ماري عجمي... الصحفية والأديبة المناهضة للاستعمار والرجعية
أديبة سورية حاربت الاستعمار بقلمها ودافعت عن حقوق النساء. هي مي وزيادة كما قال عنها الزعيم السياسي فارس الخوري
مركز الأخبار ـ . نضالها وحضورها كأديبة سورية مدافعة عن حقوق أبناء بلدها صفحة مشرقة من تاريخ سوريا ونسائها.
ماري عجمي عاشت حياتها وهي تدافع عن التراب السوري وعن حقوق النساء لكنها ماتت وحيدة ومريضة في منزلها بباب توما بدمشق، قد ظن الجميع انها ميتة قبل موتها.
عندما ودعت الحياة في 25 كانون الأول/ديسمبر عام 1965 عن عمر ناهز 77 عاماً لم يحضر جنازتها سوى 16 مشيعاً لم يكن بينهم سوى أديب واحد هو فؤاد الشايب. لم يطلق اسمها على مدرسة ولم يبنى لها تمثال، لكن وبعد عام من وفاتها أقام لها اتحاد الجمعيات النسائية في سوريا حفل تأبين على مُدرج جامعة دمشق في 25 نيسان/أبريل 1966 وكذلك طبعت لها وزارة الثقافة والإرشاد القومي عام 1969 كتاب مختارات من الشعر والنثر تحت عنوان "دوحة الذكرى".
ماري عجمي ارتبطت بمراسل مجلة العروس في بيروت بيترو باولي ذا الأصول اليونانية والذي كتب مقالات شجاعة عن جرائم المحتل العثماني فراح شهيداً لقضيته، فعندما تم اعتقاله وأودع في سجن عالية بلبنان، كانت ماري عجمي لا تنقطع عن زيارته وبذلك اطلعت على أحوال المعتقلين.
استمرت على تلك الحال بعد نقله إلى سجن قلعة دمشق فكانت تقدم الرشوة للسجانين ليسمحوا لها بلقائه، يقال إنها كانت تطرق بعكازها على قساطل المياه التي تربط عين الفيجة بالسجن لتوصل صوتها إلى خطيبها والسجناء.
مما زاد من حنقها على المحتل العثماني هو إعدام بيترو باولي في 6 أيار/مايو 1916 فبقيت وفية لذكراه وعاشت بقية حياتها وحيدة ولم تتزوج فالعيش وحيدة كان خيارها بعد استشهاد خطيبها.
العروس... أول مجلة نسائية في سوريا
استطاعت جمع أسماء بارزة في مجلتها العروس التي انشأتها عام 1910 في الاسكندرية قبل نقلها إلى سوريا أمثال أديب فرحات وأحمد شاكر الكرمي وإيليا أبو ماضي والرصافي والزهاوي وبدوي الجبل، والأخطل الصغير بشارة الخوري وغيرهم، استعانت بكُتاب رجال كون النساء في تلك الفترة لم يكّن قد انخرطن في المجال الأدبي إلا بشكل قليل جداً.
عدد من النساء اللواتي وظفتهن في هيئة التحرير كن يكتبن بأسماء مستعارة ليتجنبن مشاكل اجتماعية قد تحدث، أما الأخريات كن أكثر شجاعة ونشرن بأسمائهن الحقيقية منهن روز شحفة، وأنس بركات، وزينب فواز وشقيقتها أديل عجمي ونازك العابد وغيرهن.
في 32 صفحة وهي عدد صفحات أول طبعة من المجلة كانت تسعى لتحرير المرأة من قيودها والرجل من أفكاره الرجعية ونظرته الدونية للمرأة.
بإصدار المجلة أصبحت مي عجمي أول امرأة تصدر مجلة من سوريا اختارت لها شعاراً هو "إن الإكرام قد أعطي للنساء ليزين الأرض بأزهار السماء".
