عميدة المنتجين "آسيا داغر"

أنْ تعرف ماذا تريد أن تكون وماذا تريد أن تفعل، أن تتبع شغفك لتضع بصمتك في الطريق الذي اخترت، فهذا هو النجاح بعينه

مركز الأخبار ـ ، أما أن تستمر فيما بدأت متخطّياً جميع هواجسك والعقبات التي تعترض طريقك فهذا هو التفوّق الذي سيُخلّد اسمك في صفحات التّاريخ.
رغم صعوبة طريق الفن ووعورته، إلا أنّ الفنّانة آسيا داغر استطاعت أنْ تخطّ لنفسها هويّتها الفنيّة الخاصّة مستثمرةً وحدة العناصر بين التمثيل والانتاج السينمائي، مستحقةً وبجدارة لقب عميدة المنتجين العرب.
    
أول فنّانة لبنانية تظهر على الشاشة الفضّيّة
آسيا داغر ممثلةٌ ومنتجةٌ مصريّة من أصلٍ لبناني، ولدت في قرية تنورين في لبنان في 18 نيسان/أبريل 1901، كانت فتاةً مولعةً بمشاهدة الأفلام والسينما والتمثيل، بدأت حياتها الفنّيّة كممثلة في لبنان عندما قدّمت فيلمها القصير "تحت ظلال الأرز" عام 1922، أي بعد سنتين من الاحتلال الفرنسي للبلاد.  
بعد وفاة زوجها عام 1923، شدّت رحالها من لبنان متجهةً إلى مصر بصحبة ابنة شقيقتها ماري كويني وابنتها الصغيرة إلين.
قضت آسيا داغر أربع سنواتٍ في مصر حتّى استطاعت الوقوف مرّةً ثانية أمام عدسة الكاميرا عام 1927، وذلك بعد أن حصلت على دورها الثانوي في أول فيلم مصري صامت اسمه "ليلى"، والذي انتجته وأخرجته رائدة السينما المصرية عزيزة أمير، لتصبح بذلك أول فنّانة لبنانية تظهر على الشاشة الفضيّة.
 
تطوّر مسيرتها الفنّية
واجهت آسيا داغر تحدّياتٍ جمّة لطالما تناسبت صعوبتها مع درجة التقدّم في مشوارها الفني، إذ ظلّت غير مشهورة في عالم التمثيل، بسبب أدائها المُتكلّف في الأفلام الصامتة فضلاً عن لهجتها اللبنانية التي لم تلق قبولاً عند المصريين لكنها لم تيأس.  
لم تقف طموحاتها عند حصولها على أدوارٍ تمثيليّة، بل تعدّتها لإنشاء إمبراطوريتها الانتاجية الخاصة والتي أبصرت النور عبر إعلانها تأسيس شركة "لوتس فيلم" الخاصّة للإنتاج الفنّي، إذ كانت لا تزال في العشرينيات من العمر، حين أدارت دفة الطموح نحو عالم الانتاج الفنّي والسينمائي. 
 
لوتس فيلم 
تلقيب آسيا داغر بـ "عميدة المنتجين" لم يأتي من فراغ، إذ استمرت شركتها الخاصّة "لوتس فيلم"، بإنتاج وتوزيع الأفلام في مصر، في الوقت الذي توقّفت فيه شركات منتجين آخرين مرموقين كإبراهيم لاما وعزيزة أمير وبهيجة حافظ، لذلك استحقت هذا اللقب وأصبحت شركتها أقدم وأطول شركات الانتاج السينمائي المصري عمراً.
بداياتُ شركتها لم تكن مثاليّةً على الإطلاق، فهي لم تمتلك الميزانيات الضخمة ولا حتّى فريق عملٍ خاص بها من الفنّانين المتدربين، مما دفعها للجوء إلى جمع الأصدقاء وبعض أفراد العائلة لتأدية الأدوار في أفلامها الأولى. 
الرغبةُ الجادّة وعملها المتواصل لما يقرب من عشرين ساعةٍ يوميّاً كما أذاع مقربون منها، واللجوء لأبسط الطرق لإنجاز المهام، كتعليقها أشرطة الأفلام على السطح لتجف، والاستعانة بماري كويني لقراءة نصوص الافلام كونها كانت أمية لا تجيد القراءة أو الكتابة، جميعها كانت سبباً في نجاحها. 
بعد عامين على تأسيس "لوتس فيلم"، تمكّنت من انتاج أوّل أفلامها "غادة الصحراء" عام 1929م، والذي كان أوّل بطولةٍ لها، استعانت حينها بالفنّان المصري "وداد عُرفي" لإخراجه، ثمّ تعاونت مع إبراهيم لاما لإخراج فيلمها الثاني بعنوان "وخز الضمير" عام 1931.
اختارت بعدها أنْ تتعاون مع السينمائي أحمد جلال، فأخرج لها كلّ ما انتجته من أفلام في الفترة ما بين عامي (1933 و1942) والتي قاربت العشر أفلام. 
حظيت لوتس فيلم بشهرة واسعة وأصبحت أفلامها تعرض في كل من القاهرة وبيروت، لكن إعلانها عن فيلم الخيال العلمي "عيون ساحرة" عام 1943، أحدث ضجةً وجدلاً كبيرين حول الفكرة التي تناولها الفيلم عن إحياء الموتى وإمكانية إثارته لغضب شعبي، ما دفع الرقابة لرفضه.
بعد أن رُفض الفيلم، لم يكن أمام فريق شركة "لوتس فيلم" سوى التغاضي عن الخسائر وتخطي الأمر، ولكن رئيس الوزراء المصري سنة 1943 تدخّلَ حينها وأعلن إمكانية عرض الفيلم، فكانت تلك المرة الأولى التي تتعاون فيها الحكومة مع آسيا داغر.   
إلا أن أركان لوتس فيلم لم تبقَ كما كانت، بعد أن تزوج أحمد جلال من ابنة شقيقتها الفنانة ماري كويني ليؤسسا معاً استوديو جلال وتفرّغ لإخراج أفلام شركته الخاصة مع زوجته، فكان لابد لآسيا داغر أن تبحث عن مخرج آخر، فاتجهت إلى مساعد مخرج شاب في الثامنة والعشرين من عمره ليقوم بإخراج فيلم "الشريد" عام 1942 وكان هذا المخرج هو هنري بركات.
 
