كوكب الشرق... أم كلثوم

تعد السيدة أم كلثوم واحدة من أهم الأصوات الفنية على الساحة الغنائية العربية في القرن العشرين

مركز الأخبارـ ، التي رحلت عن عالمنا لكن صوتها لم يرحل ومازال منتشر إلى الآن بين الأجيال.
فهي من غنت لكبار الشعراء وأعظم الملحنين الأغاني الدينية والعاطفية والقومية التي فتنت به الجماهير العربية لمدة نصف قرن، وشاركت بالتمثيل في العديد من الأفلام السينمائية.
 
بداية مشوارها الغنائي
كوكب الشرق هي فاطمة بنت الشيخ إبراهيم السيد البلتاجي التي اشتهرت باسم "أم كلثوم" ولدت في 4أيار/مايو 1908، في قرية تاماي الزاهرية بمحافظة الدقهلية بدلتا النيل في مصر.
أرسلها والدها إبراهيم البلتاجي إلى الكتّاب لتعلم القراءة والكتابة، وكان هو إمام جامع القرية ومنشد في المناسبات الدينية، بدأت أم كلثوم التجول معه في سن صغيرة وتعلمت منه الغناء وتلاوة القرآن عندما كان يعلم أخاها الأكبر الغناء، وفي أحدى المرات استمع والدها إلى صوتها، فأنبهر من قوة نبرتها فقرر أن تشاركه في إحياء الحفلات والمناسبات التي يُدعى إليها، ووجدت هي فرصة سانحة للغناء في فرقته الأنشادية فبدأت بتأدية الأغاني في الأعراس وإنشاد الآيات القرآنية في المناسبات الدينية، حيث كان عملها مجرد مصدر دخل إضافي للأسرة لكنها تجاوزت أحلام الأب حين تحولت إلى المصدر الرئيسي لدخل الأسرة، لكن لكونها امرأة تغني التواشيح الدينية آثار حفيظة البعض، لذا ألبسها والدها معطفاً وغطاء رأس بدوي أسود، لا يظهر منه سوى فمها وعينيها، فكانت تقدم على أنها صبي، لكنها صوتها تحرر من قيود التفرقة الجنسية ولمع ليجذب أبرز الموسيقيين آنذاك.
وفي عام 1916 تعرف والدها على كل من عازف العود وأحد عمالقة الموسيقى العربية زكريا أحمد والمغني الشهير أبو العلا وكانا من الملحنين المعروفين، فأقنعاه بأن يترك القرية وينتقل إلى القاهرة حيث الشهرة والفن والثراء، وكانت تلك نقطة التحول في حياة أم كلثوم، حيث اكتشفوا موهبتها حينذاك، فقدمت أولى حفلاتها الأنشادية في ليلة الإسراء والمعراج في قصر "عز الدين يكن باشا" ولشدة أعجابهم بصوتها أهدتها سيدة القصر حينها خاتماً ذهبياً وثلاثة جنيهات.
بعد ذلك بدأت الغناء في منازل الأثرياء الذي تحول فيما بعد إلى مصدر رزق لها، ما لبث الأمر إلا أن بدأت التجول في دلتا النيل لتغني في المناسبات الدينية والعائلية. وتحولت موهبتها فيما بعد لتقديم العروض الموسيقية لجمهور القاهرة الذي لقبها بـ "البدوية" نظراً لخلفيتها الريفية وأدائها الموسيقي التقليدي وملابسها التي تعكس البيئة التي أتت منها.
الظهور في بيوت الأثرياء فتح طريق الشهرة أمام "كوكب الشرق" وتوالت حفلاتها على مسرح البوسفور في ميدان رمسيس ومسرح حديقة الأزبكية.
وقدمت في عام 1924 أول أسطوانة لها وغنت خلالها قصيدة "حقك أنت المنى والطلب" التي حققت مبيعات كبيرة.
 
