جان دارك ... قديسة أورليان العذراء

تعدُّ من أهم الرموز القومية الفرنسية والقديسين في الكنيسة الكاثوليكية، برز اسمها من خلال دورها الهام في حرب بلدها والتي عرفت بحرب المئة عام ضد الإنجليز

مركز الأخبار ـ تعدُّ من أهم الرموز القومية الفرنسية والقديسين في الكنيسة الكاثوليكية، برز اسمها من خلال دورها الهام في حرب بلدها والتي عرفت بحرب المئة عام ضد الإنجليز، جان دارك أو كما تعرف بـ عذراء أورليان.

 

حرب المئة عام وولادة المخلّصة

ظهرت القديسة جان دارك من عامة الشعب الفرنسي في فترة حرجة من تاريخ فرنسا، فمع اندلاع حرب المئة عام بين فرنسا وانجلترا والتي امتدت ما بين عامي 1337 ـ 1453 وسوء الأحداث التي أدت لسيطرة الانجليز على معظم الأراضي الفرنسية، ظهرت جان دارك كمخلصة لفرنسا وشعبها، بادعائها أنها ملهمة من الرب وبأنها تستطيع تخليص فرنسا من الغزو الإنجليزي.

 

نشأتها

ولدت جانيت دارك المعروفة بـ جان دارك والملقبة بعذراء أورليان في السادس من كانون الثاني/يناير عام 1412 في قرية دومريميه شمال شرقي فرنسا، لعائلة ريفية عملت بالفلاحة، كان والداها جاك دارك وإيزابيل روميه يمتلكان ما يقارب العشرين هكتاراً من الأراضي الزراعية ويعملان بها.

كانت جان دارك فتاةً قروية أميّة ترعى أغنام أبيها، إلا أنها تميزت بتمسكها الشديد بالكاثوليكية وذلك بفضل والديها المتدينان، فقد تلقت منهما تربية دينية جيدة.

 

الإلهام الإلهي

بلغت جان دارك في عام 1424 الثانية عشرة من عمرها، وعند تواجدها في أحد الحقول، تخيلت أنها ترى رئيس الملائكة القديس ميخائيل والقديسة كاترينا الإسكندرية والقديسة مارغريت يدعونها إلى تكريس حياتها لتحرير شعبها من غزو الإنجليز وتتويج ولي العهد شارل السابع ملكاً على فرنسا.

لم تتخلص جان دارك من تلك الأصوات التي كانت تلاحقها في كل مكان وفي أي وقت، وعندما أخبرت بعض معارفها بالأمر وصفوا قصتها بالجنون.

 

لقاءها بالملك وبداية مسيرتها التحررية

حملت جان دارك على عاتقها مسؤولية تحرير بلادها وبدأت مسيرتها التحريرية وهي في السادسة عشرة من عمرها، وتوجهت إلى القرية المجاورة لقريتها حيث يوجد قائد الحامية الكونت (روبر دو بودريكور)، لتطلب منه الإذن بالسماح لها بالذهاب إلى البلاط الملكي غرب البلاد لملاقاة الملك شارل السابع وإخباره عن رؤياها، إلا أن طلبها لاقى رفضاً من قبل الكونت واصفاً ما ذكرته بالجنون، لكن عند سماعه لخبر تحقق نبوءتها بالانسحاب العسكري تراجع عن رفضه ووافق على طلبها.

بعد تخطي كافة العراقيل، سافرت جان دارك لمدة 11 يوماً برفقة عدد من الأوفياء المبعوثين من قبل الكونت، متنكرةً بثياب الرجال لملاقاة الملك، وعند وصولها تمكنت جان دارك من التعرف عليه من بين الحاضرين على الرغم من عدم رؤيتها له سابقاً، فقد اتفق الجميع على إخفاء شخصيته عنها كاختبار لها، وعليه اقتنع الملك بها ووافق على تزويدها بجيش لمواجهة الإنجليز، وخلال شهر آذار/مارس 1429 قادت جان دارك العديد من الهجمات لتتمكن في النهاية من إجبار الانجليز وحلفائهم البرغنديين على التراجع وفك الحصار عن مدينة أورليان، وهنا كانت أولى انتصاراتها العسكرية، وعقب هذا النجاح العسكري المذهل، كسبت جان دارك شعبية هائلة لدى الفرنسيين.

 

شرف النبالة

"الشجاعة هي ألا أتراجع" كانت تلك أحد مقولات جان دارك التحفيزية لتكمل مسيرتها في تحرير أجزاء أخرى من فرنسا ونجحت في ذلك، وقدمت نصرها الى الملك شارل السابع الذي توّج في 17 تموز/يوليو 1429 ملكاً شرعياً لفرنسا، وعليه مُنِحَت جان وعائلتها في التاسع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر شرف النبالة.

