مي زيادة... نابغةُ الأدب ودرّتُهُ اليتيمة

على كثرة المحاولات والمساعي للإضاءة على حياة فريدة عصرها مي زيادة، إلا أن الكثيرين أغفلوا الدافع وراء حسها المُرهف ومعززات عطاءها الدافق الذي أنتج عصارة أدبٍ رفيع قلّ نظيره في عصرها


مركز الأخبار – .
عاشت مي زيادة نابغة الأدب ودرّته اليتيمة الحياة بتناقضاتها بين الازدحام والوحدة، الترحال والحنين، الحبّ ومأساته. 
 
ولادة مي ونشأتها  
وُلدت الأديبة والمفكرة اللبنانية مي زيادة، في مدينة الناصرة الفلسطينية في الـ 11 شباط/فبراير 1886م، لأبٍ لبناني يدعى "إلياس زخور زيادة"، وأمٍّ فلسطينية المولد من أصلٍ سوري تدعى "نزهة خليل".
اسمها الحقيقي ماري زيادة إلا أنها آثرت اسم مي عليه، كانت الابنة البكر لوالديها الذين رُزِقا بطفلٍ آخر سرعان ما غيّبه الموت في سنٍ صغيرة، ما أورث حزناً وأسى للعائلة عامّة ولـ مي زيادة بشكل خاص.
إذاً ما هي مسيرة حياتها وتكوينها، فلا يُعرف ما إنْ كانت قد اختارت الأدب أو هو من اختارها، فقد كانت منكبةً على التعلّم والاستزادة من العلم والأدب في الوقت الذي كانت تعاني فيه الغالبية الساحقة من الشعوب العربية رجالها كما نساؤها من الجهل والانكفاء عن طلب العلم.
بدأت رحلة تعلّمها في أحد الأديرة في مسقط رأسها في مدينة الناصرة، ثم التحقت بمدرسةٍ للراهبات وهي في الثالثة عشرة من عمرها ما بين عامي (1900-1903م)، مما انعكس لاحقاً وبشكلٍ جلي على تكوينها الشخصي والأدبي.
سيدة الأضداد والتناقضات جامِعَةُ الشرق والغرب المنصهرَين في بوتقة وجدانها، جمعت الثقافة والجمال، إلا أنها بقيت متمسكةً بتقاليدها العربية منفتحة الذهن على الأدب الغربي وإن كان بتحفّظ.
 
مؤلفات ودواوين... إرث أدبي كبير
للكاتبة إرث أدبي كبير تضمن العديد من المؤلفات والكتب والروايات بعدة لغات، إذ لم تبدأ مي زيادة كتاباتها باللغة العربية، وشكّل ديوانها بالفرنسية عام 1911 باكورة أعمالها، والذي اتبعته بكتابٍ باللغة ذاتها عنونته بـ "أزاهير حلم"، أما مؤلفاتها بالعربية، فكانت "باحثة البادية" عام 1920، و"كلمات وإشارات" عام 1922، ثم كتبت بعدها بعام "المساواة" عام 1923، اتبعته بإصدار كتابين خلال عام 1924 وهما "الصحائف" و" بين مد وجزر".
 
أثر السفر والتنقل في نفسها
تنقّل عائلتها المُستمر بين البلدان، وسفرها الدائم، خلّف في نفسها أزمة هويّة وانتماء، اثارت تساؤلاتٍ عدّة في نفس مي زيادة، حول ازدواجية الولادة في بلد، والعيش في بلدٍ آخر، باحثةً عن جوهر الانتماء.
آثر والدها إلياس زيادة السفر بدايةً إلى لبنان وعمل هناك كمدرسٍ لبعض الوقت، وفي عام 1908 هاجرت الأسرة إلى مصر لتستقر في "القاهرة" حيث انصرف والدها إلى الصحافة، وأسس جريدة "المحروسة"، التي حرّرت فيها مي زيادة فيما بعد باباً ثابتاً بعنوان "يوميات فتاة" عبّرت فيه عن العديد من الآراء والمقالات الجريئة ما دفعها للتواري خلف اسماءٍ مستعارة مثل "خالد رأفت، ايزيس كوبيا، السندبادة البحرية الأولى... وغيرها من الاسماء، لتعبّر بحريّةٍ أكبر.    
لم تكتفِ مي زيادة بالكتابة بلونٍ أدبيٍّ واحد بل أظهرت براعةً في عدة مجالات منها الصحافة، النقد والترجمة، الشعر، الخطابة وأدب الرسالة.
 