مرت المجلة بفترة حرجة خلال الحرب العالمية الأولى التي اندلعت عام 1914 في ذات العام توقفت العروس عن الصدور وعادت مرة أخرى بعد انتهاء الحرب عام 1918 لكن بعدد صفحات أكثر وصل إلى 64 صفحة تنوعت موضوعاتها.
المجلة ومنذ صدورها تابعت الحركة الثقافية وحركة تحرير المرأة وكانت ذات توجه وطني، ففي أول مقال لها قالت "مجلة العروس لا عريس لها سوى الشعب الجائي على أقدام حريته يطلب بركة الوطنية تحت سماء العلم". ناقشت مواضيع عدة من الأدب والتاريخ إلى البيئة وتربية الأطفال، وكان لها حيزاً للمناظرات الأدبية.
عندما توقفت المجلة بشكل نهائي عن الصدور في عام 1926 كان قد صدر منها حوالي 11 مجلداً في 6900 صفحة.
ثورة القلم
ارتبطت بشهداء 6 أيار/مايو 1916 الذين حاربوا بقلمهم إجرام الدولة العثمانية، قالت إنها كانت تسمع أنينهم "أرى المشانق المنصوبة كأنها مواقف مناطيد المجد المحلقة إلى السماء".
خلال زياراتها المتكررة إلى السجون بعد إعدام الشهداء في ساحة المرجة (تسمى اليوم بساحة الشهداء) شاهدت بأم العين الأوضاع المأساوية في المعتقلات، دون خوف من انتقام الدولة العثمانية قالت عن جمال باشا والي بغداد بأنه شر طاغية ابتليت به البلاد.
ماري عجمي لم تبع قلمها رغم الضغوط والمغريات، الفرنسيون حاولوا إسكاتها، عرضوا عليها مبالغ كبيرة لتكف عن انتقادهم في مجلة العروس. فكان إغلاق المجلة جراء رفضها القاطع لخيانة بلدها طريقتهم للرد على ثوريتها.
تقول عن تلك الفترة "بعد أيام قليلة انقضت على استيلاء فرنسا على دمشق جاءني شرطي يدعوني فيها إلى اجتماع لكني أبيت أن ألبي الدعوة... بعد انعقاد الاجتماع سألتُ عن القصد منه فقيل لي إن مدير إدارة المطبوعات الفرنسية خطب في الحضور وهم الكتّاب وعلّمهم كيف يكتبون ووزع عليهم ورقاً بلا ثمن ووعدهم بالمساعدة".
لم يكن نضالها بمنأى عن قضايا المرأة، حياتها التي قضت معظمها تدافع عن حرية وطنها واستقلاله كانت لا تنفك عن قضية نهضة المرأة من أجل المشاركة في بناء هذا الوطن عن طريق تعليمها وتثقيفها، تأسيس النادي النسائي في دمشق أحد ثمار جهودها، أسست جمعية "نور الفيحاء وناديها". ومع زميلتها الأديبة والمناضلة النسوية نازك العابد أسست مدرسة لبنات الشهداء في دمشق عام 1920.
لم تتفرغ للكتابة
لم تتفرغ ماري عجمي لكتابة الشعر مع أنها عضو الرابطة الأدبية التي تأسست في دمشق أوائل العشرينيات، ولو كانت تفرغت له إذاً لأصبحت أشهر شعراء عصرها، تقول عن مزاجيتها في الكتابة "تارة أكون ذاهلة خامدة لا أبصر ولا أفكر وآونة أتلهف على ورق وقوة لحمل القلم لأقيد تلك الشعاعات الدماغية التي يدعوها الناس بالخواطر احتفاظاً بها".
اعتبرت أن الكتابة مسؤولية وإحساس داخلي، لم تكن لديها هموم للارتباط بالوسط الثقافي ولم تكن لديها نزعة لإظهار نفسها كأديبة وشاعرة في المجتمع "إننا نكتب حباً بقومنا، وندرس بدافع الفطرة لا اهتياجاً بمحيط أدبي حولنا أو بوراثة عائلية أو لرأس مال علمي كبير مكنتنا من الحصول عليه جامعاتنا الأنانية وكلياتنا العالية".
