جميلة بوحيرد... رمز النضال الثوري الجزائري

جميلة بوحيرد من أبرز رموز الثورة الجزائرية وإحدى أكثر النساء شهرةً في الوطن العربي والعالم، ناضلت إلى جانب أبناء شعبها ضد الاستعمار الفرنسي أواخر القرن العشرين.

امرأة شاركت في ثورتين احتجاجيتين خلال قرنين متتاليين، عرفت جميلة بوحيرد برمز النضال الثوري، وحفر اسمها في ذاكرة التاريخ ضمن النساء المناضلات ضد الاستعمار الفرنسي.

خلدت القصائد الشعرية والمغناة بطولة جميلة بوحيرد وكان من أشهرها قصيدة الشاعر السوري الكبير نزار قباني، والمصري صلاح الصبور، والعراقيين بدر شاكر السياب ومحمد مهدي الجواهري.

كما قال عنها الشاعر والناقد المصري أحمد عبد المعطي حجازي في قصيدته بعنوان قديستي "كان اسمك جميلة، أفديه من سمى، الوجه وجه طفلة لم تترك آلاماً، والعين عين ساحرة، مضيئة كحيلة، كأنما اصطادت رموشها الطويلة من السما نحبها"، ووثقت قصتها في أعمال سينمائية عربية منها فيلم "جميلة الجزائرية" للمخرج المصري يوسف شاهين.

من هي جميلة بوحيرد؟

ولدت جميلة بوحيرد في بلدة القصبة التابعة لإحدى ولايات العاصمة الجزائر في عام 1935، لأب جزائري وأم تونسية، وهي الفتاة الوحيدة بين 7 إخوة.

درست في المدارس الفرنسية التي افتتحها الاستعمار على الأراضي الجزائرية لتكون بديلة عن المدارس المحلية، ولحبها لتصميم الأزياء التحقت فيما بعد بمعهد للخياطة، كما أنها أتقنت الرقص الكلاسيكي، وبرعت في ركوب الخيل.

لكنها حملت في قلبها محبة الوطن كما علمتها والدتها التي عملت على إنماء حب الوطن في شخصيتها منذ صغرها.

"الجزائر أمنا"

رفعت جميلة بوحيرد شعار "الجزائر أمنا" رداً على سياسة فرنسا في الجزائر وهي تغيير هوية البلاد وكان ذلك عندما أعلنت رفضها شعار "فرنسا أمنا" والذي كان يجبر الطلاب الجزائريين على ترديده في المدارس.

وحاولت فرنسا خلال فترة استعماره للجزائر من عام 1830 حتى عام 1962 طمس هوية الجزائريين الوطنية، وقد كان الاستعمار يتبع توجه معاداة العروبة، فعملت على محو اللغة العربية وطمس ثقافتهم، وبدأت بإغلاق المدارس والمعاهد. ومع بداية القرن العشرين منع الجزائريون من تعلم اللغة العربية باعتبارهم أنها لغة أجنبية، وعمل على نشر الثقافة واللغة الفرنسية في البلاد، إلا إن الشعب الجزائري لم يتجاوب مع سياستهم وبدء في الانتفاض لثورته.

اتخذت جميلة بوحيرد قرار الانضمام إلى ثورة الجزائر التي اندلعت في عام 1954 وانخرطت في صفوف جبهة التحرير الوطني الجزائري وكانت حينها لا تتجاوز الـ 19 عاماً.

لم تحتاج جميلة بوحيرد إلى التعلم على السلاح لأنها كانت إلى جانب الدراسة قد تعلمت كيفية استخدامه وبذلك استطاعت الانضمام مباشرة إلى حركة المقاومة السرية التابعة إلى جبهة التحرير الوطني عن طريق أحد أشقائها.

وانضمت فيما بعد إلى صفوف الفدائيين، وكانت من بين المتطوعات الأوائل في الفريق الفدائي النسوي المكون من ثلاث فتيات عُرفن عبر التاريخ باسم "جميلات الجزائر" وهن "جميلة بوحيرد، جميلة بوباشا وجميلة بوعزة"، وكانت تتمثل مهامهن في زرع القنابل في أماكن تجمع الجنود الفرنسيين والمستوطنين في العاصمة الجزائر ونقل المعلومات.

أثار نضالها حنق المستعمر الفرنسي فأصبحت على لائحة المطلوبين والمطلوبات لدى المستعمر الفرنسي، وبعد مطاردة دامت 3 سنوات استطاع المستعمر إلقاء القبض عليها في 9 نيسان/أبريل 1957 بعد إصابتها برصاصة في كتفها أثناء تنفيذها عملية تفجير قنبلة موقوتة في ملهى كان يتردد عليه الشبان الفرنسيون الذين كانوا يؤدون خدمتهم العسكرية في الجزائر. 

