ماضي الصحافة النسوية بقلم وكلمة مريم نرمة

المرأة العراقية عاشت حياة البؤس خاصة في القرن التاسع عشر الميلادي بسبب الاضطهاد الذي عانته في ظل الحكم العثماني والبريطاني والمناخ المحافظ، حتى أنها شكلت موضوعاً يتم تجاهله.

مركز الأخبار ـ من رحم النضالات ابصرت رائدة الصحافة في العراق مريم نرمة النور، وكسرت المعايير وعبرت عن أفكارها ومعتقداتها للتغيير وتعزيز الوعي وخلق حياة أفضل للمرأة العراقية والعربية، اتصفت بصراحة انتقاداتها وأحكامها.

 

صفحات من تاريخ أول صحافية عراقية

حياة المرأة في بغداد بائسة خاصة في ظل الحكم العثماني والاحتلال البريطاني وسيادة المناخ المحافظ، حتى أنها لم تكن هناك أي امرأة تستطيع القراءة وإذا كان بإمكانها ذلك كان غير شائع إلى حد كبير، كل ذلك يعطي صورة للاضطهاد الذي عانته المرأة في ذلك الوقت، إلا أنه في بعض الأحيان من رحم النضالات يخلق أشخاص يكسرون المعايير منهم الصحافية العراقية مريم نرمة التي بدأت كتابة المقالات للصحف المحلية في سن مبكرة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وبعد احتلال بلادها من قبل بريطانيا وقبل أن يصبح العراق بلد حديث، كانت صريحة في انتقاداتها وأحكامها حددت المخاوف المجتمعية وبثت آرائها علناً وناقشتها وبذلك رسمت لنفسها خطة ومساراً مختلفاً عن المعاصرين لها.

استطاعت الصحافية العراقية مريم نرمة بالكتابة تغيير الكثير من المفاهيم والأفكار في المجتمع العراقي والعربي، فكانت من أبرز النساء اللواتي حاولن الخروج من القوقعة إلى فضاءات الحرية سواء بالكلمة أو بالعمل.

تعود أصولها لأسرة مسيحية كلدانية من ناحية تلكيف التابعة لمدينة نينوى العراقية من مواليد بغداد عام 1890، لقبت منذ طفولتها بـ "نرمة" وتعني اللين الناعم، سجلها والدها في المرحلة الابتدائية ونجحت بها عاماً تلو الآخر حتى تخرجت بمرتبة شرف، ندرة المدارس الثانوية للفتيات في بغداد لم تمنع مريم نرمة من متابعة دراستها فالتحقت بمدارس البصرة أقصى جنوب العراق وأنهت تعليمها هناك وعادت إلى بغداد، عودتها إليها بمثابة إشارة لبداية جديدة، حيث أصبحت أكبر سناً وأكثر حكمة وذكاء وأقوى ونظرتها موجهة إلى الأفق وما بعده، واكتشفت شغفاً جديداً هو الكتابة، فبدأت تكتبت عن مواضيع مختلفة أثرت في حياتها اليومية وحياة النساء من حولها.

 

أول مقال في تاريخ الصحافة العراقية

تزوجت مريم نرمة في سن الواحد والعشرين، لقبت ذاتها بعدة ألقاب بعد أن عملت في مجال الصحافة منها "أختكم مريم نرمة الكلدانية" و"مريم نرمة الكلدانية العراقية"، كتبت أول مقال لها بعنوان "إلى طائفة من العراقيين" في مجلة "دار السلام" عام 1921 تحت اسم مستعار "كلدانية عربية عراقية"، فكان أول مقال تكتبه امرأة وبذلك أصبحت أول صحافية في تاريخ العراق وأول امرأة تدافع عن حقوق النساء، وفي جزء من مقالها كتبت "إذا أردتم أن تعرفوا رقي أمة فانظروا إلى نسائها "نابليون"، وتحقيقاً لذلك راجعوا تاريخ العالم الماضي والحاضر، فإنكم ترونه يفصح لكم عن منقلب أمم وقبائل شتى منها متمدنة ومنها جاهلة، منها مجتهدة ومنها خاملة ضعيفة، ثم تمعن في الضعفاء وسترى أنهم لم يفيدوا المجتمع الإنساني، إذ خلوا من صفات التحضر، وقد أحاط بهم الخذلان والجهل لجهل نسائهم، أما تاريخ الأجيال القوية فقد استفادت من الإلمام بجلال النعم العظيمة، ودفعتها إلى الأمام بفضل رجالها العظماء الذين لم تربوا إلا في أحضان أمهات عظيمات المدارس الأولى للأطفال".

لم تكتفي بذلك فضاعفت جهودها في الكتابة حتى أثرت على جميع الصحف المحلية تقريباً في ذلك الوقت، وخصصت عمود أو عمودين موجهين للجمهور النسائي، كما سلطت الضوء على المزيد من المقالات حول تعزيز حقوق المرأة مثل الحق في الوصول إلى التعليم أو وجود قوانين تحظر العنف القائم على النوع الاجتماعي وحتى حقوق المرأة في الوصول إلى أسواق العمل الخاصة والعامة، كما عرفت مريم نرمة لدى السلطات البريطانية في العراق، واستطاعت بكلمتها دفع السلطات المحلية في البلاد لبناء المزيد من المدارس للنساء خاصة في بغداد والحلة ووضع العديد من القوانين لحماية حقوق المرأة في العراق المؤسسة حديثاً.