الأدب أضاف لها سحراً خاصاً 
أضاف الأدب الكثير لحياة مي زيادة لمساهمته في توسيع دائرة اطلاعها وطموحاتها وصقل شخصيتها، مجاوزاً بها الصورَ النمطيّة السائدة لفتيات عصرها، فحدّة ذكائها، ثقافتها، وقوّة شخصيتها، كلها كانت بمثابة خيوطٍ ممتدةٍ منها سابحةً في أثيرها الساحر، لتتشابك بأرقى ما صَبَتْ لهُ خيالات رجالٍ ومفكرين وأدباء عاصروها.
 
مسيرة نضالها النسوي
نضالها النسوي وتأثيرها في التأسيس لنهضةٍ نسائية، وبلورة أفكارٍ استقتها من تطورات مسار الأحداث بداية القرن التاسع عشر في أوروبا، التي كانت تضجُّ بالحركات النسوية، دفعها لتتصدّر صفوف المنادين بتحرير المرأة من الظلم المجتمعي الواقع عليها، وطالبت بحقوقها في التّعلّم، كما انتظمت في صفوف المصلحات وصار قلمها صوتاً ومشكاةً تضيء عتمة تخلّف المجتمع.
 
الصالون الأدبي... محطة حياة مي زيادة الأشد ازدحاماً
أما محطة حياتها الأشد ازدحاماً، فاقترنت مع بدايات عام 1913م، حيث كانت السباقة لعقد صالونٍ أدبيٍّ في منزلها كان الأطول عمراً بين الصالونات الأدبية، بعد أنْ استمرّ لغاية الثلاثينيات من القرن العشرين، أي ما يناهز الخمسة والعشرين عاماً وهي أطول فترةٍ عرفها صالونٌ أدبيٌّ شرقّيٌ كان أم غربي.
كانت تعقد ندوةً أدبيةً في منزلها كلّ ثلاثاء، تستقطب فيها المفكرين والكتاب والشعراء وشخصياتٍ مختلفة من علية القوم والاثرياء وحتى الفقراء، يتطرق فيها المفكرون إلى مواضيعَ عدّة في شتّى المجالات باللغة العربية إضافةً للغاتٍ أجنبيةٍ أخرى، وهو ما لم تستسغه مي زيادة ملتزمةً إلقاء جميع خطبها بالعربية الفصحى رغم اتقانها لخمس لغاتٍ أجنبية ألا وهي: الفرنسية، الإنكليزية، الإسبانية، الإيطالية والألمانية.
وهذا يقودنا لتسليط الضوء أكثر على الدور المهم الذي لعبته الصالونات الأدبية بداية القرن الماضي، في نشر الثقافة وإلقاء الضوء على إنتاج الادباء والمفكرين، والتعريف بالآداب المختلفة ودفع الادباء المغمورين الى عالم الأضواء والنجاح، حيث لم تترد مي زيادة في فتح أبواب قلبها كما أبواب صالونها الأدبي لمُريديه، كي يستقوا منه أدباً وشعراً ونثراً وترجمة.
 
عام الرحيل القاسي
لعلّ أقسى عامٍ مرّ على مي زيادة، هو عام 1931، الذي فُجعت به بفقد أعز من تملك، ممَنْ كانوا يخففوا عنها وحشة الأيام ووطأة الرحلة، إذ فقدت في مُددٍ زمنية متقاربة من ذات السنة، أباها في الرابع والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر وأمها في الخامس من آذار/مارس ونديم قلبها جبران خليل جبران في العاشر من نيسان/أبريل، وذلك بعد أن كابد جبران المرض وحيداً في غربته، حيث وافته المنية إثر مرضٍ عُضال ألمّ به أثناء تواجده في أمريكا. 
وقد ربطت علاقة مميزة بينهما إذ راسلته عام 1912م، مبديةً إعجابها بمؤلفاته ليؤسس الإعجاب لبداية علاقة بين الأديبين.
أثمرت المراسلاتُ بينهما، قصّة حبٍّ فريدة لم يجتمع بطليها إلا على صفحات رسائل بيضاء مشبعةٍ بالوجد والاشتياق، دامت عشرون عاماً، تمخّض عنها عشرون رسالة، باتت نبراساً للعشق يُهتدى به، كما انبرى عددٌ من الأدباء لتأليف رواياتٍ عنها.  
 