التعاون مع الملحنين الكبار
أدركت أم كلثوم أن الموهبة وحدها لا تضمن لها الاستمرار، فتعلمت أصول الموسيقى على يد الملحن أمين المهدي، وكذلك العزف على العود على يد محمد القصبجي وأمين مهدي ومحمود رحمي، لكن أبرز الأحداث التي دفعتها إلى الشهرة عندما غنت في إحدى الحفلات أغنية "الصب تفضحه عيونه" وسمعها الملحن والموسيقار المصري محمد القصبجي والذي أقنعها بضرورة تكوين فرقة موسيقية خاصة بها، فتخلت أم كلثوم عام 1926 عن فرقة والدها وشقيقها خالد وغيرت طريقة ملابسها وارتدت ملابس عصرية، وشكلت أول تخت موسيقى (فرقة مؤلفة من الموسيقيين والآلات المختلفة) الذي تكون من أمهر الموسيقيين وفيه انتقلت أم كلثوم من مغنية شعبية إلى مطربة محترفة بالإضافة إلى موسيقى عصرية ومتطورة، وتغيير نمط أغانيها من الأغاني التقليدية والدينية إلى الأغاني المعتمدة على أشعار وألحان حديثة.
لكن نجم أم كلثوم لمع في سماء الساحة الفنية بعد أن غنت مونولوج "إن كنت أسامح وأنسى الأسية" في عام 1928، ولحنت في نفس العام أغنية "على عيني الهجر" فحققت أسطوانتها أعلى المبيعات، واختيرت في 31 أيار/مايو عام 1934 لتكون أول مطربة تغني في الإذاعة المصرية.
ويعد تعاونها مع الملحن رياض السنباطي نقطة الإنطلاقة في مشوراها الفني، أذ قدمت معه 40 أغنية، وكان من بين الأغاني التي لحنها أغنية "على بلد المحبوب وديني" التي سرعان ما انتشرت بين الناس، وذلك كان عام 1935، كما لحن أغنية "يا ريتني كنت النسيم".
لم تقف حدود أم كلثوم عند الغناء بل أسست أول نقابة للموسيقيين برئاستها في عام 1943, وبقيت رئيسة لها لمدة عشرة سنوات، وشغلت العديد من المناصب في اللجان الحكومية في مجال الفنون، وكان لها شعبية قوية بفضل تبرعاتها السخية للقضايا العربية.
لكن بعد ثورة تموز/يوليو عام 1952 منعت أغاني أم كلثوم من البث في الإذاعة المصرية واقيلت من منصب نقيب الموسيقيين؛ لأنها اعتبرت من مطربات العهد البائد وتنتمي بصلة إلى العهد الملكي، لكن أغانيها لم تمنع طويلاً، فعادت بقوة مرة أخرى إلى الغناء. كما تعرضت الإذاعة المصرية لتهديد من إسرائيل بقصفها، فرفض الموسيقيون الذهاب إلى الإذاعة لتسجيل النشيد خوفاً من تهديد اسرائيل، لكن أم كلثوم أصرت على غناء أغنية "والله زمان يا سلاحي" التي كانت قد حفظتها على ضوء الشمعة لانقطاع التيار الكهربائي، وأصبح ذلك النشيد الوطني للبلاد.
وبالرغم من انشغالها بالغناء إلا أن كوكب الشرق وقعت في الحب وتزوجت من الدكتور حسن السيد الحفناوي عام 1954، لكنها لم تهمل عشقها للغناء فتواصلت مع كل الأجيال وكانت حريصة على التعاون مع ملحنين جدد واستعملت آلات موسيقية حديثة.
كما عرفت أم كلثوم بحبها وعشقها لتراب مصر وأثبتت ذلك من خلال دعمها للجيش المصر والخزانة المصرية عقب نكسة حزيران/يونيو 1967، من خلال قيامها بجولات عربية شملت كل من بغداد وبيروت وطرابلس.
وقدمت في 15تشرين الثاني/نوفمبر عام 1967 حفلاً على مسرح "الأوليمبيا" في فرنسا بمدينة باريس وغنت أغنيتها الشهيرة "الأطلال".
 