 

أسرها وخيانة الملك شارل السابع لها

مسيرة جان دارك التحريرية لم تبقى على تلك الحال مليئة بالانتصارات، فقد استطاع الانجليز وحلفاءهم البرغنديين أن يضعوا لها نهاية مأساوية، وذلك عندما وقعت أسيرة بيد البرغنديين في أيار/مايو عام 1430 في مدينة كومبيين شمال فرنسا وهي تقود هجوماً للدفاع عنها كان الملك قد أرسلها لتنفيذ هذه المهمة، حيث كان الملك ينوي لها السوء والرغبة في التخلص منها بعد أن ذاع صيتها، فقد سعى الملك للتخلص من جان دارك أثناء هذه العملية بزعم تعاظم نفوذها، فعندما طلب البرغنديين من الفرنسيين مبلغاً من المال مقابل فك أسر جان دارك رفض الملك شارل أن يدفع، على الرغم من دورها الهام في تنصيبه ملكاً على فرنسا، ونتيجة ذلك قام الانجليز بأخذها مقابل مبلغ كبير من المال.

 

محاكمتها وتعرضها للاعتداء أثناء سجنها

تعرضت جان دارك خلال فترة سجنها وهي في زنزانتها للاعتداء ومحاولة الاغتصاب من قبل لورد إنكليزي كبير بحسب ما قالته لأحد أعضاء المحكمة، ولذلك استمرت بارتداء الملابس الرجالية طيلة فترة سجنها.

في التاسع من كانون الثاني/يناير 1431، حوكمت جان دارك في محكمة الكنيسة في مدينة "روان" بمقر حكومة الاحتلال الإنكليزي، وواجهت أثناء محاكمتها نحو 70 تهمة منها الإلحاد والتعامل مع الشيطان والهرطقة (الانشقاق على المعتقدات المقررة) وممارسة السحر الأسود والشعوذة والتشبه بالرجال، إلى أن صدر قرار الحكم عليها بالإعدام حرقاً وهي حيّة.

 

إعدامها

"يقول الأطفال إن الناس تُشنَق في بعض الأحيان بسبب قول الحقيقة"، لربما تنطبق مقولة جان دارك هذه على نهايتها الحزينة عندما واجهت حكم الإعدام صباح يوم الـ30 من أيار/مايو عام 1431 شامخة الرأس، فقد رُبِطَت على عمود طويل في السوق القديم بمدينة روون في إقليم نورماندي شمال البلاد محاطة بجمع من الناس، غير آبها بالموت، فهي وكما تصف نفسها في أحد أقوالها "أنا لست خائفة، أنا وُلِدتُ لأفعل هذا".

كانت آخر كلماتها قبل إحراقها "قد كنت أظنني مخدوعة"، ثم نُفِذَ بحقها حكم الإعدام حرقاً وهي حيّة لتفارق الحياة في ربيع عمرها وهي في الـ 19 من العمر، وكأن حياتها القصيرة كانت ومضة عابرة أنارت طريق الكفاح للشعب الفرنسي، لتصبح جزءاً مخلّداً من التاريخ الفرنسي والعالمي بأبوابه وتفاصيله المختلفة.

أُحرِقَت جُثَّة جان دارك مرَّتين في سبيل منع الناس من الاحتفاظ بأيِّ أثرٍ منها للتبرّك، ثمَّ رُميَ رمادها في نهر السين.

 

المرأة الشجاعة في نظر النساء الفرنسيات

لطالما كانت نظرة النساء الفرنسيات إلى جان دارك نظرة إيجابية باعتبارها مثالاً للمرأة الشجاعة، لذلك كان للعديد من النساء مواقف هامة في حياتها، منهن والدة الملك شارل السابع (يولاندا الأراغونية) التي مولت رحلتها إلى أورليان.

بالإضافة لـ (جان) عمة كونت لوكسمبورغ، فقد كانت المرأة التي وضعت جان دارك بعهدتها بعد أسرها في مدينة كومبيين، كما ساعدت في تخفيف الأوضاع التي واجهتها جان دارك أثناء الأسر، بالإضافة إلى كونها سبب في تأخير عملية بيع جان دارك للإنجليز.

 

من مشعوذة إلى قديسة

استمرت حرب المئة عام 22 عاماً بعد وفاة جان دارك، وبعد نحو 20 عاماً، أعيد النظر في قضية جان دارك لتتم تبرئتها مما اتهمت به، واعتبرتها حينئذ الكنيسة الكاثوليكية سنة 1456 "شهيدة"، ومن ثم تم تطويب جان دارك عام 1909، وبحلول العام 1920 اعتُبِرَت جان دارك "قديسة".

 

ما بعد وفاتها

تيمناً بجان دارك بعد وفاتها، سُمّيت ثلاث سفن منفصلة في البحرية الفرنسية باسم جان دارك، من ضمنها حاملة مروحيات، كما أن ثاني أحد من شهر أيار/مايو هو عطلة مدنية في فرنسا تكريماً لجان دارك، فيما كتب فيليب ألكسندر عن تاريخ جان دارك، وهو أول مؤرخ يكتب عنها بالكامل، إلى جانب تأليف العديد من الأعمال الفنيّة التي تتحدث عن جان دارك منذ وفاتها سواءً كانت أفلاماً أو كتباً أو غير ذلك.