أبرز إنجازات داغر 
كان لها بصمةٌ ظاهرة في السينما المصرية، فبعد أن كان لها السبق في تقديم فيلم الخيال العلمي، انتجت آسيا داغر فيلم "حياة أو موت" الذي تم تصويره كاملاً في الشارع المصري دون اي توقف للتصوير محققاً بذلك إنجازاً يُوثّق في التاريخ، اتبعته بإنتاج أوّل فيلمٍ مصري بالألوان وهو "ردّ قلبي" عام 1958.    
شهرتها التي اكتسبتها بعد أكثر من ثلاثين عاماً في انتاج الأفلام المصريّة، لدرجة أن اسمها كان يتردد في كل بيت مصري، لفتت أنظار الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر مثلما الحكومة، ليقع الاختيار عليها عام 1963، لإنتاج أول فيلمٍ تموّله الحكومة المصرية، فيما اختتمت عام 1969م، سلسلتها الانتاجية بإنتاج آخر فيلمٍ لها وهو "يوميات في الأرياف".  
 
صانعة النجوم
تعتبر آسيا داغر صانعةً لأهم المخرجين والممثلين في تلك الفترة، إذ قدّمت للسينما المصرية مخرجين جدد أصبحوا من الكبار في عالم الإخراج فيما بعد، أمثال: هنري بركات وحسن الإمام وإبراهيم عمارة، أحمد مرسي، يوسف معلوف، عز الدين ذو الفقار وغيرهم، إضافةً لذلك قدّمت للشاشة المصريّة عدداً من النجوم أبرزهم فاتن حمامة وهي في بداية حياتها الفنيّة تخطو نحو السادسة عشرة من العمر في فيلم الهانم عام 1947، واكتشفت المطربة اللبنانية صباح سينمائياً وقدمتها في فيلم "القلب له واحد" عام 1945، وصلاح نظمي في فيلم "هذا جناه أبي" في ذات العام.
 
الفيلم الذي أنهى مشوارها الفني
كان لآسيا داغر اهتمامٌ واضح بالأفلام التاريخية والملحمية، فقد انتجت فيلم "شجرة الدّر" في بداية مشوارها الفني عام 1935م، ثمّ فيلم "أمير الانتقام" الذي أخرجه هنري بركات عام 1950.
إلا أنها توّجت إنتاجاتها الملحمية الضخمة بفيلم الناصر صلاح الدين عام 1963، والذي رُصِدت لهُ أعلى ميزانية توضع لإنتاج فيلم مصري حينها. 
ورغم الإعداد للفيلم لمدة خمس سنوات، إلا أنه تسبب بخسارةٍ فادحة لها تنازلت على إثرها عن كل أملاكها بسبب تكاليف إنتاجه الباهظة، لكن على الرغم من عدم تحقيقه للإيرادات في شبّاك التّذاكر حينها إلا أنه صُنّفَ فيما بعد ضمن أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية على الإطلاق. 
 
الجوائز التي كلّلت مشوارها الفني 
تنوعّت الجوائز كما الألقاب التي حصلت عليها أم السينما المصرية آسيا داغر، إذ تقلّدت العديد من الجوائز الأدبية والفنّيّة، تقديراً لما بذلته خلال مسيرتها المتميّزة والتي كان من أهمها حصولها على وسام الاستحقاق اللبناني، والجائزة الأولى في الانتاج السينمائي عام 1950، وجائزة خاصة من جامعة الدول العربية عن فيلم "الناصر صلاح الدين"، وجائزة الدولة للرواد في مهرجان اليوبيل الذهبي للسينما المصرية تقديراً لمساهمتها الريادية في التمثيل والانتاج.  
بالإضافة إلى جائزة الرواد من جمعية كتاب ونقّاد السينما، والجائزة الأولى في الانتاج في مسابقة الدولة للسينما عن فيلمي "حياة أو موت" و "ردّ قلبي" عام 1958.
 
وفاتها
بعد الخسارة التي تعرّضت لها إثر انتاجها لفيلم صلاح الدين، اتجهت للعمل في الهيئة المصرية للسينما حتى وفاتها في بداية عام 1986عن عمر ناهز 78 عاماً. 
توحي لنا قصّة كفاح الفنانة آسيا داغر بأنّ أيّاً منّا مهما بلغت به الصعوبات، وانعدمت مقومات نجاحه من دعمٍ ماديّ أو خبرةٍ سابقة في المجال الذي نحب، أو حتّى نوعية تحصيلنا العلمي لن تحدد ما سنكون عليه فآسيا داغر استطاعت اثبات نفسها كرقم صعب في ساحة الإنتاج المصري رُغم اغترابها وضعف قدرتها الماديّة، إلا أنّ شغفها بالفن كان كفيلاً بصنع مسيرةٍ حافلةٍ بالإنجاز.