أعمالها
برعت أم كلثوم في المديح النبوي والغناء الديني وخاصة أداء القصائد الطويلة والشعر القديم ومنها "نهج البردة، سلوا قلبي، ولد الهدى، أراك عصي الدمع، رباعيات الخيام". 
كما غنت قرابة 320 أغنية، خلال مسيرتها الفنية التي امتدت مدى 50 سنة، وعلى مدار السنوات الطويلة كانت تبث حفلاتها الشهرية عبر الإذاعة الحية في أول ليلة خميس من كل شهر لتصل إلى ملايين المستمعين في مصر والعالم العربي، وكانت هذه الأيام تعرف باسم "ليالي أم كلثوم".
وتميزت في الغناء العاطفي ومن أبرز أغانيها "أنت عمري، الأطلال، الحب كله، أروح لمين، أغداً ألقاك"
كما شاركت وغنت في ستة أفلام وهي فيلم وداد في عام 1935 وغنت فيه "يا طير يا عايش أسير، على بلد المحبوب، يا ليل نجومك شهود، ليه يا زمان كان هوايا". وفيلم نشيد الأمل في عام 1937 غنت فيه "يا بهجة العيد، منيت شبابي، افرح يا قلبي لك نصيب"، وفيلم سلامة في عام 1944 غنت فيه "قالوا أحب القدس سلامة، يا بعيد الدار، غني لي شوي، قولي ولا تخبيش يا زين"، وفيلم فاطمة في عام 1948 غنت فيه "أصون كرامتي، الورد جميل، ح اقابله بكرا، يا صباح الخير"، وفيلم دنانير في عام 1940، وفيلم عايدة في عام 1942
وقدمت مسلسل إذاعي "رابعة العدوية" أنشدت فيه عدة أغاني منها (على عيني بكت عيني، الرضا والنور، يا صحبة الأقدار، عرفت الهوى مذ عرفت هواك، لغيرك ما مددت يداً).
وبعد وفاتها مُثلت شخصيتها في العديد من الأفلام والمسلسلات "العندليب حكاية شعب في عام 2006"، الملك فاروق و أنا قلبي دليلى في عام 2007"، وبعض منها تروي قصة حياتها كمسلسل "أم كلثوم الذي انتج في عام 1999"، وفيلم "كوكب الشرق في عام 1999".
 
الأوسمة والألقاب
حصلت أم كلثوم عبر مشوارها الفني الحافل بالعطاء على العديد من الأوسمة منها وسام الرافدين من قبل الحكومة العراقية عام 1946، وسام النهضة من ملك الأردن عام 1975، ووسام الاستحقاق من الدرجة الأولى من الرئيس هاشم الأتاسي، ووسام الجمهورية من رئيس تونس الراحل الحبيب بورقيبة عام 1968، كما نالت في عام 1959 على وسام الأرز برتبة كوماندوز من رئيس الوزراء اللبناني رشيد كرامي.
وكرمت بوسام الكمال من مصر من قبل الملك فاروق، ووسام الاستحقاق السوري، ووسام نجمة الاستحقاق الباكستاني.
كما أطلق عليها العديد من الألقاب "صاحبة العصمة، الست، كوكب الشرق، قيثارة الشرق، فنانة الشعب، الجامعة العربية، شمس الأصيل، ثومة، سيدة الغناء العربي".
وفي عام 2001 أنشأت الحكومة المصرية متحف كوكب الشرق في القاهرة للاحتفال بحياة المطربة وإنجازاتها.
كما وصفتها مجلة نيوزويك في عام 1956 بملكة العرب.
 
رحيلها عن عالمنا
عانت أم كلثوم في صيف عام 1946 من التهاب في الجهاز التنفسي العلوي مما سبب لها مشكلة في الغدة الدرقية، التي تسببت في خفت صوتها وجحوظ عينيها واضطرت لارتداء نظارات سوداء على المسرح، وتعالجت في مستشفى بيثيسدا في الولايات المتحدة الأمريكية لكن عملية شفاؤها استغرقت وقتاً طويلاً.
وأصيبت بمرض التهاب الكلى، مما أدى إلى تدهور حالتها الصحية، فسافرت إلى لندن من أجل العلاج، لكنها توفيت في 3 شباط/فبراير عام 1975، ودفنت في القاهرة وتم تصنيف جنازتها ضمن أكبر ثماني جنازات في العالم.