وقد ضبط معها وثائق ورسائل ومبلغ كبير من المال، دلت على أنها كانت على صلة الوصل مع قائد جبهة التحرير الوطنية ياسف سعدي، ومثل هذا الاعتقال بداية مرحلة معاناة جميلة بوحيرد وانطلاقةً لشهرتها عالمياً.

التعذيب وحكم الإعدام

تم اقتياد جميلة بوحيرد إلى المستشفى على إثر إصابتها بطلق ناري في كتفها، إلا إنه تحول إلى مركز للتعذيب بالنسبة لها، فقد بدأ جنود الاحتلال بممارسة كافة أنواع التعذيب ومنها الصعق بالكهرباء لمدة ثلاثة أيام متتالية في محاولة منهم نزع أي اعتراف منها، إلا أنها بقيت صامدة.

تم تخريجها من المشفى واقتيادها إلى مركز التحقيقات لإكمال الاستجواب، انتهكت خلاله جميع الحرمات فلم يكن أي شيء ممنوع في التحقيقات فخلال شهر كامل تم صعقها بالكهرباء وإطفاء أعقاب السجائر على كافة أنحاء جسدها وخاصة في المناطق الحساسة ما أدى إلى إصابتها بنزيف شديد وانقطاع الحيض عنها، كما وعجزت عن رفع ذراعها اليسرى.

وعلى إثر اعتقالها انطلقت مظاهرات شعبية احتجاجية مطالبة بفك أسرها، وفيما بعد تطورت قضيتها لتصبح قضية عربية وعالمية.

قضت ثلاث سنوات في السجن وبقيت تردد "الجزائر أمنا" وأصبحت جميلة أيقونة الثوار في أفريقيا والعالم العربي من خلال عبارتها التي وجهتها لمعذبيها "أعرف أنكم سوف تحكمون علي بالإعدام، لكن لا تنسوا أنكم بقتلي تغتالون تقاليد الحرية في بلدكم ولكنكم لن تمنعوا الجزائر من أن تصبح حرة مستقلة".

وعندما فشل الفرنسيون في نزع أي اعتراف منها قرروا محاكمتها صورياً في فرنسا وقد تولى المحامي الفرنسي جاك فيرجيس الدفاع عنها، إلا إنه لم يستطع الوصول إلى قرار إطلاق سراحها لأن فرنسا كانت عازمة على التخلص منها فصدر بحقها حكم الإعدام على أن ينفذ في 7 آذار/مارس 1958.  

ونتيجة للضغوط التي واجهتها فرنسا من كافة دول العالم إلى جانب لجنة حقوق الإنسان ومنظمة الأمم المتحدة اللتين عقدتا اجتماعاً بعد تلقيهما برقيات نددت واستنكرت الحكم بالإعدام ومطالبين بالعفو عنها، عدلت فرنسا عن حكم الإعدام ليخفف بعدها الحكم إلى السجن مدى الحياة من خلال شملها في مرسوم الإعفاء عن المحكومين بالإعدام الذي صدر في 18 نيسان/أبريل من ذات العام، وبذلك لقبت بـ "الشهيدة الحية".

رمزاً للثورة

على إثر حصول الجزائر على الاستقلال في عام 1962 بعد سبع سنوات ونصف من الثورة تم الإفراج عن جميلة بوحيرد وبقية رفاقها.

وبعد خروجها عادت إلى الجزائر لترى بأن حلمها قد تحقق بعد كل ذاك الألم ولتستكمل مسيرتها السياسية، واستقبلها العالم والشعب الجزائري بحفاوة كبيرة باعتبارها أحد رموز الثورة الجزائرية.

تزوجت في عام 1965 من المحامي الفرنسي جاك فيرجيس الذي دافع عنها إلى جانب مناضلي جبهة التحرير الوطني والذي اسلم فيما بعد واتخذ "منصور" اسماً له.

وقد قال عنها أستاذ التاريخ في جامعة الجزائر الدكتور مصطفى نويصر "جميلة بوحيرد ليست فتاة خارقة مثلما يتخيل البعض، فعلاً هي رمز للثورة الجزائرية...، وهي كغيرها من الفتيات الجزائريات، أحبت وطنها والتحقت بالثورة دفاعاً عنها".

قدمت جميلة بوحيرد مع المناضلة زهرة بو ظريف في عام 1962 مشروع قانون متطوراً للأسرة، كما ونظمت تظاهرة نسوية لتحقيق مشروعها، إلا أنها فشلت في تغيير الموقف الرسمي للحكومة، لتتجه إلى حياتها الخاصة مصابة بإحباط من فشلها.

دفعها إحباطها إلى أن تقول في عام 1987 باسم المناضلات الجزائريات "لقد تم نسيانهن قبل 25 عاماً" في إشارة إلى تهميش دور النساء ومعاناتهن، إلى جانب نشرها مقالاً في جريدة الوطن الجزائرية عام 2013 معبرةً فيها عن معاناتها، ولاقت على إثر ذلك موجة تضامنية كبيرة من قبل المجتمع الجزائري.