وبعد حصولها على وظيفة كاتبة عمود في صحيفة "الصباح" ذات الانتشار الواسع وأكبر مؤسسة صحفية في العراق، توفرت لها منصة أكبر للوصول إلى جمهور أوسع، كما عملت كمعلمة حيث تمكنت من تعليم الفتيات قيمها ورؤيتها وإلهام الأجيال الجديدة لتكون مستقلة ومتمكنة وبعيدة النظر.

 

بالقلم والكلمة نادت بحقوق المرأة

وبعد عقود من الكتابات المتواصلة التي أثرت على المجتمع ومع تحسن أوضاع النساء في بغداد ومناطق أخرى بسبب النمو الاقتصادي والتنمية الحضرية، لاحظت مريم نرمة أن وجود عمود أسبوعي لن يكون كافياً لرفع مستوى المرأة أو تمكينها، لذلك قررت إطلاق جريدتها التي تديرها وتكتبها وتحررها وتنشر فيها عراقيات فقط، فجريدة "فتاة العرب" التي أسستها عام 1937 والتي وصفتها بأنها "خدمة لنساء العراق ولإصلاح المجتمع ككل"، خلال ستة أشهر فقط نشرت 25 طبعة وكانت العدد الأول ستة عشر صفحة بينما الطبعات اللاحقة كانت مكونة من ثماني صفحات فقط.

و"فتاة العرب" لم تكن أول جريدة تهتم بحقوق المرأة، فقد كانت "جريدة ليلى" التي تأسست عام 1923 هي الأولى إلا أنها تعرضت للسخرية على نطاق واسع بسبب سوء معايير كتابتها وقصر نظرها وضعف تحريرها، ومع ذلك كانت "فتاة العرب" أول صحيفة على الإطلاق تتمتع بمعايير كتابة عالية وتديرها النساء بالكامل، بدءاً من الكتابة وحتى التوزيع، إلا أنها تعرضت لضائقة مالية كونها لم تكن تحقق أرباحاً كبيرة، حيث استخدمت مريم نرمة منزلها الخاص ليكون مقراً للصحيفة إلا أن ذلك لم ينجح، حتى أنها ذكرت في مذكراتها أن السفارة البريطانية اقترحت عليها تمويل الصحيفة لاستمرارها مقابل نشر بيانات صحفية مؤيدة للانتداب البريطاني وهو ما رفضته، وقالت "لن أكون خائنة للعراق"، وبعد بضعة أشهر اضطرت إلى إغلاقها بعد إصدار العدد الأخير رسمياً بعد تسعة أشهر من تأسيسها.

 

كلدانية عراقية عربية رائدة الصحافة العراقية

على الرغم من إغلاق صحيفتها الخاصة لم تتوقف مريم نرمة عن الكتابة بل واصلتها في ذات الصحف التي بدأت حياتها المهنية منها، وكانت أعمدتها وأحياناً مقالاتها طويلة موجودة كل أسبوع في جريدة "الصباح" و"دار السلام" بالإضافة لجريدة "صنداي بوست"، وكانت من الصحفيين/ات القلائل في العراق الذين سمح لهم بنشر مقالات متعددة الصفحات، ففي مقالتها التي حملت عنوان "حلم الربيع" تزيد عن 3850 كلمة موزعة على 11 صفحة، وقد أثارت هذه المقالة الكثير من الجدل وانتقدت فيها مدرسة الراهبات المسيحيات في بغداد.

تطور أسلوبها في الكتابة، فلم تكتب فقط لتعزيز حقوق المرأة إنما كتبت أيضاً العديد من المقالات التي تنتقد النساء اللاتي على حد قولها إنهن "ضائعات، خاضعات، بلا طموح ولا طريق"، وذكرت في الكثير من الأحيان أن "التعليم هو أقوى سلاح للمرأة"، وخلال الذكرى المئوية لتأسيس الصحافة العراقية وصدور صحيفة الزوراء، كرمتها وزارة الثقافة العراقية عام 1969 لكونها إحدى رائدات الصحافة النسائية.

توفيت عن عمر ناهز 82 عاماً تاركةً إرثاً يتمثل في تمكين العراقيات من ممارسة مهنة من اختيارهن والتحدث علناً والطموح والاستقلالية من خلال كتاباتها الجريئة والتزامها الثابت بالدفاع عن حقوق المرأة، فكانت أبرز الشخصيات العراقية وأيقونة نسوية مهدت الطريق أمام المرأة لكسر الحواجز وتحطيم الصور النمطية في المجالات التي يهيمن عليها الذكور، وقد استمرت مساهماتها في الصحافة في جذب الانتباه إلى القضايا المهمة.