المؤامرة التي أحيكت لها 
هزّاتٌ نفسيّة وعاطفيّةٌ متتابعة، كان لها الأثر في أن يختلّ توازن مي زيادة، إلا أن من منحته ثقتها، وهو ابن عمّها وخطيبها السابق، جوزيف زيادة، اصطف إلى جانب المتربصين بها، وأخذ يحيق لها مكراً، فكانت النتيجة، أنْ فُجعت الأديبة في "ابن عمها" الذي وثقت فيه، بعد أن انتزع منها توكيلاً عاماً يتيح له التصرّف بممتلكاتها، فأخرجها من بيتها، ونقلها لمستشفى الأمراض العقلية والعصبية في لبنان ويُعرف باسم "العصفوريّة"، والذي بقيت سجينة أسواره لسبعة أشهرٍ تعرّضت فيها لجميع أشكال الضرب والمهانة. 
أشيع خبر "جنون مي" بين أقرانها وأصدقاءها، الذين ضاقت دوائرهم بعد أنْ ألمّت بها هذه المحنة، إلى حين أن تمكّنت مجلة "المكشوف" اللبنانية في السابع من شباط/فبراير 1938 من لفت انتباه القضاء والأدباء إلى المؤامرة التي وقعت الأديبة في شراكها، لِتُنقل على إثرها إلى بيت صغير في منطقة رأس بيروت استأجره لها بعض المُتعاطفين معها. 
 
مي زيادة تقول كلمتها الفصل 
عادت مي زيادة لتقول كلمتها الفصل، بعد أنْ جددت العهد بالعودة إلى نشاطاتها الفكريّة والأدبية كسابق عهدها، تنكبُّ بنهمٍ على قراءة الكتب وتُعدّ المُحاضرات وتكتب المقالات.
فحددت الثاني والعشرين من شباط/فبراير من 1938، موعداً لإلقاء محاضرة في الجامعة الأمريكية ببيروت تحت عنوان "رسالة الأديب إلى المجتمع العربي"، فكانت بمثابة الرّهان القاطع الذي لا يقبل الشّك على حضورها الذهني وسلامة قواها العقليّة مِنْ كلّ ما أشيع عنها، ما استدعى وقوف الحاضرين لها بعد أن فرغت من محاضرتها، ليصفقوا لها وبحرارة وسط إعجابهم بها.
 
وفاة مي زيادة 
توفيت الأديبة مي زيادة عن عمرٍ ناهز 55 عاماً، فيما اختلف على تاريخ وفاتها فبعض المصادر تقول إنه في 17 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1941، وبعضها يقول إنه بعد ذلك بيومين.
فارقت الحياة في مستشفى "المعادي" بالعاصمة المصرية القاهرة، ورثاها العديد من الكتاب والمؤلفين في عددٍ من المقالات في الصحف، أبرزهم الرائدة النسويّة المصرية هدى شعراوي والتي قالت في رثائها "انها كانت المثل الأعلى للفتاة الشرقية الراقية المثقفة".
 
تكريم مي زيادة 
اختارتها وِزارة الثَّقافة الُّلبنانية، في عام 1999م، كشخصية العام الّذي أقيم حَوله الاحتفال السنوي تحت عنوان "بيروت العاصمة الثقافية للعالم العربي".
يتبقى التأمّل في الصفوة الأدبية النهائية لحياة كاتبةٍ استثنائيةٍ من طراز "مي زيادة"، يجعلنا نطيل التأمّل في حياة الأديبات العربيات المُعاصرات، لرسم مقارباتٍ أدق عن النسق الذي بُتنا مطالبات به، بعد عقودٍ من مرحلة الريادة النسوية التي خطّت حروفها مي وأمثالها، دون أن تحيد أنظارنا عمّا انتجت من أدبٍ رفيع دامغٍ في الذاكرة والوجدان.