أنجبت جميلة بوحيرد من زوجها المحامي جاك ولدين "لياس ومريم"، وعمل جاك معها على تأسيس مجلة تعنى بالثورات القومية الإفريقية، كما أنها تولت رئاسة اتحاد المرأة الجزائرية، إلا أنها كانت تضطر للنضال في سبيل كل قرار أو إجراء تتخذه نتيجة لخلافها مع الرئيس الجزائري أحمد بن بلة وهو أول رئيس بعد الاستقلال آنذاك نتيجة لآرائها السياسية المعارضة له.

وقبل مرور عامين على استلامها رئاسة الاتحاد قدمت استقالتها وأخلت الساحة السياسية معلنة أنها لم تعد قادرة على احتمال المزيد من الضغوطات السياسية، وتوارت عن الأنظار لعدة سنوات، ليعتقد البعض أنها فارقت الحياة، وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي أنباء عن وفاتها لأول مرة في 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 إلا أنه تم نفي الأنباء فيما بعد.

وفي المرة الثانية قد أعلن عن نبأ وفاتها في إحدى مستشفيات الجزائر في تموز/يوليو 2019 على إثر وعكة صحية ألمت بها، في وقت لم تأكد أية مصادر رسمية تلك الأنباء، وتبين فيما بعد أن النبأ مجرد خبر كاذب بحسب تقارير صحفية جزائرية، وأن جميلة بوحيرد بصحة جيدة بحسب ما جاء في تغريدة على وسيلة التواصل الاجتماعي "تويتر"، وعلقت جميلة بوحيرد على النبأ بأن وسائل التواصل الاجتماعي قد قتلها عدة مرات في الإشارة إلى إعلان موتها.

مشاركتها في احتجاجات 2019

شاركت جميلة بوحيرد التي تعتبر من القلائل الذين أعلنوا معارضتهم لترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لفترة رئاسية خامسة، لأول مرة منذ اندلاع التظاهرات الرافضة في منتصف شباط/فبراير 2019.

وتداول مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي ومشاركون في التظاهرات، صوراً ومقاطع فيديو لجميلة بوحيرد البالغة من العمر 85 عاماً خلال مشاركتها في التظاهرات التي أدت إلى استقالة عبد العزيز بوتفليقة في 2 نيسان/أبريل 2019.

وقد علق الإعلامي الرياضي الجزائري حفيظ دراجي، على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك قائلاً "البطلة المجاهدة جميلة بوحيرد، في الصفوف الأولى مع أبناء شعبها اليوم... سيشهد التاريخ أنك شاركت في ثورتين عظيمتين؛ ثورة التحرير، وثورة استعادة الكرامة".

تقدير عربي وعالمي

حظيت جميلة على تقدير على المستوى الجزائري والعربي والعالمي، وحازت على العديد من الجوائز والأوسمة، كما وسمي أحد أحياء العاصمة العراقية بغداد باسمها "حي جميلة".

وحصلت المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد على تكريم مصري حين زارت مصر مع صديقتها زهرة بو ظريف في عام 1962 حيث تم استقبالها استقبالاً على المستويين الشعبي والدبلوماسي.

واستقبلها الشعب المصري بحفاوة وتم تكريمها في عام 2018 وسط حضور نسائي رسمي رفيع، على هامش حضورها الدورة الثانية من "مهرجان أسوان الدولي لسينما المرأة" الذي حمل اسم المناضلة جميلة بوحيرد.

وقد كرمتها قناة الميادين في عام 2013، خلال زيارتها للعاصمة اللبنانية بيروت لحضور حفلهم التكريمي عن سلسلة "جدارة الحياة".

كما وخصتها الفنانة اللبنانية فيروز، بأغنية تحت عنوان "رسالة إلى جميلة"، وكتب عنها الشاعر نزار قباني قصيدة حملت اسمها عندما حكم عليها الاستعمار الفرنسي بالإعدام قائلاً "جبن الطغاة تجلى في أسر تلك الفتاة... وسوف بالعار منهم نلطخ الصفحات.. يكفي الجزائر فخراً وضوح جبن الطغاة.. اصعدي جميلة قفزاً إلى حبال الجناة.. لا تعبأي بمماة فذاك خير المماة.. ففي القلوب ستبقى ذكراك طول الحياة".

وأخرج المصري يوسف شاهين فيلماً استعرض فيه حيات جميلة بوحيرد ومسيرة نضالها الثوري تحت عنوان "جميلة الجزائرية" اشترك في كتابته وإعداده كبار الروائيين العرب.

وبالرغم من كل ما ذاقته جميلة بوحيرد التي عرفت بوطنيتها والملقبة بـ "الشهيدة الحية" من ويلات وانتهاكات، إلا أنها أكملت مسيرة الثوريات اللواتي سبقنها وكتبت تاريخاً جديداً في بلد المليون شهيد، وقدمت المرأة العربية في أوضح صورة ثورية مناضلة ضد الاحتلال والاستعمار.