه الرحلة. بموافقة الصحيفة وبالرغم من الإمكانيات الضئيلة التي كانت تمتلكها بدأت رحلتها في الرابع عشر من شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 1889. حاملة كل ما تمللك من نقود في الحقيبة المعلقة في عنقها.
في هذه الأثناء يشهد العالم مرة أخرى امرأة صحفية مغامرة تسافر حول العالم في 80 يوماً. تقوم الصحيفة التي تعمل فيها نيللي بلاي بالإعلان عن جائزة للشخص الذي يفوز بتحديد المدة المتوقعة لانتهاء نيللي من رحلتها.
نيللي بلاي استخدمت كافة وسائل المواصلات المتاحة آنذاك من بواخر وقطارات، مرت خلال رحلتها بكل من إنكلترا، فرنسا (التي كانت قد تعرفت فيها على جول فرن)، بريندسي، قناة السويس، سيلان، بينانغ وسنغافورة، هونغ كونغ واليابان. كما قامت أثناء رحلتها بالذهاب إلى الصين أيضاً، وقامت بشراء قرد في سنغافورة. نظراً لتأخر مواعيد بعض القطارات وحالة الجو غير المستقرة في المحيطات تأخرت لمدة يومين عن الخطة التي رسمتها لرحلتها، من أجل هذا تابعت رحلتها بواسطة القطار الذي تم إرساله من قبل صحيفة بوليتزر وحققت غايتها المنشودة من رحلتها. يمكن القول أنها سارت كل الطريق لوحدها في رحلتها التي أنهتها في 72 يوماً.
أصبحت مصدراً لحياةٍ جديدة للنساء
تزوجت نيللي بلاي من روبرت سيمان عام 1895 وبدأت العمل في شركة ( (Iron Clad Manufacturingالتابعة لزوجها سيمان، كانت تقود جميع أعمال الشركة. في المصنع قامت بافتتاح صالات للرياضة، مكتبات وساحات للاستراحة من أجل العمال. توفيت سنة 1922عن عمر يناهز الـ 57 سنة إثر إصابتها بمرض ذات الرئة الالتهابية.
في الوقت الذي لم تكن فيه النساء قادرات على التصويت قامت نيللي بلاي بممارسة الأعمال التي كانت تعتبر من أعمال الرجال فقط آنذاك. أصبحت بفضل مغامراتها، شجاعتها وكتاباتها مصدراً لحياة جديدة للكثير من النساء. لإيصال صوت العمال، الفقراء، اللاجئين، النساء وكل الأشخاص الذين لم تكن تسمع أصواتهم. وكانت تبدي دعمها الدائم لمنظمة (Suffragette) الداعمة لحق المرأة في الاقتراع والتصويت.