قال الأديب محمود الحاج سعيد أنها لم تعط الشعر إلا جانباً يسيراً من اهتمامها ولو أنها تفرغت له كما تفرغ غيرها لكانت شاعرة تقف إلى جانب كبار الشعراء دون ريب.
اكتفت بمجموعة من القصائد بمواضيع متنوعة وترجمت روايتين هما "المجدلية الحسناء" عام 1913، و "أمجد الغايات" عام 1927. حتى اليوم ما يزال قسم كبير من مقالاتها ومخطوطاتها غير منشور.
في البداية كانت تنشر قصائدها ومقالاتها تحت اسم مستعار "ليلى" وبعد ازدياد شهرتها بدأت تستخدم اسمها الحقيقي. كتاباتها وعلى قلة عددها خلدت أسمها في ذاكرة السوريين والعرب، نضالها لمنح النساء حقوقهن خلدها في ذاكرة النساء المدركات لحقوقهن.
في بدايات القرن العشرين وتحديداً في عام 1944 انتخبت عضواً في جمعية حلقة الزهراء لسيدات ورجال الأدب، وكرمت من قبل النادي الأرثوذكسي بدمشق عام 1929. وبمناسبة مرور 25 عاماً على عملها في مجال الصحافة احتفلت بها الأوساط الأدبية باليوبيل الفضي عام 1926. وما بين عامي (1946ـ1947) فازت بجائزتين من الإذاعة البريطانية أحدهما عن قصيدة الفلاح.
سيدة في التواضع والصراحة
ماري عجمي التي ولدت بدمشق في 14 أيار/مايو عام 1888 تنقلت بين مصر وفلسطين ولبنان والعراق ودرست في مدارس مختلفة، مما زاد من وعيها وأدراكها لقضايا الأمة وقضايا المرأة. اتقنت عدة لغات إضافة إلى لغتها العربية الجيدة فقد درستها في مدرسة الفرنسيسكان "دار السلام"، ويبدو ذلك واضحاً من خلال قوة وبلاغة قصائدها ومتانة القافية وبلاغة المعنى. وكانت تهتم بالغوص في اعماقها عبر قراءة القرآن رغم أنها مسيحية وهو ما يدل على انفتاحها على الأديان والثقافات المختلفة.
صقلت شخصيتها من خلال اطلاعها على ثقافات مختلفة عربية وغربية من خلال دراستها في المدرسة الإيرلندية والروسية التين كانتا موجودتان في دمشق. إضافة إلى عملها في التعليم فقليل منّا من يعرف أن الأديبة والشاعرة نازك الملائكة تتلمذت على يد الأيقونة ماري عجمي، فبعد إغلاق مجلة العروس اتجهت نحو التدريس مع أن لديها خبرة في التمريض نتيجة لدراستها في الجامعة الأمريكية ببيروت عام 1906 لكنها لم تكمل تعليمها، أصاب إحدى ساقيها الضعف جراء مرض هاجم عظامها فكانت تستعين بعكاز منذ شبابها.
كل خبراتها وثقافتها لم تعلي فيها حب الذات أو التكبر تميزت بالتواضع قال عنها الأديب والمؤرخ اللبناني جرجي نقولا باز بأنها سيدة "تحب البساطة في شؤون الحياة، أبية النفس، حرة الفكر، صريحة الكلام، جريئة مخلصة". وعن شخصيتها قالت عنها الأديبة وداد سكاكيني بأنها امتلكت أسلوباً مميزاً في الكتابة والحديث وهو أسلوب التهكم "كانت تصيب بلمحاته الخاطفة ما لا يصيب غيرها بالنقد والملاحظة، إذا استمعت لرأي لا يعجبها عاجلته بيديها وطبعته بالنكتة... لعل أبرز ما عرفت به هذه الشاعرة الأديبة هو الصراحة التي جافاها من أجلها الذين يصطنعون في حياتهم المجاملة والمداورة".